غفران يونس
سوريالية المشهد العراقي تتكرر باستمرار، ولن يكون آخر مشاهدها ما حدث ليلة الـ29 من أغسطس (آب)، فبعد أن أعلن زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر اعتزاله السياسة وإضرابه عن الطعام لحين توقف العنف، عاد في اليوم التالي الـ30 من أغسطس، ليظهر في كلمة متلفرة مدتها خمس دقائق يمهل فيها أنصاره مدة ساعة للانسحاب تماماً من محيط المنطقة الخضراء وإنهاء كل مظاهر الاعتصام التي دعا إليها سابقاً، واستجاب الأنصار للكلمة المتلفزة بعد ليلة تعالت فيها أصوات السلاح مخلفة قتلى وجرحى.
أسس مقتدى الصدر “جيش المهدي” في أواخر عام 2003، وما إن بدأت رحى الحرب الطائفية تدور في العراق دخل “جيش المهدي” مساهماً في حملات القتل الطائفي.
في عام 2005 قرر الصدر خوض الانتخابات ضمن قائمة “الائتلاف العراقي الموحد”، وفي عام 2007 جمد أنشطة “جيش المهدي”، ليعود في عام 2014 لاستئناف النشاط العسكري للتيار ويؤسس “سرايا السلام”، وهي فصيل مسلح قاتل تنظيم “داعش”.
مع انطلاق تظاهرات عام 2016، دخل مقتدى الصدر واعتصم بنفسه داخل المنطقة الخضراء، فيما انتشر أتباعه على بوابات المنطقة، ووقتها وجه أنصاره إلى عدم التحرك منها بالقول “أيها المعتصمون الأحبة سأدخل المنطقة بمفردي ومن معي فقط. أنا اعتصم داخل (الخضراء) وأنتم تعتصمون على أبوابها. وما أحد يتحرك منكم”.
“لا تراجع.. لا دماء.. لا استسلام”، هي الشعارات التي رفعها أتباع الصدر وقتها، لكنه عاد أيضاً وأنهى الاعتصام داعياً إياهم إلى إنهائه كذلك، بعد أن قدم رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي التشكيلة الوزارية الجديدة لمجلس النواب التي قال الصدر إنها “مشجعة وثمرة من ثمار الاعتصام”.
عراق الأزمات
يتساءل الصحافي والكاتب العراقي كرم نعمة “لماذا على العراقيين تصديق أن مقتدى الصدر رجل دولة وليس جزءاً من الخواء السياسي والطائفي المستمر في البلاد منذ عام 2003؟”.
ويضيف نعمة “بمجرد فوز التيار الصدري في الانتخابات البرلمانية نهاية العام الماضي كتبت في مقالة موسعة ما يشبه التساؤل، مستخلصاً إجابة مبكرة مفادها بأن مقتدى لم يكن حلاً، وأن تياره لن يزيد العراق إلا محناً، واليوم تبدو الإجابة أكثر وضوحاً، فالصدر الذي فشل في إدارة فوزه في الانتخابات البرلمانية، يعجز من جديد عن استثمار فشله في محاولة قلب العملية السياسية على رؤوس مشيديها، لأنه بالأساس جزء من طبقة سياسية انتهت صلاحيتها بالنسبة إلى العراقيين”.
ويعزو نعمة خروج الجماهير الصدرية للاحتجاج إلى الاستياء الكامن من طبقة سياسية وطائفية فاشلة جعلت هذه الجماهير تعاني الحرمان والتجهيل وفقدان الأمل.
مغازلة الفقراء
يرى الباحث في علم النفس السياسي والاجتماعي حيدر الجوراني أن مقتدى الصدر يكتسب طاعة أتباعه بسبب رمزية والده محمد محمد صادق الصدر، كما أن مقتدى نفسه استثمر ذلك الإرث “العقائدي – العاطفي”، وعمل على استدامة التواصل الانفعالي مع أتباعه كجمهور، وهو ما تفتقده الطبقة السياسية من أحزاب وتيارات.
