رياض حمادي
كاتب يمني
يزعم المستشرق الفرنسي أرنست أنّ الفلسفة العربية الإسلامية التي ازدهرت في الأجزاء النائية من الإمبراطورية الإسلامية (إسبانيا والمغرب وبخارى وسمرقند) كان دافعها الرئيسي هو العبقرية الحضارية لشعوب تلك المناطق، منكراً وجود فلسفة عربية أصيلة في شبه الجزيرة العربية “لغربتها عن الروح السامية”، ولنا أن نتساءل في هذا السياق: هل كان ثمة فلسفة عربية قبل الإسلام؟ أو بالأحرى، لماذا لم توجد فلسفة عربية قبل الإسلام؟! وهل “الفلسفة العربية” التي وُجدت بعد الإسلام كانت بدافع ديني أم نتيجة للتأثير اليوناني أم للسببين معاً؟
جدلية اللغة والفلسفة
يقول رينان: “من العسف أن نطلق اسم فلسفة عربية على فلسفة لا تعدو أن تكون استدانة من اليونان، وما كان لها أي جذر في شبه الجزيرة العربية؛ فهذه الفلسفة مكتوبة بالعربية ليس إلا، ثم إنّها لم تزدهر إلا في الأجزاء النائية من الإمبراطورية الإسلامية، وبدلاً من أن تكون نتاجاً طبيعياً للروح الساميّة، فقد مثلت بالأحرى رد فعل عبقرية فارس الهندية- الأوروبية على الإسلام، أي على ذلك النتاج الأكثر خلوصاً للروح السامي”.
يكتسب حكم رينان أهميته من استمرارية الظرف التاريخي، وانطلاقاً من العلاقة الجدلية بين التفكير واللغة، ومن أسبقية الفكر على اللغة، فإنّ الفلسفة عند رينان تتمثل في روحها، فالفلسفة العربية على ذلك ليست عربية خالصة لأنّها استدانة عربية للروح اليونانية، وبسبب جمعها بين ثلاثة عناصر عربية وإسلامية ويونانية، وأنّ روح الفلسفة تبقى يونانية ولو كُتبت بالعربية أو كتبها غير اليونانيين، بالمعنى الإثني للكلمة، طالما وأنّهم يعبرون عن طبيعة العقل اليوناني الذي يعرف الفلسفة بأنّها “تفكير العقل في العقل”.
القومية والفلسفة
إذا كانت اللغة، التي تُكتب بها الفلسفة، هي معيار الحكم على وجود فلسفة، فلماذا نحكم بوجود فلسفة يونانية، أصحابها غير يونانيين، ونحرم العرب من الفلسفة التي كُتبت بالعربية على يد فلاسفة من قوميات غير عربية؟! بهذا المعنى يطرح جورج طرابيشي السؤال معيداً الفلسفة اليونانية إلى أصول غير آرية قائلاً إنّ أثينا لم تنجب سوى فيلسوفين اثنين هما سقراط وأفلاطون، وأن “أكثر الفلاسفة والعلماء الموصوفين بأنهم يونانيون ما كانوا يونانيين”، ولا من أهالي أثينا وإنما من أصول سورية ومصرية. وهذا ما كان قد فصله جورج ج م جيمس في كتابه (التراث المسروق) قائلاً إن الفلسفة اليونانية هي فلسفة مصرية سرقها اليونانيين الذين لم يكونوا يونانيين بالمعنى العرقي للكلمة.
يمكن ملاحظة دور اللغة في الفلسفة من خلال مقارنة اللغة التي كتبت بها النصوص المقدسة للديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام
يضيف طرابيشي في معرض رده دعوى رينان، في كتابه “مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام”: “إذا كان العرق، كما يفترض رينان، مقولة لغوية، فكيف يمكن أن يُصنف عشرات الفلاسفة من ذوي الأصول السورية أو المصرية الذين كتبوا باليونانية في عداد الجنس الآري، ثم يمتنع عن تصنيف عشرات الفلاسفة من ذوي الأصل الفارسي أو الصغدي في عداد الجنس السامي مع أنّهم كتبوا بالعربية؟ فلماذا تحضر اللغة في الحالة اليونانية ويُغيَّب العرق؟ ولماذا تُستذكر لفلاسفة الإسلام أصولهم الإثنية وتُنتسى لفلاسفة اليونان الأصول عينها؟”.
