نوران بديع
صحفية سورية
موجة من الجدل الواسع تجددت بعد وفاة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، أول من أمس، عن اتصال نسب الملكة بالنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، غير أنّ ذلك الجدل ليس جديداً، وفقاً للصحفي المصري محمود الدسوقي، الذي أشار إلى أنّ الأسر الملكية في أوروبا لطالما وُصفت بأنّها امتداد لأسرة واحدة.
وقبل وفاة ملكة بريطانيا، بنحو (3) أشهر، استبعد الدسوقي اتصال نسب إليزابيث الثانية بالرسول، عليه السلام، وكتب مقالاً في صحيفة “الأهرام” المصرية في مطلع حزيران (يونيو) الماضي، يردّ فيه على مقال لصحيفة “ديلي ميل” البريطانية التي نشرت هذه الادعاءات من خلال ما وصفته بـ”الدراسة” التي أجرتها مؤسسة “Burke’s Peerage”، باعتبارها واحدة من كبار ناشري العالم في علم الأنساب.
العصر الفيكتوري و”اللخمي”
الأسر الملكية التي تمسك بزمام الحكم في القارة العجوز في الوقت الحالي ما هي إلا بقية من نسل الأسر الملكية والنبيلة منذ العصور الوسطى، على حدّ قول الدسوقي، الذي نبّه إلى أنّ تلك هي الحقيقة الأبرز في العصر الفيكتوري، فالملكة البريطانية فيكتوريا تُعتبر جدة لمعظم ملوك أوروبا خلال بدايات القرن الـ20، وملك بريطانيا جورج الخامس كان ابن عم القيصر الروسي الأخير نيكولاس الثاني، وإمبراطور ألمانيا فيلهلم الثاني، وجميعهم أحفاد للملكة فيكتوريا، حتى أنّ البعض قد وصف الحرب العالمية الأولى بأنّها حرب بين أبناء العمومة تفرقوا إلى حزبين (الحلفاء والمحور).
ويظلّ ما أوردته صحيفة “الديلي ميل” البريطانية مثار جدل، حين منحت دراسة “Burke’s Peerage” للملكة إليزابيث الثانية نسباً عربياً هاشمياً، والتي ترجع الملكة إليزابيث، ملكة المملكة المتحدة، إلى سلالة أشراف الحجاز، وهو الطرح الذي تناولته مواقع عربية وعالمية كأنّها حقيقة مسلّم بها، لا تقبل الشك، فما القصة؟
الفرضية التي قدّمتها مؤسسة “Burke’s Peerage” للأنساب تدّعي أنّ الملكة إليزابيث الثانية التي تنسب إلى بيت ويندسور تعود إلى سلالة ملك أندلسي مسلم هو المعتمد بن عباد اللخمي، الذي يُعدّ سليلاً مباشراً للنبي محمد، عليه الصلاة والسلام، على حدّ قول الدسوقي، الذي نقل عن الدراسة.
لغز امرأة أندلسية
كلمة السر في هذا الطرح تعود إلى امرأة أندلسية تُسمّى “زائدة”، فقد وصلت المؤسسة نسب الملكة إليزابيث إلى زائدة الأندلسية، على حدّ قول الدسوقي، الذي فتش في العصور الوسطى وبالتحديد القرنين الـ5 الهجري والـ11 الميلادي، حيث كانت حرب الاسترداد التي شنتها الممالك النصرانية الإسبانية على أشدها ضد دول الطوائف التي سيطرت على مقاليد الحكم في بلاد الأندلس، وكان الملك ألفونسو السادس ملك قشتالة هو فارس تلك الحرب التي أوجعت المسلمين بسقوط عدة مدن وقواعد إسلامية كبرى، أشهرها مدينة طليطلة عام 478هـ / 1085م.
إزاء تلك الهجمات القوية التي تعرّضت لها الأندلس، اضطر ملوك الطوائف للاستعانة بدولة المرابطين القوية الفتية التي بسطت نفوذها على المغرب، وتزعمهم في ذلك الأمر ملك إشبيلية المعتمد بن عباد (461-484هـ)، وقد حققت الاستغاثة مغزاها بالانتصار على قوات ألفونس في موقعة الزلاقة عام (479هـ/1086م)، لكنّ المرابطين عادوا إلى الأندلس مرة أخرى عام 484هـ/ 1090م ليضموا الأندلس إلى ملكهم، ويزيلوا ملوك الطوائف عن عروشهم، وهنا تبرز إلى الواجهة قصة زائدة الأندلسية.
ونقل الدسوقي عن الكاتب والباحث محمد عبد الله عنان قوله، في موسوعته الضخمة “دولة الإسلام في الأندلس”: إنّ زائدة الأندلسية وذريتها النصرانية تظل أسطورة كبرى في التاريخ الأندلسي، ساعد على رواجها الروايات الإسبانية في التواريخ النصرانية، فمن الروايات ما جعلها ابنة لملك إشبيلية المعتمد بن عباد، وقد قدّمها ثمناً لألفونسو من أجل التحالف معه، وهو ما لايمكن تصديقه، إذ إنّ المعتمد نفسه هو من قبل بالاستعانة بالمرابطين في حرب ألفونسو، وقال قولته الشهيرة حين حذّره البعض من طمع المرابطين في الأندلس بعد هزيمة ألفونسو: إنّ رعي الجمال عند يوسف بن تاشفين (أمير المرابطين) خير من رعي الخنازير في قشتالة عند ألفونسو.