في السياق، يؤكد الكاتب والصحافي وقاص القاضي أنه على الرغم من أن طابع المجتمع العراقي ليس دينياً، فإن مقتدى الصدر تمكن من صعود سلم السياسة على أكتاف عائلته “آل الصدر” واكتسب شعبية واسعة مكنته من تحريك الشارع حين تبنى منذ أول ظهوره له دعوات غازل فيها مشاعر الفقراء والمعدمين، فضلاً عن استغلاله مشاعر الحنين لدى الجماهير الغاضبة والناقمة من فساد السلطة لزمن حكم “الديكتاتورية”، والرغبة في رؤية قائد قوي يراهنون عليه لانتشالهم من بؤسهم.
القاضي يوضح أن “اعتصام الصدر داخل المنطقة الخضراء عام 2016 ودعوته إلى تشكيل حكومة تكنوقراط من دون انتماءات حزبية أو طائفية، وهو مطلب شعبي، كان الحدث الأبرز في تاريخه السياسي، إذ زاد من شعبيته في الشارع قبل أن يذعن كعادته لرغبات الأحزاب ويوافق على حكومة توافقية، ولعل اضطراب الذهنية العاطفية الغالبة على أنصار التيار كانت سبباً في تقبل وتبرير تقلبات مقتدى وتناقضاته، ليبقى على الرغم من ذلك رقماً صعباً في المعادلة السياسية في العراق”.
هوية المرجعيات
يقول الجوراني إن “هناك تحولاً في نمط المزاج السيكوسياسي للجمهور الصدري إلى هوية سياسية بلورتها عوامل عدة، أهمها بزوغ الهوية الوطنية على الهوية الإثنية بعد احتجاجات تشرين، وهذا ما جعل الوعي الجمعي يميل في المرجعية الهوياتية إلى المراجع الشيعية الكبيرة، مما يمنح عاملاً هوياتياً عاطفياً لأصول آل الصدر العربية، وهذه الهوية السياسية أدت إلى مأسسة (التيار الصدري) وجعله فاعلاً سياسياً على الأرض، إضافة إلى سمة التيار العقائدي”.
ويكمل الجوراني أن “تصريح الحائري ودفعه الجمهور الصدري إلى تقليد خامنئي قد يوجع تلك الهوية السياسية الممزوجة بمزاج عقائدي يتمحور ضمن هوية وطنية غير قابلة لعبور حدود العراق، وهذا ما قد يحتم إضافة تماسك في العلاقة بين الجمهور ومقتدى نفسه، فضلاً عن تعاطف من هم خارج التيار مع توجهاته السياسية”.
يرى الصحافي مصطفى كامل أن “معرفة الأسباب الحقيقية لقرار مقتدى الصدر بالانسحاب تدفعنا إلى فهم التداخل العميق بين السياسي والديني في قرارات المنظومات السياسية الشيعية من جهة، وعلينا أن نفهم من جهة ثانية مدى عمق ارتباط هذه المنظومات على اختلافها بالمؤسسات الإيرانية، دينية وسياسية واستخباراتية”.
يوضح كامل أن “قرار الصدر بالانسحاب إنما جاء بناء على أوامر قاطعة من مرجعه المقيم في قم الإيرانية كاظم الحائري الذي أعلن اعتزاله قبل أيام، ولم يكن أمام الصدر سوى الامتثال لأوامر مرجعه بصرف النظر عن الكلفة السياسية والشخصية التي سيدفعها من جراء هذا القرار، فالمرجع يجب أن يطاع بصرف النظر عن طبيعة ما يصدر عنه من قرارات”.
إيران تضبط الجميع
في حديثه عن الصراع بين “الإطار التنسيقي” و”التيار الصدري” يرى مصطفى كامل أنه “صراع على المصالح والنفوذ والمكاسب في العراق، وإيران هي من يضبط هذا الصراع متى ما اندلع خلاف بين الطرفين، وحتى لو استخدم السلاح فإن إيران بسطوتها على المنظومات السياسية والدينية الشيعية ستضبط الجميع في النهاية، ولا حديث عن معركة فاصلة قادمة”.
ويختم كامل بالقول إن “مقتدى الصدر باع أتباعه بالجملة لعلي خامنئي، طبقاً لأوامر وفتوى مرجعه الحائري، وعلينا أن نغلق باب الحديث حول وجود ميليشيات ولائية وأخرى عراقية، فقد بات الجميع ولائيون الآن”.
عن “اندبندنت عربية”