علي نوار
كاتب ومترجم مصري
ترجمة: علي نوّار
يعيش الشعب التتري في مجموعات عدة موزّعة على بلدان مختلفة، ويشكّلون أغلبية سكانية في جمهورية تتارستان الروسية، التي تدافع سلطاتها عن القومية التترية، أو النظرة إلى التتار باعتبارهم مجموعة واحدة. ويعدّ هذا هو الموقف الرسمي للمؤتمر العالمي للتر، رغم أنّ الدليل الجيني والتاريخي يفنّد ذلك. بيد أنّه يمكن النقاش بشأن الأصل المشترك للمجموعات التترية المختلفة، لكن من الواضح أنّها لا تتشارك جميعاً المصير ذاته.
هناك أكثر من فرضية حول الجذور الاشتقاقية لكلمة تتر أو تتار لكن لم يتسنّ إثبات صحة أيٍّ منها. كما أنّه لا توجد أرقام دقيقة، على الرغم من أنّ التقديرات تشير إلى أنّ هناك 6 ملايين تتري في جميع أنحاء العالم، يعيش 5 ملايين منهم في روسيا؛ حيث يمثّلون 3.87% من إجمالي تعداد السكان، دون احتساب الذين يعيشون في شبه جزيرة القرم، ويعيش نصفهم في الجمهورية التي تأسّست من أجلهم وهي تتارستان.
ولا يُعتبر التتار مجتمعاً متجانساً؛ بل ينقسمون إلى مجموعات تنحدر منها مجموعات فرعية لا يجمعها أصل جيني أو مصير مشترك. فبينما تمكّن التتار الذين يعيشون بالمناطق الوسطى من الأراضي الروسية من الحصول على إقليم ذاتي الحكم، ما انفك تتار شبه جزيرة القرم يعانون الملاحقة.
ولعلّ السبب الرئيس وراء استحالة الوقوف على عدد التتار على مستوى العالم لا يكمن في عدم وجود إحصاء، بل في ذاتية مفهوم الهوية، لا سيما أنّ روسيا دولة متعدّدة القوميات حيث يمتدّ مفهوم المواطنة ليشمل جنسيات مختلفة دون أن يعني ذلك إسقاط امتيازات المواطنين. علاوة على أنّ التمازج بين العرقيات العديدة أسهم في حدوث خليط محتوم وتداخل الأعراق تاريخياً.
أصل غير معلوم وقيام الدولة
في كثير من الأحيان يسقط التاريخ فريسة للأيدولوجيا، وقد حدث ذلك مع التتار. ويتباحث المؤرّخون حول أصل التتار ويربطونه بشعوب مختلفة. وتوجد ثلاث نظريات حول أصل التتار: الأولى أنّهم ينحدرون من أصول بلغارية، والثانية أنّهم من أصول تتر-تركية، والثالثة أنّهم من أصول تترية-منغولية. تتشارك الفرضيات الثلاث جوانب عدة لكنّها تختلف بشأن الدور الذي تمنحه كل واحدة منها للأطراف الخارجية في صياغة الهوية التترية.
وفي حالة فرضية الأصل البلغاري، يجب الأخذ في الاعتبار أنّ دولة بلغار الفولجا أو مملكة الصقالبة أو البلقار التي ظهرت في القرن الثامن لم تكن لها هذه الصلة الوثيقة بدولة بلغاريا الحالية. فمن الناحية الجغرافية كانت دولة بلغار الفولجا موجودة شرقي جبال الأورال والتي منحت لاحقاً النهر اسمه. وطبقاً لهذه النظرية، فإنّ سكان هذه الأرجاء، التي تقوم بها في يومنا هذا جمهورية تتارستان، أقاموا حضارة خاصة بهم لم تشهد تغيّرات كبيرة منذ القرن الثامن. وأطلقت الشعوب المجاورة لسكان بلغار الفولجا عليهم تسمية التتار، وهو المسمّى الذي وافق عليه بعدها بقرون التتر.
وفي الحقيقة، فإنّ هذه الرواية تسمح بالتحقق من كون التتار السكان الأصليين لتتارستان، وأنّ ثقافتهم تطوّرت بدون تدخّلات عظيمة التأثير من ثقافات أخرى أو من القبيلة الذهبية أو مغول الشمال أو مغول القبجاق، وهي دولة مغولية كانت قائمة على أجزاء من أراضي روسيا وأوكرانيا وكازاخستان بعد تفكّك الإمبراطورية المغولية في القرن الثالث عشر، وتصبّ الرواية بالتالي في صالح الأرض والاستقلالية، باعتبار التتر سكاناً أصليين، ورغم اعتماد الاتحاد السوفييتي لرواية الأصل البلغاري بشكل رسمي، إلّا أنّ هذه الفرضية أصابها الوهن في الوقت الحالي.
