القاهرة – أحمد حافظ
أثارت صورة لشيخ الأزهر أحمد الطيب وهو يطالع كتابا يحمل عنوان “أفول الغرب” أثناء عودته على متن طائرة بعد رحلة علاج خارجية، جدلا واسعا بين التيار العلماني والمؤسسة الدينية، وانخرطت في هذا السجال قوى إسلامية تسعى إلى استغلال أي احتكاك بين الجانبين لتسجيل نقاط سياسية.
ومنحت المعركة الكلامية التي وقعت بين شخصيات من التيار العلماني وقادة في مؤسسة الأزهر في مصر قبلة حياة لمتشددين دينيا بذريعة أن الطريقة التي تم بها انتقاد شيخ الأزهر أحمد الطيب كانت “سطحية” بعد أن التقطت له صورة وهو يقرأ كتابا يحمل اسم “أفول الغرب” أثناء عودته على متن طائرة من رحلة علاج خارجية.
وعلّق الكاتب خالد منتصر على صورة الطيب عبر حسابه على تويتر “ألف سلامة لشيخ الأزهر بعد عودته من رحلة علاج أو فحوصات في أوروبا، لكن عندي سؤال بسيط وبكل احترام، الكتاب الذي يقرأه فضيلة الإمام في الطائرة الأميركية عنوانه أفول الغرب، هو الغرب الكافر الذي لو أفل وغابت شمس حضارته لن نجد قرص دواء ولا طائرة نعود بها من هناك”.
فتحت تدوينة منتصر، المعروف بأنه أحد رموز التيار التنويري في مصر، الباب على مصراعيه لمعركة كلامية حامية بين علمانيين وأزهريين وبعض العناصر المتشددة الأخرى حتى أن بعض القنوات الإخوانية دخلت على خط الأزمة لتكيل الاتهامات لمن وصفتهم بـ”أعداء الأزهر والإمام الطيب”، وتحدثت عمّا أسمته “محاولات تشويه رأس المؤسسة الدينية لأهداف سياسية وخدمة أهداف حكومية”.
وجددت هذه المعركة الخلاف بين أنصار العلمانيين والأزهر حول مفهوم التنوير، وإلى أي درجة يمكن أن يتحول من مجرد سعي لنشر التحرر الفكري إلى تشدد ووصاية من كل طرف على الآخر، لاسيما وأن قراءة الكتب ليست حكرا على أحد، ولا يفترض أن يُملي أي شخص على غيره، ماذا يقرأ أو يتعلم، لمجرد أنه مختلف معه في الفكر.
دافع الكاتب خالد منتصر عن وجهة نظره مؤكدا في تصريحات لـ”العرب” “لست من السذاجة لأنتقد قراءة كتاب لمجرد العنوان، فأنا لا أنتقد شخصا، بل فكرا، وأنتقد أيضا فكرة سائدة عند المؤسسة الدينية، وهي الخصام مع أعمدة الحداثة الثلاثة، وهي نسبية الحقيقية، ومرجعية العقل، وحرية الفرد، فعندما ينتقد الرأسمالية الغربية المتوحشة وأنا شخصيا أنتقد هذا، فهو ينتقد على أساس البناء هذه الأعمدة الثلاثة، لكن نحن ننتقد من مفهوم إقصائي استئصالي”.
وتابع منتصر “من يقول إن كتابا بشريا هو ثلاثة أرباع الدين ومن ينتقده كافر أو مرتد، فهو يتعارض مع مرجعية العقل، لأن هذا الكتاب يتعارض مع العلم الحديث في أكثر من موقف، وعندما يُقال إن ضرب المرأة ممكن بشرط ألا يُكسر لها ضلع فهذا يتعارض مع حرية الفرد، أو يقال إن المسيحي كافر، وعندما أهاجم أهم نظرية هجوما مكفرا لمن يتبناها، وهي نظرية التطور، إذا أنا على خصام مع الحقيقة العلمية”.
وأضاف الكاتب المصري لـ”العرب” “عندما أصر على أن أدرس في مناهجي (يقصد مناهج الأزهر) أن دية المسيحي أقل من دية المسلم، وليس على الزوج دفع ثمن علاج زوجته والحمل أقصى مدة له أربع سنوات، إلى آخره، فأنا بالطبع على خصام مع هذه الحضارة تماما، ولا أقرأ عن انتقادها بغرض الدراسة، لكن بهدف أن تحل محلها الخلافة الإسلامية التي ذقنا منها الأمرين”.
واستثمرت بعض الأصوات الداعمة بشكل مطلق للأزهر وشيخه الطريقة التي تم التعامل بها مع صورة الطيب وإلى جواره كتاب “أفول الغرب” لدعم موقفها المعادي لكل ما هو تنويري، ورأوا أن الوقوف في وجه أي محاولة لتجديد الفكر والخطاب الديني، فرض عين على المسلم، طالما أن “هذه عقلية من يدّعون أنهم متحضرون ومفكرون ومجددون”، على حد وصف مؤيدين للمؤسسة الدينية.
دخلت على خط الأزمة، أصوات أزهرية وإخوانية وسلفية اعتبرت موقف العلمانيين من شيخ الأزهر، “تزيدا لا يقل خطرا عن التشدد الديني، لأن النقد الجارح والتلميح إلى التطرف الفكري تجاه رأس المؤسسة الدينية، لمجرد أنه يقرأ كتابا لا ينكره الغرب نفسه تجاوز حدود الخلاف التقليدي بين فكر تنويري وآخر ديني، ما أسقط البعض من المزايدين في دوامة التناقض المعرفي بشكل عكس جهلهم”.
