هند سليمان
صحفية مصرية
بلا دليل يرافقهم في رحلتهم إلى ليبيا، ربما وجد عناصر المعارضة السورية أنفسهم، دون تخطيط مسبق، بيادق وجنوداً على رقعة شطرنج يديرها بإحكام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتوسيع نفوذه في شرق المتوسط عبر ليبيا، فقد رصد تقرير لمجلة “ذا ناشونال” الأمريكية نقطة انطلاق ما بات يُعرف باسم “مرتزقة أردوغان”، بدءاً من خروجهم من بلدهم الأصلية سوريا حتى وصولهم إلى الأراضي الليبية ليحملوا السلاح دفاعاً عن الأحلام السلطوية والتوسعية للرئيس التركي.
وسلّط التقرير الضوء على كيفية استغلال أردوغان للهجوم المفاجئ الذي شنه الجنرال خليفة حفتر في نيسان (أبريل) 2019 لاستعادة السيطرة على طرابلس لتعزيز التواجد التركي في ليبيا، فقد تذرعت حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج حينها بأنّ هجوم حفتر يمثل “تهديداً خطيراً”، لطلب دعم تركيا عسكرياً، الطلب الذي لم يتردد أردوغان في تلبيته، لكن “بدلاً من إرسال قوات تركية إلى ليبيا، بدأ مسؤولو المخابرات الأتراك في تجنيد مقاتلي المعارضة السورية من بين صفوفها”، على حدّ قول “ذا ناشونال”.
خط المواجهة
يروي أحمد كيف انتقل من القتال إلى جانب المعارضة السورية في سوريا إلى ليبيا في أوائل عام 2020، فقد أشارت “ذا ناشونال” إلى أنّه قاتل في صفوف ميليشيا “الحمزة”، التي كانت واحدة من بين (8) ميليشيات “مدعومة من تركيا” تعاقدت مع النظام التركي على إرسال مرتزقة إلى ليبيا.
ووفق رواية أحمد، فإنّ القتال في ليبيا أو العودة منها لم يكن خياراً، فقد اكتشف ذلك عندما رأى “خط المواجهة” في طرابلس وطلب العودة، ليردّ عليه قائده بالقول: “المجيء إلى ليبيا كان اختيارك، أمّا العودة، فليست كذلك”، مع أول دفعة من راتبه تدفع في غضون (3) أشهر عند عودته إلى سوريا، غير أنّ أحمد عاد إلى منزله بعد شهرين بعدما أصيب في ليبيا بكسور في الحوض، أمّا الراتب المتفق عليه، فلم يصل سوى ربعه (10) آلاف دولار.
ويشير التقرير إلى أنّ تجربة أحمد ليست “فريدة”، لافتاً إلى أنّ السعي القاسي وراء الربح كان أبرز ما يميز ما أطلقت عليه المجلة “برنامج المرتزقة” التركي، حيث “الفساد المهيمن على العملية ومستويات عالية من الكسب غير المشروع تعمل على تمكين الفصائل المسلحة في شمال غرب سوريا”، معتبراً أنّ ذلك دليل على “كيف يمكن للتدخلات الأجنبية أن تدعم اقتصادات الحرب”.
دور الحمزات ومذكرة السراج
لم تكن ميليشيا الحمزات التي تشكلت عام 2013 كفرقة ممّا يُعرف بـ”الجيش السوري الحر”، مجرد مجموعة مسلحة، فقد تلقت الميليشيا وقائدها الشهير بـ”سيف أبو بكر”، المعروف بقسوته، تدريبات ومعدات مباشرة من الولايات المتحدة وبريطانيا بهدف دعمهم في مواجهة نظام بشار الأسد.
وفي عام 2016 استخدمت تركيا الحمزات في عملياتها العسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية المعروفة بـ”قسد”، ويقودها الأكراد، العدو اللدود لأردوغان، حتى توّج التعاون الوثيق بين أنقرة والميليشيا باختيارها من قبل المخابرات التركية لتجنيد المرتزقة للقتال في ليبيا، على حدّ قول المجلة الأمريكية، التي أضافت: “الآن، مع تجميد الصراع في سوريا بسرعة، ساعد برنامج المرتزق التركي “أبو بكر” وقادة آخرين في الحفاظ على مصادر الإيرادات والسلطة التي اعتادوا عليها خلال الحرب الأهلية الدموية”.
لم تضع تركيا سقفاً على أعداد المرتزقة من الفصائل السورية المختلفة الذين يوفر تدفقهم للأراضي الليبية مزيداً من الوقت لتدريب ما أطلقت عليه المجلة “المقاتلين الليبيين”، وبالتالي دعم حكومة طرابلس في مواجهة الشرق بقيادة حفتر، غير أنّ تعزيز قدرة حكومات طرابلس المختلفة لم يكن الهدف الأساسي لأردوغان على ما يبدو، فقد أشارت “ذا ناشونال” إلى مذكرة التفاهم الـ”سخية” التي وقعتها حكومة السراج في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 مع تركيا بشأن الحدود البحرية، في خطوة لم تحظَ على ما يبدو بتأييد دولي، ولاقت احتجاجات فورية من قبرص واليونان ومصر.