لكن ألا يمكن الرد بالقول إنّ أولئك الفلاسفة، وإن لم يكونوا يونانيين، لم يكونوا عرباً ولا كتبوا بالعربية، وكتابتهم باليونانية ربما كانت بتأثير (الاستعجام) بصفته مفتاحاً للعلم والفلسفة كما هو عند ابن خلدون، ويمكن أن نسأل: لماذا وُجِد فلاسفة من أصول سورية ومصرية كتبوا باليونانية ولم يوجد فلاسفة من نفس الأصول كتبوا بالعربية؟! تفنيد طرابيشي لدعوى رينان قد ينفي الروح اليونانية عن الفلسفة المكتوبة باليونانية– بدليل أن أغلب الذين كتبوها لم يكونوا يونانيين- لكنه في المقابل لا يثبت الفلسفة للعرب أو يدلل على وجود فلسفة عربية أصيلة.
للغة دور، في الفلسفة، يمكن ملاحظته من خلال مقارنة اللغة التي كتبت بها النصوص المقدسة للديانات الثلاث: اليهودية، والمسيحية والإسلام؛ إنّ لهذه الديانات أساساً سامياً مشتركاً، لكن القرآن الكريم، والعهد القديم كُتبا بلغتين ساميتين متقاربتين، في حين كُتب العهد الجديد باللغة اليونانية، إضافة إلى أنّ اللاهوت والمعتقد المسيحيين قد تطوّرا متأثرين باللغة الإغريقية واللاتينية، انطلاقاً من فلسفة المرحلة الهلينية، وثمة ملاحظة أخرى للمقارنة، مرتبطة بالسابقة، هو أن الهندو -أوربيين كانوا يؤمنون بكل أنواع الآلهة، أما الساميون فقد عبدوا، منذ وقت مبكر، إلهاً واحداً!
الفلسفة بين التوفيق والنقد
إذا كان ناقد الفلسفة فيلسوفاً، فإنّ ناقل الفلسفة اليونانية الشرق أوسطي، أو محول مجرى نهرها، هو فيلسوف كذلك، ويستحق الاعتراف بالدور الذي قام به، لكن الشك في وجود “فلسفة عربية أصيلة” يمكن أن يتسرب من طبيعة تلك الفلسفة التي لم تكن تعني “تفكير العقل في العقل”، ومن طبيعة العقل الفلسفي الذي كان مقيداً بالعقل اللاهوتي ولم يخرج في الغالب على حدود الأهداف التي رسمها له الدين، كما أنّها فلسفة لم يكن همّها “البحث الشجاع والفلسفي عن الحقيقة” لأن الحقيقة مُعرَّفة بالدين سلفاً.
وتكتسب أطروحة افتقار العرق السامي لملكة النظر العقلي الخالص أهميتها حين ترتبط هذه الملَكة بحدود الدين؛ فمنهج الفلسفة العربية هو منهج إسلامي لأنه منهج توفيقي لا نقدي.
والصراع الفلسفي كان بين فيلسوف مسلم هو ابن رشد ومتصوف ومتكلم مسلم هو الغزالي تجمعهما مرجعية مشتركة وعقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام، وبهذا المنهج التوفيقي يكون الصراع حول الفلسفة بمثابة دفاع الطرفين عن الدين، والدوران في فلكه، أكثر منه صراعاً على أهمية الفلسفة ودورها الحضاري بوصفها “تفكير العقل في العقل”.
يبدو أن إسهام العرب الضئيل لا يقتصر على حقل الفلسفة وإنما على حقول أخرى كعلم البيان وعلم الحديث والفقه
بحسب طرابيشي فإن الذي جعل المسيحية تتميز عن الإسلام هو هجرتها إلى أوروبا -القارة المركزية للجنس الآري- وكذلك عدد المتحولين الإغريق إلى المسيحية، وهو ما جعل الفلسفة الإغريقية تنفذ إلى التعاليم المسيحية. هذه الهجرة في الجغرافيا بالانحسار غرباً مع سقوط القسطنطينية أعقبتها هجرة في التاريخ من اللاهوت إلى الفلسفة، يقابلها هجرة عربية إسلامية مضادة في الجغرافيا بالانحسار شرقاً، بعد سقوط الأندلس، وهجرة من التاريخ بعد طرد الفلسفة وعلم الكلام.
علم البيان والفقه والحديث
يبدو أن إسهام العرب الضئيل لا يقتصر على حقل الفلسفة وإنما على حقول أخرى كعلم البيان وعلم الحديث والفقه، يذهب المفكر جورج طرابيشي في كتابه “من النهضة إلى الردة” إلى أنّ أغلب أمراء البيان العربي كانوا من الأعاجم، “فبدءاً بابن المقفع وعبدالحميد الكاتب ومروراً بالجاحظ والتوحيدي وانتهاء بالحريري والغزالي في النثر، وبدءاً ببشار بن برد وأبي نواس وانتهاء بأبي تمام وابن الرومي في الشعر، فإن الاستعراب قد أينع أشهى ثمار البلاغة العربية.. وقد لا يكون من قبيل الصدفة أنّ الغالبية الساحقة ممن تولوا التقعيد للغة العربية ذاتها كانوا بالمعنى الإثني للكلمة من “الأعاجم” بدءاً بسيبويه وانتهاء بابن جني الذي يقال إنّ اسمه الرومي كان جينوس”.