رواية أخرى
كل ما تناولته “ديلي ميل” والدراسة الغريبة تمّ نقلها عن الروايات الأندلسية في العصور المسيحية، أمّا الرواية الأخرى، وهي الأكثر قبولاً، فهي أنّ زائدة كانت زوجة للمأمون بن المعتمد بن عباد، الذي كان والياً من قبل أبيه على مدينة قرطبة، قُتل عند دخول المرابطين للعاصمة القديمة للأندلس، وفرّت زائدة إلى بلاط قشتالة، ثم اعتنقت المسيحية وسُمّيت “إيزابيل”، وفي رواية أخرى باسم “ماريا”؛ لتصير محظية لدى ألفونسو السادس الذي أنجب منها ولده الوحيد سانشو، الذي أنجبه في سنّ عالية، وتوفيت زائدة عند مولد ولدها سانشو، ودفنت بدير ساهاجون، وذلك في عام 1097، أو 1098م.
هنا جاء الربط، بحسب مؤسسة “Burke’s Peerage”، بين نسب الملكة إليزابيث الذي قالت المؤسسة إنّه يعود إلى سانشو بن ألفونسو السادس من (زائدة أو زايدة الأندلسية)، فالرواية الأولى التي تدّعي أنّ زائدة كانت ابنة للمعتمد بن عباد وقد قدّمها هدية للتحالف مع ألفونسو، تقول إنّ نسب سانشو يخالطه نسب شريف؛ إذ إنّ المعتمد بن عباد اللخمي في نسبه ينتسب إلى أم حيسنية النسب، وهي الزهراء بنت الحسين الأثرم، وهو الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، وبذا تكون الملكة إليزابيث تمتلك نسباً شريفاً.
وهناك رواية أخرى تُثير الشكوك بشأن سانشو نفسه، كونه ابناً لألفونسو السادس من الأساس، إذ إنّ هناك بعض الروايات التي تقول إنّ زائدة كانت حاملاً من المأمون بن المعتمد بن عباد حين قُتل أثناء مداهمة المرابطين لقرطبة، وحين ذهبت إلى بلاط ألفونسو وضعت هذا الطفل ونُسب إلى ألفونسو السادس، وبهذه الفرضية يكون سانشو عبادياً لخمياً يختلط نسبه بأهل البيت، وليس قشتالياً إسبانياً.
ولكنّ الحقيقة التي تُسقط هذه الفرضيات جميعاً هي أنّ سانشو الذي تزعم مؤسسة “Burke’s Peerage” أنّه جدّ العائلة الملكية في بريطانيا قد قُتل طفلاً دون أن ينجب، وذلك في موقعة أقليش عام 501هـ/ 1108م، التي انتصر فيها المرابطون على جيش قشتالة، حيث جعل ألفونسو ابنه سانشو على رأس الجيش، وقد مات ألفونسو كمداً على مصرع ابنه وولي عهده عام 1109م، وتولت ابنته الكونتيسة أوراكا عرش قشتالة بعد أبيها لعدم وجود ولي عهد من الذكور، وبهذا الأمر تسقط فرضية انتساب الملكة إليزابيث إلى سانشو وزائدة من الأساس، وبالتالي الجدل حول امتلاك ملكة بريطانيا لنسب عربي هاشمي، وفق دراسة عنان.
وقد علّق عنان على قصة زائدة واصفاً إيّاها بالأسطورة في كتابه “دولة الإسلام في الأندلس: “تلك هي الحقيقة حول أسطورة زائدة “ابنة” المعتمد بن عباد، وتقديم أبيها المعتمد إيّاها زوجة لألفونسو السادس، اكتساباً لمحالفته وعونه ضد المرابطين، وهي أسطورة لبثت عصوراً تمثل في الروايات الإسبانية الكنسية وغيرها كأنّها حقيقة لا ريب فيها، وقد زاد من غموضها صمت الرواية الإسلامية المعاصرة واللاحقة، والظاهر أنّ المؤرخين المسلمين قد شعروا بما يكتنف هذه القصة من دقة وإيلام للنفوس الكريمة، فآثروا الإغضاء عنها، باعتبارها حادثاً لا أهمية له من الناحية التاريخية”.
بدوره، أكد الباحث التاريخي الشاذلي عباس لـ”بوابة الأهرام” أنّ الأسر النبيلة في أوروبا قد احتفظت بالعديد من المخطوطات والمطويات الأثرية القديمة التي تعود إلى أقدم العصور، وتوضح تسلسل تلك الأسر النبيلة، وكان نصيب الأسد منها في إنجلترا، حيث حفظت بعضها في المتحف البريطاني الملكي ومكتبة كامبيردج، والتي لم تتطرق من قريب أو بعيد إلى صلة الملكة اليزابيث وجدودها بالنسب النبوي الشريف، مثلما ادّعت مؤسسة “Burke’s Peerage” وصحيفة “الديلي ميل” البريطانية.
المصدر حفريات