أما فرضية الأصل التركي فتتضمّن نشأة الشعب التتري في القرن السادس مع روابط وثيقة بالقومية التركية. وتضفي قدراً كبيراً من الأهمية على الدور الذي لعبته العرقيات التركية القريبة ومغول القبجاق في وجود شعب بلغار الفولجا الذي اضطر لاستبدال طريقة الكتابة الخاصة به من الأبجدية الرونية إلى الأبجدية العربية والتحول للإسلام في عام 922. وبعد اختفاء مغول القبجاق، انقسمت الأراضي التي كانت تخضع لسيطرتهم إلى ممالك (خانات) تترية وحدث نوع من الشتات لعدد من مجموعات التتر التي وصلت إحداها إلى شبه جزيرة القرم. ونظراً للأصل المشترك، يتحدّث التتر جميعاً نفس اللغة وتجمعهم تقاليد متماثلة إلى حد بعيد.
تختلف النظرية الثالثة عن سابقتيها في أنّها لا تنسب ميلاد شعب التتار إلى منطقة الفولجا بل بعيداً عنها للغاية. يجرى تصوير التتر والمغول على أنّهم قبائل بدوية من أواسط آسيا تم توحيدها لتوجّه أنظارها صوب أوروبا. وتحت هيمنتها، تعرّض سكان جمهورية تتارستان الحالية لاستبدال لغتهم وثقافتهم بلغة وثقافة الغزاة الذين تخلّوا عن طابع الحياة البدوية. كان التتر المغول وثنيين في البداية قبل أن اعتناقهم الإسلام ثم انتهى بهم الحال كعرقية. استغلّ المبشّرون الأرثوذكس في القرن التاسع عشر صورة التتر كغزاة أجانب لأنها كانت تمنحهم الشرعية لرفض الإسلام باعتباره ديناً وافداً. إلّا أنّ هذه الفرضية هي الأضعف نظراً لعدم توافقها مع الدراسات الجينية التي أجريت في الأعوام الأخيرة وهي مرفوضة من قبل التتار الذين يرون أنها تشوّههم.
لا يعيش التتار اليوم فقط في روسيا، حيث يمثّلون ثاني أكبر مجموعة عرقية بعد الروس، بل إنّ كازاخستان وأوزبكستان تشهدان وجود ما يربو عن 400 ألف تتري. كذلك في أوكرانيا، حيث كان دونيتسك هو الإقليم الذي يعيش فيه العدد الأكبر من التتر عام 2001، رغم أنّها كانت مجموعة مختلفة عن تلك التي كانت تسكن القرم. وبعيداً عن إطار ما بعد السوفييتية، تأتي دول تركيا والولايات المتحدة والصين على رأس الوجهات المُفضّلة للتتر، رغم أنّهم كانوا وما يزالوا يشكّلون أقليات فيها.
على ضفة نهر الفولجا تقوم مدينة كانت تترية قبل أن تصبح روسية، إنّها كازان. وفي العام 2005 احتفلت هذه المدينة وبصورة رمزية بمرور ألف عام على تأسيسها، حتى ولو لم يكن ثمة تاريخ معروف لنشأتها. وهناك أساطير حول نشأة المدينة يمتزج في أغلبها التاريخ مع السحر، وأبرزها تلك الأسطورة التي تقول إنّ شعباً بلا أرض استعان بساحر كي يشير عليهم ببقعة يسكنوها. وأمرهم الساحر بالبحث عن مكان لدفن جرة تحوي ماء ولا تكون ثمة حاجة لإيقاد النار كي تغلي. أصبح هذا المكان هو مدينة كازان.