وقالت المجلة الأمريكية: إنّه “في غضون أشهر من توقيع تلك الاتفاقية عززت أنقرة تواجدها في ليبيا، حيث سيطر الجيش التركي بشكل فعال على العمليات والشحن في أنظمة الدفاع الجوي والطائرات بدون طيار وآلاف المرتزقة السوريين”.
تجنيد الأطفال
لم يقتصر التجنيد للقتال في ليبيا على الشباب والرجال، بل امتد إلى الأطفال، فقد روى أبو سعيد، مجند في إحدى الميليشيات المدعومة من تركيا، أنّه “عندما بلغ القتال في ليبيا ذروته، طلب الأتراك إرسال (2000) رجل”، غير أنّ كتيبة أبو سعيد كان قوامها (500) رجل فقط، مضيفاً: “لذلك بدأنا في إرسال أطفال ليس لديهم أيّ خبرة عسكرية”.
وبحسب “ذا ناشونال”، أظهرت جداول التجنيد التي قدمها أبو سعيد أنّ (3) مقاتلين، على الأقل، أرسلوا إلى ليبيا تقلّ أعمارهم عن (18) عاماً.
وكشف أبو سعيد أنّ الميليشيات المدعومة من تركيا “اقتحمت السجون، ومنحت الرجال الأكراد المحتجزين خيار القتال أو البقاء في الحبس”، مضيفاً: “العديد من الأكراد قبلوا العرض على مضض”.
من ذروة القتال في 2019 إلى أن توصلت الأطراف الليبية إلى اتفاق في نهاية 2020 لوقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة، غير أنّ جبهة أخرى حليفة للرئيس التركي بدأت في الاشتعال، وهي أذربيجان، فقد شنت أذربيجان هجمات جوية وبرية على ناغورنو كاراباخ، في 27 أيلول (سبتمبر) 2020، ممّا أشعل فتيل الصراع بين القوات الأذربيجانية والأرمنية وقوات كاراباخ المحلية، غير أنّ اختيار تركيا للمرتزقة للقتال في أذربيجان خضع هذه المرة لعمليات فحص أدق.
ووفقاً للمجلة الأمريكية، فإنّ نظرة الأتراك لما جرى في أذربيجان تختلف عن نظرتهم لما يجري في ليبيا، وكان دعمهم لأذربيجان “إيديولوجياً”، على عكس دعمهم لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا، الذي كان “تعاقدياً قائماً على المصالح الجيوسياسية”.
أذرع تركية
مسؤولو التجنيد أكدوا أنّ اتصالهم الأساسي كان مع “المخابرات التركية، وفقاً لـ”ذا ناشونال”، بينما تم الاستعانة بمصادر خارجية للخدمات اللوجستية “لشركات غير معروفة”.
ومن المحتمل أن تكون هذه الشركات تابعة لشركة “سادات”، الشركة العسكرية التركية الخاصة التي أسسها عدنان تانريفيردي، وهو عميد سابق ومقرّب من أردوغان، وفقاً للمجلة الأمريكية التي نقلت عن تقرير وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في 2020 قوله: إنّ النظام التركي “يحافظ على الإشراف والدفع لما يقدّر بـ (5) آلاف مقاتل سوري موالٍ لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا”.
وبحسب المجلة، فإنّه من الصعب التأكد من دور “سادات” في تجنيد المرتزقة، غير أنّه من المحتمل أنّ يكون هناك تنسيق، على الأقل، بين الشركة والمخابرات التركية.
وعود جوفاء
يروي أبو سعيد أنّ المرتزقة المجندين غالبيتهم شباب ليس لهم دخل مادي، أو فرص توظيف ضيئلة، رأوا في القتال في ليبيا أو أذربيجان فرصة لتوفير رأس مال وبدء عمل تجاري صغير في سوريا، مشيراً إلى أنّ العديد منهم تلقوا وعوداً بحصول أسرهم على الجنسية التركية، في حال وفاتهم في ليبيا أو أذربيجان.
لم يمضِ وقت طويل قبل أن يستفيد القادة السوريون من مخططات الجنسية هذه أيضاً، على حدّ تعبير “ذا ناشونال”، التي نقلت عن مقاتلين قولهم إنّ القادة بدؤوا في التقديم للجنسية التركية لمن يدفع أعلى سعر، وبدلاً من منح الجنسية لأسرة المقاتل المتوفى، فإنّ أيّ شخص يمكنه تحمل الرشوة يحصل على مستندات مزورة، ومع نمو عملية الاحتيال، اضطرت المخابرات التركية إلى إغلاق البرنامج بالكامل، بحسب المجلة الأمريكية.