وفي كتابه “وعاظ السلاطين” يذهب المفكر علي الوردي إلى أن معظم فقهاء السنة وأئمة الحديث كانوا من الفرس، فلو قرأنا تراجم المحدثين والفقهاء الأولين “لوجدنا فيها أسماء النيسابوري والبخاري والترمذي والرازي والطبري والغزالي والخراساني والشهرستاني والكيلاني والاسترابادي والخوارزمي والجرجاني والآمدي والأصفهاني والتستري.. وغيرهم من المنتسبين للبلدان الإيرانية المختلفة”، نقول هذا وفي أذهاننا أيضاً أهم نهضوي في العصر الحديث هو محمد علي الذي كان من أصول ألبانية، وكذلك جمال الدين الأفغاني الذي يشير لقبه إلى أصول أفغانية إيرانية.
جذور أُطروحة رينان
الفقيه والعالم والمؤرخ والقاضي صاعد بن أحمد الأندلسي (420 – 462هـ) أطلق في القرن الخامس للهجرة الحكم الذي ردّده من بعده رائد النزعة الاستشراقية الآرية في القرن التاسع عشر آرنست رينان، يقول صاعد بعد أن ذكر معارف العرب: “هذا ما كان عند العرب من المعرفة، فأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله تعالى شيئاً منه ولا هيأ طباعهم للعناية بها، ولا أعلم أحداً من صميم العرب شهر به إلا أبا يوسف يعقوب بن إسحق الكندي وأبا محمد الحسن بن أحمد الهمداني”.
لكن تصنيف صاعد للمعارف بشكل عام لا يقوم على أساس إثني أو لغوي ولا حتى ديني بل طبقاً لدرجة إسهام الأمة في الحضارة على أساس ومقياس علمي، ورغم ما قيل عن تعصب الجاحظ للعرب فإنه لم يتطرف قط في ثنائية العرب والعجم، والمفاضلة التي يجريها ليست بين حضارة وهمجية بل تفريق وتقييم وترجيح من داخل ميزان الحضارة التي هي معيار الفضل، وليس في المطلق ولا من وجهة نظر إثنية بل حصراً من منظور فن الخطابة: خطابة العرب في قبالة فلسفة اليونان وعلم الهند، وأمية العرب في قبالة كتب الفرس وسائر العجم، وارتجال العرب في قبالة تراث الأمم، وحصيلة المقارنة لا تصب في صالح العرب.
ولأطروحة رينان أنصار في صفوف المفكرين العرب الذين أرَّخوا للحضارة الإسلامية مثل؛ أحمد أمين، الذي جزم بأن فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية من أمثال؛ الفارابي وابن سينا وابن رشد، كانوا “كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية”، وينقل طرابيشي في كتابه “مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام” عن عبد الرحمن بدوي قوله إن “الفلسفة منافية لطبيعة الروح الإسلامية. لذا لم يُقدر لهذه الروح أن تنتج فلسفة، بل ولم تستطع أن تفهم روح الفلسفة اليونانية وأن تنفذ إلى لباباها”.
التعددية هوية الحضارة
ينتهي ابن خلدون إلى أن العَجَم لا العرب هم مهندسو الحضارة الإسلامية؛ لكن ابن خلدون يقول بوجود أسباب موضوعية للتقدم والتخلف “فلئن يكن عرب المشرق– ومعهم بربر المغرب– لم يعرفوا العمران الحضري فما ذلك لأنّهم عرب أو بربر، بل فقط لأنّهم بدو، ومن عرف العمران الحضري من العجم فما عرفه لأنه عجمي، بل لأنه حضري، وهذا معناه أنّ العلاقة بالآخر إيجاباً أو سلباً لا تحددها هويته، بل درجة إسهامه في الحضارة”.
الحضارة بحسب المفكر هادي العلوي لا تموت ولكنها تنتقل في المكان، فالحضارة الإسلامية قامت على أساس من التعددية الإثنية، ازدهرت يوم قامت على الانفتاح وانحطت يوم نكصت إلى الانغلاق، ونتيجة لتلك التعددية تحول العرب، بالمعنى الإثني للكلمة، مع الانتقال من الدولة الأموية إلى الدولة العباسية، إلى أقلية محكومة بدلاً من أن تكون حاكمة.
نقلاً عن حفريات