رسلان عامر
كاتب سوري
طرح هذا الموضوع لا يتغيّا قطعاً الدخول في أيّ جدل من النوع المعتقدي، والغاية الرئيسة منه هي غاية معرفية، تندرج في السعي لتسليط الضوء على الجوانب المختلفة في الواقع الإنساني في الغرب المعاصر، الذي يحتل بشكل عام موقعاً رائداً في مستويات الحضارة الحديثة، لكن هذا لا يعني قطعاً أنّ هذا الغرب قد حلّ كل مشاكله الإنسانية، فمثل هذا التصور بعيد بعداً قصياً عن حقيقة الحال، واليوم يبدو واضحاً للجميع أنّ الغرب المعاصر يعاني معاناة حقيقية على صعد شتى، من أهمها طغيان الثقافة المادية الاستهلاكية على أسلوب حياته، وهذا يؤدي في المحصلة إلى انتشار حالة من ثقافة اللاثقافة والرؤية العبثية للحياة في هذا الغرب الحديث.
ما لا شك فيه أنّ قيمة حياة الإنسان ترتبط بشكل جوهري بمغزى أو بمعنى هذه الحياة، فإن افتقدت لمثل هذا المغزى، أصبحت حياة عبثية فارغة.
مغزى الحياة بدوره لا ينفصل عن نظرة الإنسان للحياة وفهمه الخاص لها، وهذا ما تلعب الدور الرئيس فيه أفكاره ومعتقداته ومعارفه، ولذا يختلف مفهوم الحياة ومغزاها بين الأشخاص المختلفين، ليس في شخصياتهم وحسب، بل الأهم من ذلك في أفكارهم ومعتقداتهم ورؤاهم التي تشكّل القاعدة الرئيسة التي تقوم عليها حياتهم، وتكتسب من خلالها مغزاها ومعناها.
هذا الموضوع يحظى اليوم باهتمام العديد من الفلاسفة والمختصين في العلوم الإنسانية في المجتمعات المعاصرة الأكثر تقدماً، ولاسيّما مع ما أحدثه التقدم العلمي والتطور الاجتماعي الحديثان من متغيرات كبيرة في أفكار ومعتقدات الناس على شتى الصعد، ومنها بالتأكيد مسألة “مغزى الحياة” الجدّ جوهرية في حياة الإنسان، وهذا الأمر اليوم ليس موضوع نقاشات نظرية وحسب، بل بات موضوع دراسات واقعية ميدانية يقوم بها مختصون في العلوم الإنسانية.
أهمية مفهوم “مغزى الحياة”
عن مشكلة فقدان مغزى الحياة في المجتمعات الحديثة يقول الفيلسوف الروسي إيڤان إيليين (I.A. Ilyin) (1883-1954م.): «إنّ مصيبة الإنسان المعاصر عظيمة: إنّه يفتقر إلى الشيء الرئيس – معنى الحياة».
وعن انعكاسات فقدان المغزى على حياة الإنسان يقول مؤرخ الفن والكاتب الروسي المعاصر ألكسندر ڤاسيلييڤ (Aleksandr Vasilyev): «لا أحد منا يحب العمل الذي لا معنى له… إذا طُلب منّا القيام بمثل هذا العمل، فإنّنا نشعر بالاشمئزاز حتماً، ويتبع الاشمئزاز اللامبالاة والعدوان والاستياء وما إلى ذلك»، ويضيف ڤاسيلييڤ عن أهمية فهم الإنسان لمغزى حياته: «إنّ الرغبة في فهم الغرض من دخول المرء إلى هذا العالم هي التي تميز الإنسان عن الحيوانات. الإنسان هو أسمى الكائنات الحية، فلا يكفيه أن يأكل ويتكاثر. من خلال قصر احتياجاته على وظائف الأعضاء فقط، لا يمكن أن يكون سعيداً حقاً. بوجود معنى للحياة، نحصل على هدف يمكننا السعي لتحقيقه. معنى الحياة هو مقياس لما هو مهم وغير مهم، وما هو مفيد وما هو ضار لتحقيق هدفنا الرئيس. إنّه بوصلة تبين لنا اتجاه حياتنا»؛ ويتابع ڤاسيلييڤ الكلام عن الآثار السلبية والخطيرة لفقدان المغزى في حياة الإنسان فيقول: «يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، نتجول في طرق مسدودة بلا مخرج. في النهاية، تقودنا هذه الرحلة الفوضوية إلى اليأس، والآن، عالقين في طريق مسدود آخر، نشعر بأنّنا لم نعد نملك القوة أو الرغبة في المضي قُدماً. نحن نفهم أنّنا محكوم علينا طوال حياتنا بالسقوط من طريق مسدود إلى آخر. ومن ثم تبرز فكرة الانتحار. في الواقع، لماذا تعيش إذا لم تتمكن من الخروج من هذه المتاهة الرهيبة في أيّ مكان؟».
