كريتر نت – العين الإخبارية
قبل 68 عاما اختارت ملكة بريطانيا الراحلة فندق “كريسنت” بعدن اليمنية لقضاء شهر عسلها لترسو بمدينة فقدت اليوم سحرها بفعل الانقلاب الحوثي.
اختارت إليزابيث الثانية عدن التي كانت آنذاك تحت السيطرة البريطانية، وفضلتها على عاصمة الضباب وجميع المستعمرات الأخرى، لتكتب في تلك المدينة ملامح محطة فارقة في حياتها، يستعرضها التاريخ اليوم وهو يودع الملكة إلى مثواها الأخير.
ومساء الخميس، أعلن قصر باكنجهام وفاة إليزابيث الثانية عن عمر ناهز 96 عاما، حيث كانت تعاني من مشكلات عرضية في الحركة منذ نهاية العام الماضي، سببت لها صعوبة في المشي والوقوف.
وبوفاتها، تستعيد محطات حياتها وهجها، بينها فندق “كريسنت” في عدن, الذي اقتفت “العين الإخبارية” أثر الملكة في جنباته.
“كريسنت” وسحر عدن
ففي عام 1954، قررت الملكة إليزابيث ترك عاصمة الضباب، لندن، وجميع مستعمرات بلادها في ذلك الوقت، واختارت مدينة عدن لتقضي فيها أجمل فترات حياتها.
بل يقال إنها مددت زيارتها لشهر إضافي في المدينة الواقعة جنوبي اليمن، ما يضفي على تاريخ الفندق هالة تضاعف من عناصر جذبه وقيمته التاريخية.
الفندق اختارته ملكة بريطانيا لقضاء شهر عسلها قبل 68 عاما، غير أن حاله تبدل اليوم جراء الاعتداء الحوثي الذي طال ملامح جمال المدينة، خلال معارك دارت عام 2015.
وحين تقف أمام فندق “كريسنت” بمنطقة التواهي في عدن لن تحتاج إلى النبش في مجلدات التاريخ، لسبر أغوار المعلم الأثري المنتصب قبالتك، وإنما يكفيك أن تقف أمام رمز أثار فضولك لتكتشف كواليس المكان والزمان.
مبنى من ثلاثة طوابق بشرفات عميقة، وأسقف عالية، صُممت بهدف التخفيف من وطأة الحر على رواده، ومنح إطلالته بهرجا وشموخا يليق بفندق اختارته ملكة بريطانيا إليزابيث لقضاء شهر عسلها مع زوجها فيليب قبل ٦8 عاما.
ومع أن الفندق يعتبر الأول من نوعه في شبه الجزيرة العربية والخليج، حيث أنشئ عام 1930، إلا أن قضاء ملكة بريطانيا شهر عسلها فيه ما يزال عالقا بالذاكرة الجماعية للسكان وحتى العالم حول هذا المعلم الأثري الشهير.
يوم تاريخي ذلك الذي رست فيه سفينة الملكة في ميناء عدن، لتحظى باستقبال رسمي وشعبي حاشد، قبل أن تتوجه في سيارة مكشوفة إلى فندق “كريسنت”، وتنزل منها شاخصة نظرها إلى أعلى المبنى تتفحصه، قبل أن تخطو باتجاه المدخل، وتصعد إلى الطابق الثاني وتحديدا إلى الغرفة رقم 121.
ويبدو أن الملكة لم تقاوم سحر الفندق المطل على ميناء المدينة، وجمال وبساطة المناظر الطبيعية المحيطة به، والهدوء المهيمن على المكان بشكل عام، فأمرت بأن يمتد شهر العسل إلى شهر آخر.
ومن شرفات نوافذ جناحها الخاص، كان صوت دقات ساعة “بيج بن”، النموذج المصغر لساعة “بيج بن” الشهيرة في لندن، يتناهى إلى مسامعها بينما كانت تستمتع بوجودها في هذه المدينة.