وتقول المجلة الأمريكية: إنّه “نظراً للسخرية والسعي الصريح للربح الذي ساد برنامج المرتزقة التركي، كان القليل من المرتزقة مهتمين بأسباب القتال. ولتحفيزهم حاول المسؤولون الأتراك تصوير الحرب الأهلية السورية على أنّها صراع عالمي، أو صبغها بالصبغة الدينية أو العرقية”، مشيرة إلى أنّ الضباط الأتراك أوهموا المقاتلين السوريين بأنّهم يقاتلون نظام الأسد في ليبيا أيضاً، أمّا مجموعة “فاغنر” الروسية، فقد جندت بالفعل سوريين للقتال في صفوف الجيش الوطني الليبي، ولكن أخبرتهم بأنّه تدريب مستمر مقابل أجور كاملة.
ملل ومخدرات
غادر المقاتلون السوريين أذربيجان، لكنّهم ما يزالون متمركزين في ليبيا، ويشعرون غالباً بـ”الملل”، ويتعرّضون لـ”الاستغلال”، على حدّ قول “ذا ناشونال”، التي أشارت إلى أنّ المرتزقة من الفصائل السورية يواجهون عزلة في ليبيا سببها كراهية الليبيين الذين ينظرون إلى المرتزقة على أنّهم “مخربون”، وأنّ الميليشيات الليبية لطالما قاومت المقاتلين السوريين، ممّا تجلى في مقتل اثنين من المرتزقة السوريين المتمركزين حول مطار معيتيقة في طرابلس في آب (أغسطس) الماضي، في هجوم مجهول.
تخللت الوفيات بالقرب من مطار معيتيقة لفترة وجيزة الرتابة في القاعدة، حيث توجد أموال كبيرة يمكن جنيها من الملل، على حدّ تعبير “ذا ناشونال”، التي أشارت إلى قيادي سوري جديد في ميليشيات الحمزات، وهو أبو مؤيد، المعروف بأنّه مهرّب رئيسي لـ”الميثامفيتامين الكريستالي”، وغالباً ما كان أبو مؤيد يتبادل المخدرات مقابل اقتطاع من رواتب مرؤوسيه، والكثير من المقاتلين الفقراء مدينون له، بحسب مقاتلين.
سئم المرتزقة من وضعهم، وعبّروا بشكل متزايد عن عدم رضاهم على قنوات تطبيق “تليغرام”، فقد علق مقاتل من مجموعة السلطان مراد مؤخراً: “خلال الأشهر الـ (4) الماضية لم نتلقّ رواتب، محلات البقالة في القاعدة فارغة، القادة لا يدفعون رواتب، ولا يرسلون الناس إلى ديارهم”، وتم القبض على مقاتلين لتقديمهم شكاوى، وطلب آخرون أموالاً من عائلاتهم للبقاء على قيد الحياة.
وعلى الرغم من تلك الظروف، ما يزال المزيد من الشباب السوري يرغبون في التسجيل في برنامج المرتزقة التركي، بحسب المجلة الأمريكية، ممّا يعكس الظروف اليائسة في شمالي غرب سوريا، وحقيقة أنّ هؤلاء الذين لم يلتحقوا بهذا البرنامج يعتقدون أنّه لا قتال في ليبيا، فقد كشف أبو سعيد، الذي يتولى التجنيد للأتراك: “أتلقى عدداً لا نهائياً من المكالمات من أشخاص يطلبون منّي إرسالهم إلى ليبيا، الآن يعرضون عليّ راتبهم الأول والثاني”.
حبة مريرة
تدخّل تركيا مع المرتزقة السوريين كان “بمثابة حبة مريرة تبتلعها حكومة الوفاق الوطني”، حسبما نقلت المجلة الأمريكية عن جلال حرشاوي، الخبير في الشؤون الليبية، الذي دافع عن لجوء حكومة السراج إلى تركيا بقوله: “احتاجت حكومة الوفاق الوطني إلى الذخيرة، والمعدات، واللوجستيات، والدفاع الجوي، وأكثر من ذلك بكثير، لكن لم يكن هناك نقص في القوى العاملة، ولم يطلبوا قط جنوداً مشاة.”
وترفض الجماعات المسلحة، مثل قوة الردع الخاصة، الموالية لحكومة الدبيبة المدعومة من تركيا، السماح بوجود سوري في وسط طرابلس، وفقاً لـ”ذا ناشونال”، التي أوضحت أنّه “في نظر الكثيرين، وجود المرتزقة السوريين هو إذلال، إنّهم يمثلون عجز الليبيين تجاه الجهات الخارجية، حتى عندما تتدخل تلك القوى الأجنبية ظاهرياً لصالحهم.”
وتتصاعد التوترات في كلّ من طرابلس وناغورنو كاراباخ، لكن من غير الواضح ما إذا كان “المرتزقة السوريون” سيلعبون مرة أخرى دوراً بارزاً في الاشتباكات المستقبلية.
المصدر حفريات