الفكر المادي وتأثيره على مفهوم “مغزى الحياة”
في الفكر المادي الوجود ككل، بما فيه الإنسان، هو عبارة عن وجود مادي محض، وهو مؤلف من كيانات مادية بالكامل، وليس في الكون ككل أو في أيّ من هذه الكيانات شيء غير المادة.
وهذا الفكر أصبح اليوم واسع الانتشار في العالم المعاصر، ولا سيّما في المجتمعات الصناعية المتقدمة، والغربية منها بشكل أخص، فما هو انعكاس مثل هذا الفكر على مفهوم “مغزى الحياة”؟
بهذا الشأن يقول الفيلسوف الأمريكي المعاصر أليكس روزنبرغ (Alex Rosenberg)، أستاذ الفلسفة في جامعة ديوك: بما أنّ الكون المادي المرئي هو كل ما هو موجود، فإنّ حياة الإنسان لا معنى لها، وبدوره يقول الفيلسوف الأمريكي مايكل إم. پرينزينڠ (Michael M Prinzing) الباحث في جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل: إنّ فلاسفة مثل فريدريك نيتشه، وروائيين مثل فيودور دوستويفسكي، وعلماء اجتماع مثل إميل دوركهايم، توقعوا منذ القرن الـ19 أنّ الاتجاهات المجتمعية المبتعدة عن الدين ستؤدي إلى أزمة في المغزى.
أمّا عالم الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ (Stephen Hawking) (1942-2018م.)، فيقدّم لنا صورة شديدة القتامة للدركة التي تسقط إليها قيمة الإنسان في الوجود عندما يسود هذا النمط من الفكر، فمعرفة هوكينغ بعظمة الكون المادي أوصلته إلى خلاصة مفادها أنّ البشرية هي “مجرد حثالة كيميائية على كوكب متوسط الحجم، يدور حول نجم متوسط جداً في الناحية الخارجية لمجرة واحدة من بين (100) مليار مجرة”.
هذا الرأي الذي يقدّمه هوكينغ يلتقي تماماً مع ما يطرحه روزنبرغ عن انعدام معنى حياة الإنسان عندما يكون الكون المادي هو كل ما هو موجود، ويكون فيه الوجود الإنساني بتلك التفاهة التي يصفها هوكينغ، فأيّ قيمة هنا يمكن للإنسان أن يعطيها لحياته، وأيّ مغزى يمكن أن يجده في هذه الحياة التي يحياها بكيانه المادي المتواضع الفاني لمدة جد قصيرة من الزمن، في عالمه الهامشي كونياً، الذي يوجد فيه مليارات النسخ من الكيانات المماثلة، ثم يزول بعدها، كما تزول النملة والذبابة؟
مفهوم “مغزى الحياة” في المعتقدات الدينية
في المعتقدات الدينية يصبح الوضع مختلفاً بشكل جذري، فالوجود لا يعود مجرد وجود مادي وحسب، والإنسان لا يعود مجرد كائن تافه في الكون المادي العظيم الكبر، الذي يتبع قوانينه المادية بشكل أعمى، ولا يبالي بوجود الإنسان، الذي ظهر فيه بـ “المصادفة”، ولا يهتم بمصيره، أو يأبه لآماله وطموحاته، أو يكترث لمآسيه وآلامه.