وكازان اليوم هي عاصمة تتارستان، إحدى 85 جمهورية فيدرالية في روسيا الاتحادية، وما تزال منزلاً يجمع التتار. وضمّت الإمبراطورية خان التتر عام 1552 وبالسيطرة على كازان من قبل إيفان (الرهيب) أصبحت رمزاً لحروب الاسترداد الروسية على حساب مغول القبجاق، وقد بُنيت كاتدرائية القديس باسيل في موسكو تخليداً لذلك. وخلال الأعوام الأولى التي تلت الضمّ بدا مصير التتر غائماً؛ بين الرغبة في الانتقام واستحالة إدماج المسلمين في دولة أرثوذكسية، كان كل ذلك يشير إلى اندثار الخصائص المميزة للشعب. لكن الأمور لم تسر على هذا النحو مع قرار الإمبراطورة كاترين الثانية العدول عن سياسة القضاء على الإسلام التي انتهجها أسلافها الذين عمدوا إلى هدم المساجد وترحيل الأقلّيات غير المسيحية أو تعميدهم على غير إرادتهم. سافرت كاترين الثانية إلى كازان في آيار (مايو) 1767، وبعد لقائها مع التتار، سمحت لهم بالاستمرار في اعتناق الإسلام.
ومنذ ذلك الحين تعايشت الديانات معاً في المدينة، التي خلّدت الإمبراطورة كاترين الثانية بها وأُطلق عليها لقب (إيبي-باتشا) أو الجدة الصالحة. وبمرور الوقت أخذت كازان تكتسب مزيداً من الحكم الذاتية حتى 1920 حين أصدر الزعيم الراحل لينين مرسوماً يقضي بتسميتها إلى الجمهورية الاشتراكية السوفييتية التترية ذاتية الحكم. ومن بين العرقيات التي سكنتها كان 90% منهم مناصفة من التتر والروس.
مع بداية حقبة التسعينيات، بدأ الاتحاد السوفييتي وتتارستان يسلكان مسارين متضادين. فمع معاناة الأول من غياب الاستقرار وصولاً إلى تفكّكه، بدأت الجمهورية تصبح أكثر استقلالية. وكان هناك ثلاث شخصيات في هذا الموقف: رجلان يتنازعان على السلطة، وثالث عرف كيف يستفيد من الوضع لصالحه. فقد عارض بوريس يلتسين، رئيس مجلس السوفييت الأعلى لروسيا الاتحادية وقتها، بشكل علني ميخائيل غورباتوشف، رئيس الاتحاد السوفييتي حينذاك. ومن بين الإجراءات التي اتخذها يلتسين كي يحظى بشعبية بين المواطنين، كانت تلك الهادفة لإظهار ضعف الاتحاد السوفييتي والذي كان واضحاً للغاية للجميع لا سيما فيما يتعلّق بالسيطرة على الجمهوريات. وفي 1990 ومن مدينة كازان قال يلتسين “احصلوا على قدر ما تستطيعون من السيادة”، وهو الأمر الذي نفّذه زعيم الحزب الشيوعي في تتارستان مينتيمر شايماييف.
وفي صيف نفس العام، وبإعلان الاستقلال، قامت الجمهورية الاشتراكية السوفييتية التترية، لتضع يدها أخيراً على مواردها، والنفطية بشكل رئيس. وفي 1992 ورغم محاولات يلتسين استمالة وتهدئة تطلّعات دعاة الاستقلال، أجرى شايماييف استفتاء يسأل فيه الشعب عما إذا كان يجدر بالجمهورية أن تكون مستقلة أم لا. جاء رد 61.4% من السكان بالإيجاب، وبمرور الوقت ومع خشيتهما من حمام دم مثلما حدث في الشيشان، أبرم يلتسين وشايماييف اتفاقاً بشأن الحكم الذاتي من أجل الإبقاء على تتارستان داخل روسيا الاتحادية، بيد أنّ المفاوضات في هذا الصدد لم تنته سوى مع حلول العام 2002.
تُعدّ تتارستان هي الجمهورية الوحيدة داخل الاتحاد الروسي التي يتمتّع زعيمها بمنصب رئيس. ويشترط في المرشح لشغل هذا المنصب بشكل أساسي إتقان اللغتين الرسميتين في الإقليم؛ الروسية والتترية. ومنذ 1991 وحتى اليوم تولّى شخصان فقط منصب رئيس تتارستان، وهما تتريان مسلمان. وتبرز من بين مهام الرئيس السياسية بشكل دائم الحفاظ على التوازن العرقي والديني واللغوي في تتارستان. ويتّسم الميزان العرقي بالثبات مع تغيّرات طفيفة منذ 1920. فوفقاً لاستطلاع أجري عام 2010، ينتمي 53% من السكان للعرق التتري، لتصبح جمهورية تتارستان هي المكان الوحيد في العالم الذي يشكّل فيه التتر أغلبية، مقابل 40% من الروس. إضافة إلى 170 جنسية تتعايش جنباً إلى جنب في تتارستان الحديثة.