وأظهر الخلاف بين التيارين إلى أي درجة وصل العداء بينهما، ما يفسر اختفاء الحكماء لنزع فتيل الأزمة التي جاءت إلى المتطرفين على طبق من ذهب، واستغلها متشددون دينيا للعودة إلى المشهد السياسي في صورة داعمين للأزهر ضد محاولات مستميتة لإسقاطه على يد بعض الداعمين للسلطة في خلافها المستمر مع المؤسسة الدينية.
وقال منتصر لـ”العرب”، مفسرا خفوت صوت التنويريين في مواجهة التشدد الديني في هذه الأزمة “للأسف المزاج السلفي هو الأكثر سيطرة وانتشارا منذ زمن طويل، لذلك كان الصوت الأوضح والأعلى هو صوت المتشددين لأفكارهم ووجهات نظرهم، بعدما اختزلوا الخلاف في شخص، مع أنه خلاف مع فكر”.
وأضاف “شيخ الأزهر له كل الاحترام، ومن حقنا أن نختلف حول الفكر.. نحن لسنا في خصومة مع مؤسسة الأزهر، لكن ضد تيار معين يريد اختطاف الأزهر. عن نفسي، لدّي واحد من أعز أصدقائي أزهري، هو سعدالدين الهلالي وهو أستاذ الفقه المقارن بالأزهر، ودائما ما يتعرض لنقد جارح من داخل الأزهر، بالتالي فالتنويري الحقيقي ليس في خصومة مع أشخاص، بل أفكار”.
ويرى أنصار الأزهر أن نقد الإمام أحمد الطيب على الصغيرة قبل الكبيرة يمنح الفرصة للمتشددين دينيا للوقوف في وجه محاولات تطهير المؤسسة الدينية من العقليات المتحجرة، ويقف حائلا أمام نشر التنوير في المجتمع، طالما أن هناك أصواتا علمانية تمارس حقها في النقد بطريقة أقرب إلى الوصاية والتشدد لأفكارها.
واجتذبت المعركة أنصار كل طرف ليدافع عن وجهة نظر الفصيل الذي يمثله، فهناك علمانيون رأوا أنه كان على شيخ الأزهر أن يكون قدوة لمريديه من الصوفيين ويبادر بعدم الذهاب إلى أهل الذمة في الغرب ليتلقى العلاج في مراكزهم الطبية، وهي الطريقة التي استفزت أنصار الطيب للرد بشكل قوي وصارم على تلك الأصوات.
ودخل أحمد الصاوي رئيس تحرير مجلة صوت الأزهر على خط الأزمة ليكيل الاتهامات للعلمانيين ويصفهم بـ”الجهل”، وأن اهتمام الشيخ الطيب بالقراءة في هذا الموضوع يتواكب مع اهتمام كبير لمفكرين وكتاب ومراكز أبحاث غربية كبرى اهتمت طوال العقد الأخير على الأقل وبكثافة بهذا المصطلح (أفول الغرب)، حتى بات من لا يقرأ تصورات المفكرين والباحثين والفلاسفة عن الأفول أو التراجع الغربي حضاريا هو الرجعي الذي يعيش في غيبوبته الفكرية، ومن يقرأ ويتعمق في هذا الشأن هو التقدمي المواكب للعالم وما ينتجه من أفكار.
وأوضح الصاوي “لم يقرأ شيخ الأزهر في قضية هامشية، ولا في كتاب صراعي يتحدث عن الغرب الكافر والشرق المؤمن، وإنما في دورة حياة الحضارات وأثرها في العرب، مع العلم أن أفول الغرب لا يعني أننا سنفقد الطائرة التي نعود بها من سفراتنا ولا قرص الدواء، فمن حصّلوا القدر اليسير من التعليم يعلمون أن أفول الحضارات لا يقضي على منجزاتها، فقد أفلت الحضارة اليونانية وبقي منجزها الفلسفي، وأفلت الحضارة العربية الإسلامية وبقي منجزها الذي تأسست عليه علوم الرياضيات والطب والفلك والاجتماع”.
وشاركت أطراف أخرى، من بينها الخبير في العلوم السياسية والنائب السابق في البرلمان المصري، عمرو الشوبكي، الذي قال عبر صفحته الشخصية على فيسبوك، “الكتاب ليس سطحيا، ولا يتعامل مع الغرب باعتباره كافرا، والتنوير المطلوب لا يسطّح الأمور ولا يتصيد”، لافتا إلى أنه “إذا كان بعض التنويريين قد قرروا ألا ينقدوا سلبيات أخرى فعلى الأقل لا يعتبرون أن الأزهر وشيخه هما المسؤولان عن كل مشاكلنا”.
ويرى مراقبون أن أزمة صورة الطيب مع كتاب “أفول الغرب”، عكست بشكل واضح أن تقريب المسافات بين العلمانيين والأزهريين صعب المنال، بعدما انحرف مسار النقد الهادف، حتى صار سطحيا عند بعض الأصوات داخل المؤسسة الدينية التي لديها الكثير من الأدوات والنفوذ لتقف في وجه أي علماني يبارزها وحيدا، دون أن تقف خلفه مؤسسة معلومة رسمية أو غير رسمية.
ويشير هؤلاء المراقبون إلى أن تحريف الأزهريين للخلاف مع العلمانيين وتحويله من فكري إلى شخصي يستهدف الإمام الطيب يقود إلى اتساع الفجوة في مصر، ويعيد الاستقطاب الديني بشكل ينعش آمال تيارات متشددة في العودة إلى المشهد، بحجة مساندة الأزهر على اعتبار أن مزاعم إسقاطه حرب ضد الدين تستدعي الوقوف ضدها.
المصدر العرب اللندنية