في الدين ليس الإنسان مجرد كائن مادي ظهر بالمصادفة في كون أعمى، هو الآخر وليد المصادفة، فمحل المصادفة تحلّ المشيئة الإلهية، والله هو خالق الإنسان، الذي لم يخلقه عبثاً؛ ومحل اللامبالاة الكونية بحياة الإنسان تحلّ العناية والرعاية الإلهيتان؛ ومحل العماء الكوني الذي لا يبصر وجود الإنسان هناك الإرادة الإلهية التي تهتم بالإنسان وتريد له الخير الأكبر؛ وبدلاً من الوجود الفاني العابر، هناك الحياة الأبدية؛ وهناك النعيم الذي يعوض كل الشقاء والألم؛ وهناك العدالة الإلهية التي تقتص من كل ظلم وظالم، وتثيب كل صلاح وصالح.
والفرق هائل كما نرى بين موقع ووضع الإنسان في الدين ونظيريهما في المادية!
وما لا شك فيه أنّ شخصاً لديه مثل هذا المعتقد الديني، لا يمكن أن يفكر أو يحس يوماً بأنّ حياته عديمة المغزى أو فاقدة المعنى، بل يمكن القول إنّ مثل هذا السؤال لا يكون مطروحاً لديه، لأنّ فكرة مغزى ومعنى الحياة تكون بالنسبة إليه جلية وقوية بما يكفي لأن تقصي نقيضها المتمثل بغياب أو مجهولية المعنى والمغزى في الحياة، ومن ثم، لا يمكن للعبثية أن تجد طريقها إلى حياة مثل هذا المؤمن، الذي يستطيع أن يعيش حياته في منأى عن أخطارها وفي مأمن من آثارها.
عن أهمية دور الدين في إيجاد مغزى للحياة عند الإنسان، يقول مايكل إم. پرينزينڠ، الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه: إنّ “البحث العلمي دعم باستمرار فكرة أنّ المعنى المدرَك للحياة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدين، فقد وجدت إحدى الدراسات في السبعينيات أنّ الراهبات سجلن درجات أعلى في مثل هذه المقاييس من الناس العاديين، وفي الآونة الأخيرة وجدت دراسة نُشرت في عام 2021 أنّ المؤمنين يعلنون أنّ لديهم معنى للحياة أكثر من الملحدين، ووجد العديد من الدراسات الأخرى أنّ التديّن يرتبط ارتباطاً إيجابياً بالمعنى المدرَك للحياة”.
كيف تؤثر المعتقدات الدينية بشكل إيجابي على مفهوم “مغزى الحياة”؟
يقول عالم الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكي إرنست بيكر (Ernest Becker) (1924-1974م.): إنّ الإيمان الديني يحمي الناس من الاستنتاج القائل إنّ الإنسانية غير مهمة من الناحية الكونية.
ووفقاً لمايكل إم. پرينزينڠ يعطي الدين الإنسان الإحساس بالأهمية على صعيدين؛ هما الصعيد الاجتماعي، والصعيد الكوني، وهذا ما يطلق عليه پرينزينڠ تسميتي “فرضية الأهمية الاجتماعية” و”فرضية الأهمية الكونية”، وهما الفرضيتان اللتان تفسّران برأيه أهمية الدين في حياة الإنسان.
تعني الأهمية الاجتماعية تلك الأهمية التي يشعر بها الإنسان المؤمن من خلال اندماجه واشتراكه في جماعة من المؤمنين الذين يشاركونه المعتقد نفسه، ويصف پرينزينڠ الرابطة المعتقدية التي تجمع بين أصحاب المعتقد الواحد بـ “الغراء الاجتماعي”، ومن خلال هذه الرابطة يحس كل فرد من هذه الجماعة المؤمنة بأنّه شخص مهم في هذه الجماعة ومهم لبقية أعضاء هذه الجماعة، وهكذا ينشأ شعور مشترك من الأهمية الاجتماعية المتبادلة بين أعضاء الجماعة، تجعل كل واحد منهم يحس فيها بأهميته للجماعة ككل وللآخرين من أعضائها، وهذا ما يعطي لحياته معنى ومغزى يتمثل بأهميته بالنسبة إلى الناس الآخرين، وهذا مهم جداً للإنسان، ويجعله يخرج من فردانيته ووحدته وغربته ولا مبالاته وأنانيته، ليصبح شخصاً ذا انتماء اجتماعي وفاعلاً اجتماعياً يهتم بالآخرين ويشاركهم في قضايا حياتهم المختلفة.