تتار القرم
على أنّ الدراسات التي أكّدت غياب الصلات الجينية التي تربط تتار الفولجا بتتار القرم، والتي ذُكرت آنفاً، لم تحدث قدراً كبيراً من الاندهاش. فقد أشار بعض المؤرّخين بالفعل من قبل إلى أنّ المجموعتين وفدتا من أماكن مختلفة وتنحدران من عرقيات متباينة. واكتسب تتر القرم تسميتهم ومكانهم من شبه الجزيرة، ويعتبرون أنفسهم مجموعة منفصلة عن الآخرين، وحتى عن جيرانهم الأقرب في إقليم دونيتسك. ووُلدت أول دولة لهم، خان القرم، في أعقاب سقوط دولة مغول القبجاق في القرن الخامس عشر. وفي العام 1790 ضمّت الإمبراطورية الروسية القرم إلى أراضيها، متسبّبة في أول شتات ضخم للتتر؛ نزح 300 ألف تتري إلى الإمبراطورية العثمانية، تركيا المعاصرة. وعاود التاريخ تكرار نفسه عام 1850، إثر حرب القرم، حين اضطر 200 ألف تتري لمغادرة وطنهم الأم.
لكن الحقبة الأكثر ظلمة تحمل هي الأخرى اسماً خاصاً بها وهو (سورجون). كان هذا هو المصطلح الذي أًطلق على الترحيل الجماعي للتتر من شبه جزيرة القرم والذي أمر بتنفيذه الزعيم السوفييتي السابق جوزيف ستالين في آيار (مايو) 1944. وبمجرد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها أشير للتتر بأصابع الاتهام وبشكل جماعي بالتعاون مع الجيش الألماني الغازي. لذلك تعرَضوا للترحيل إلى آسيا الوسطى، وتحديداً إلى صحاري أوزبكستان وكازاخستان. نُقلت أقلّيات أخرى إلى معسكرات العمل بالسُخرة، مثل الشيشانيين والانجوشيتيين وألمان الفولجا وآخرون. وفي غضون ثلاثة أيام فحسب كان 191 ألف من تتار القرم قد رُحّلوا بُناء على تعليمات ستالين فيما لقى 44 ألف حتفهم في أقل من شهرين بسبب ظروف الترحيل القاسية والعمل القسري والحياة هناك.
كانت عملية عودة المُرحّلين وذويهم بطيئة ومستمرّة حتى اليوم بمُعدّل ألف و500 عائد سنوياً. كما ساهمت سياسات الزعيم السوفييتي السابق نيكيتا خروتشوف من أجل عكس تأثير اتجاهات ستالين في منح عفو عام عن الشعوب التي تعرّضت للترحيل، ليتسنّى لـ500 أسرة تترية العودة إلى القرم في الأعوام الأولى التي تلت وفاة ستالين منذ 1957. لكن أحياءهم ومنازلهم كانت مُحتلّة بالفعل. وأفضت التظاهرات المناهضة لعودة التتار إلى حدوث فصل عرقي. ولم يحصل التتار على الجنسية الأوكرانية ونوع من الاستقلالية إلا بحلول العام 1991 حين تمكّنوا من تأسيس برلمان إقليمي (كورولتاي) وكذلك منظمة للمجتمع المدني باسم (المجلس) أو (مؤتمر شعب تتار القرم). كما اتخذت أول حكومة أوكرانية بعد الاستقلال عدة إجراءات بهدف دعم عودة التتار وتوطين هذه الأقلية وأنشأت لذلك مفوضية خاصة لمشكلات تتار القرم.
سارت الأمور بوتيرة هادئة نسبياً في العقد الأول من القرن الجديد، وحصل تتار القرم على حقوق كثيرة بفضل سياسات الإدماج ودعم منظمات دولية مثل المجلس الأوروبي. بدأ تدريس اللغة والتقاليد التترية في الفصول الدراسية وحدث تعايش بين الأعراق بشكل طبيعي. بيد أنّ عام 2013 كان نقطة تحوّل. فقد اندلعت احتجاجات في أوكرانيا على خلفية قرار حكومة الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش بالتقارب أكثر مع روسيا والتراجع عن توقيع اتفاق الشراكة بين كييف والاتحاد الأوروبي، ليظهر التنافر بين القرم وباقي الأقاليم الأوكرانية؛ حيث كان سكان شبه الجزيرة هم الأقل دعماً لتظاهرات (الميدان الأوروبي). غير أنّه وفي ظل الأجواء العدائية خلال الأشهر التالية للتظاهرات، أكّد التتار موقفهم المؤيد للتقارب مع أوروبا وأظهروا رفضهم لضم روسيا لشبه الجزيرة. وبعد الدعوة لاستفتاء حول وضع القرم في 2014، دعا (المجلس) تتار شبه القرم للامتناع عن التصويت باعتبار أنّ الاستفتاء غير قانوني.