كان الفندق يجمع بين دفء المدينة اليمنية والسحر، وما يكنه المرء من حب للمكان الذي تعود عليه، ففيه شكّل إحساس الملكة بأنها في عدن الخلابة، وصوت عقارب ساعة “بيج بن”، مزيجا رائقا لعشق مكان جديد وألفة المكان القديم.
ومما يزيد في جمال المشهد من شرفات جناح الملكة، هو موقع الساعة المنتصب على مرتفع جبل البنج سار، المطل على ميناء عدن وحي التواهي من الجهات الأربع، والساعة مصممة على شكل صاروخ على أهبة الاستعداد للانطلاق، أما سقفها فيشبه إلى حد ما مثلثا متساوي الأضلاع، مطليا بمادة القرميد الأحمر.
عسل الملكة
وبالنسبة للإعلامي اليمني شكري أحمد، يُعد فندق “كريسنت” من المعالم الأثرية والسياحية البارزة في عدن، باعتباره “أول فندق بُني في بلاده، بل وشبه الجزيرة العربية، في فترة كانت فيها عدن تضاهي أجمل مدن العالم”.
ويقول شكري أحمد لـ”العين الإخبارية” إن الفندق اكتسب شهرته الواسعة والكبيرة عقب قضاء الملكة إليزابيث شهر العسل بعد زواجها إبان فترة الخمسينيات”، مضيفا أن “عددا من مشاهير العالم والوطن العربي ترددوا على الفندق أيضا، بينهم الفنان السوري الراحل فريد الأطرش، الذي سكن فيه بحسب بعض المؤرخين سنة 1956”.
لكن المدينة الآمنة الحالمة المستقرة لم يُكتب لها أن تحتفظ بهذا المعلم التاريخي، إذ تعرضت عدن لحرب عدوانية شنتها مليشيات الحوثي عام ٢٠١٥، بعد أن انقلبت على مؤسسات السلطة الشرعية بالعاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول ٢٠١٤.
حربٌ أذاق فيها الحوثيون أهل عدن صنوفا من المعاناة، بل إنها كانت -وفق سكانها- طاحنة أكلت الأخضر واليابس، قبل أن تحررها قوات التحالف العربي لدعم الشرعية عام ٢٠١٥.
علقم الحوثي
ما بين الأمس واليوم، ذوى جمال عدن، وخفت بريقها، وفقد فندق “كريسنت” ملامحه جراء الاعتداءات الحوثية التي طالت مواطن الجمال بالمدينة وشوهتها، وخربت الجدران، وقصفت الواجهات.
احتلت المليشيات الانقلابية المدينة عام 2015، فعاثت فيها فسادا، واستهدفت معالمها الأثرية، والفندق الشهير بشكل خاص، قبل أن تتمكن قوات الشرعية من دحرها واستعادة المدينة.
“فنادق وأسواق كانت يوما عامرة بزوارها، وأحياء زاهية بألوان الفرح المنبعثة من منازلها، وأضواء السَّمَر المتراقصة مساء في أزقتها، كلها اندثرت حين غدت المدينة مسرحا لحرب ظالمة أشعلتها المليشيات الانقلابية، لتتحول خلال أشهر معدودة، إلى مدينة أشباح يلفها الموت من كل مكان”، يُكمل الإعلامي اليمني شكري أحمد حديثه.
ويستطرد “في عدن سكب الطغاة الحوثيون حقدهم الدفين على المدينة، حيث تعرض فندق كريسنت للدمار والتخريب، وسُرقت جميع محتوياته المصنوعة في بريطانيا”.
اليوم، فقد ذلك الفندق الذي سحر ملكة بريطانيا قبل عقود من الزمن، إلى مبنى شبه مدمر ومهجور، تحوم حوله الغربان وتتخذ من بعض تقاطعات جدرانه أعشاشا.
لكن الأمل لا يزال يتملك شكري وكثيرين من أبناء عدن بأن يستعيد الفندق إكسير الحياة حتى يستعيد بريقه المدفون ومكانته المرموقة من تحت ركام العبث والتدمير الذي تسببت فيه مليشيات التخلف والرجعية الحوثية.