أمّا الأهمية الكونية، فهي تعني شعور الإنسان بأنّه شخص مهم كونيّاً، وليس مجرد كائن مادي صُغري عديم الشأن في كون مادي ضخم لا يرى وجود الإنسان، وتأتي هذه الأهمية من خلال الارتباط بين الإنسان والله، ومن خلال إيمان الإنسان بأنّ الله الذي خلقه لم يخلقه عبثاً، وهو يهتم لأمره ويهتم به، وأنّ مصيره مرتبط بإرادة الله ومحبته وكرمه، وليس خاضعاً لكون مادي لا يعي ولا يبصر ولا يبالي.
ووفقاً لـ (4) دراسات تناولت العلاقة بين التدين والمعنى المدرك للحياة عند الإنسان، أجراها پرينزينڠ مؤخراً بالتعاون مع عالمتي النفس پاتي ڤان كاپيلين (Patty Van Cappellen)، مديرة مركز البحوث السلوكية بجامعة ديوك الأمريكية، وباربرا إل. فريدريكسون (Barbara L Fredrickson) الأستاذة الأمريكية في قسم علم النفس، والباحثة الرئيسة في مختبر العواطف والفيزيولوجيا النفسية الإيجابية بجامعة نورث كارولينا في تشابل هيل، وقد شملت هذه الدراسات أكثر من (3) آلاف مشارك من جميع أنحاء الولايات المتحدة، وهي بالطبع ليست الدراسات الوحيدة في هذا الميدان والميادين القريبة منه، فقد أكدت هذه الدراسات وجود ارتباط بين مغزى الحياة المدرك عند الإنسان والتديّن عبر كلٍّ من الأهميتين الاجتماعية والكونية المرتبطتين بدورهما بالدين، ولكنّها بينت أيضاً رجحان الأهمية الكونية على الأهمية الاجتماعية في هذا الارتباط.
وبرأي پرينزينڠ، فإنّ الأهمية الاجتماعية يمكن بشكل ما تعويضها من خلال أشكال أخرى من التنظيم الاجتماعي غير الديني، أمّا الأهمية الكونية، وهي الأهم، فمن المشكوك فيه أن يستطيع المجتمع العلماني أن ينتج فيها بدائل لما يقدّمه الدين على هذا الصعيد، ما يعني أنّ الدين قد يكون مصدراً فريداً للمعنى المدرك للحياة، وفقاً لكلامه.
خلاصة
ممّا تقدّم يتبين لنا أهمية الدور الذي يلعبه الدين في التأثير الإيجابي على مفهوم “معنى الحياة” عند الإنسان المعاصر، الذي بات فقدانه يشكّل مشكلة لها انعكاساتها الخطيرة على الفرد والمجتمع في المجتمعات الصناعية المعاصرة التي تطورت بشكل ابتعدت فيه عن الدين.
مثل هذه المشكلة لها وضع مختلف بالطبع في المجتمعات المتدينة الراهنة، حيث ما يزال الدين قادراً بشكل عام على إعطاء أجوبة كافية للمؤمنين في ما يتعلق بقضية “معنى الحياة”.
وعند النظر في البحث الدائر في المجتمعات الغربية المعاصرة بشكل رئيس حول هذه القضية، يصبح مفهوماً بالنسبة إلينا سبب عودة الناس فيها للاهتمام بالدين بشكل واضح، وهذا ما يطلق عليه بعض الباحثين والمفكرين تسمية “ما بعد العلمانية”، وهذا الأمر يرتبط بالدور المهم الذي يمكن للدين أن يلعبه في حياة الإنسان، والذي ربما يكون فريداً -كما يقول پرينزينڠ- في مواجهة العبثية وانعدام المعنى اللذين يتفشيان في العالم المعاصر.
نقلاً عن حفريات