ومنذ ذلك الحين، باتت الملاحقة مستمرّة وظهرت تقارير عديدة من نشطاء في مجال حقوق الإنسان والمجلس الأوروبي تورد أدلّة على حدوث تمييز بحق تتار القرم في شبه الجزيرة التي ضمّتها روسيا. وتذكر التقارير حالات إيذاء وتهديدات واعتداءات جسدية واختفاء قسري واعتقال تعسفي وانتهاكات لحرية التعبير والتجمّع. ويواجه المُعتقلون، أغلبهم من الرجال، تهم الإرهاب والتطرّف والنزعات الانفصالية. وفي عام 2016 قرّرت المحكمة العليا في روسيا حلّ وحظر (المجلس) باعتباره جهة متطرّفة. وأودع أعضاء هذه المنظمة البالغ عددهم ألفين و500 فرداً السجن بعد رفضهم التوقّف عن ممارسة العمل السياسي.
لكن وساطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي اجتمع في أكثر من مناسبة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أسهمت في إطلاق سراح عدد من زعماء التتار شريطة مغادرتهم شبه الجزيرة. فضلاً عن أنّ الخوف من الاضطهاد والحملات والاعتقالات العشوائية المتكررة تجبر تتار القرم على الرحيل مجدّداً. وقد أظهر تقرير قدّمته منظمة (هيومن رايتس هاوس فاونديشن) عام 2016 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بالتعاون مع ثلاث منظمات أوكرانية تنشط في الدفاع عن حقوق الإنسان، أنّه مقارنة بسياسة الترحيل القسري التي اتسمت بها الحقبة الستالينية، فضّلت السلطات الروسية الحالية زيادة خطاب الكراهية تجاه التتار بغية دفعهم للرحيل عن شبه الجزيرة، في أمر أشبه بـ(سورجون) جديد.
هوية هشة
على الرغم من الدليل الجيني، إلّا أنّ القومية التترية، أو فكرة أنّ المجموعات التترية المختلفة تشكّل عرقية واحدة تكتسب مزيداً من القوة اليوم. ويعدّ هذا الموقف هو الأساس الذي يستند إليه (المؤتمر العالمي للتتار) الذي ينعقد بصفة دورية منذ عام 1992. لكن مسألة الهوية التترية لا يمكن تعريفها فقط انطلاقاً من الدين، نظراً لأنّ التتر اليوم ليسوا جميعاً مسلمين، ولا اللغة، خاصة وأن الروسية أخذت في إزاحة التترية في بعض المجتمعات، ولا التاريخ، الذي لا يتشاركه التتار كافة، ولا التسمية، التي فُرضت عليهم. في هذه الحالة لماذا إذن ما تزال فكرة الهوية التترية الواحدة قائمة؟ ربما لأنّه في هذا الموقف وحده يمكن للتتار من كافة المجموعات والبلدان التعامل مع واقع كونهم أقلية.
ينصّ الدستور الروسي على حرية الاختيار فيما يتعلّق بحمل الجنسية، لذا فضّل 5 ملايين تتري، على الأقل، حمل الجنسية التترية. فضلاً عن أنّ تقاليدهم بدأت على مدار الأعوام الأخيرة في اكتساب قدر من الثقل. وتشجّع حكومة تتارستان (إستراتيجية تنمية الشعب التتري) التي ترتكز على الزيجات بين الأشخاص من نفس العرق والحث على استخدام الأسماء واللغة التترية. والاحتفال بالـ(سابانتوي) وهو أبرز عيد تتري، والذي أصبح أهم الأحداث في تتارستان ويجتذب عدداً كبيراً من السياح، ويقترب من دخول قائمة تراث الإنسانية. وترفع حكومة تتارستان شعاراً هو “ليس تترياً من ينحدر من أصول تترية، بل من سيكون أحفاده تتراً”.
مصدر الترجمة:
مقال حول التتار وأصولهم ومستقبلهم، إعداد الباحثة كاتيا أوفشينيكوفا نشر بـ “الأوردن مونديال”