جاد الكريم الجباعي
كاتب سوري
لا يستقيم تعريف التراث (غير المادي) إلا انطلاقاً من تعريف الثقافة، في جانبها النظري، بأنّها نسيج مركب وفائق التعقيد من المُدَركات الحسية والعقلية، والمعارف الموروثة والمكتسبة، والأفكار والتصورات والتخيلات والذكريات، والآداب والعلوم والفنون، والحكايا والسرديات والأساطير والخرافات … وما يتسرب إلى هذه جميعاً من البنى الذهنية – النفسية الظاهرة والخافية، الشعورية واللاشعورية أو الواعية واللاواعية، الفردية منها والجمعية، وكيفية انتظامها جميعاً في أنساق وبنى لغوية ودلالية ورمزية وسيميائية وجمالية … تشكِّل مجتمعةً الوعيَ والفهمَ والعقلَ والذوق، وتنفتح على فضاء غير محدود من المعاني والقيم، وتُترجم أو يمكن أن تترجم إلى أفعال.
في ضوء هذا التعريف، وعلى أساسه ننظر إلى “التراث” على أنّه ركن من أركان الثقافة السائدة والمسودة، الثقافة، التي تسم المجتمعات الصغيرة والمجتمع الكبير، في مكان وزمان معينين، والتي لا تنفصل آليات تشكلها عن آليات تشكل المجتمعات الصغيرة والمجتمع الكلي. ومن ثم، إنّ التراث هو مما يملأ الحاضر، حاضر المجتمع المعني والأمة المعنية والشعب المعني؛ التراث هو الحاضر، لا الماضي ولا الغائب. وتاريخية التراث هي شكل حضوره وفاعليته، في حياة المجتمع وثقافته، ببعديها النظري والعملي، المعرفي والأخلاقي، وكيفية استعماله.
الدراسة العلمية للتراث تعني أن يُعامَل على أنّه جملة من الوثائق يُستدل منها على عصرها لا على عصرنا
التراث إذن، هو ما يستعمله أفراد المجتمع المعني، ذكوراً وإناثاً، في حياتهم اليومية، الخاصة والعامة، وما يتداولونه من أفكار ومعان ورموز وقيم موروثة، إما على وجه المحاكاة والاستظهار والتكرار والتباهي … وإعادة إنتاج النظام الاجتماعي والسياسي وعلاقات القوة1، من خلال النظم التربوية والتعليمية، وإما على وجه النقد والتجديد والابتكار والإبداع. وهذا مما يعين الفرق بين الاستعمال المعرفي والأخلاقي للثقافة، والتراث ضمناً، وبين الاستعمال “النفعي” أو الأيديولوجي. الأمم التي استفادت من تراثها لم تنظر إليه على أنّه ماض “مجيد” تجب استعادته أو إحياؤه، ولم تقدسه، بل طورت أسئلته ومسائله وفقاً لمنطق العصر الحديث ومبادئ الحداثة وقيمها ومناهجها.
فالتراث، من ثم، هو مما يعيِّن مضامين العلاقات الاجتماعية والإنسانية المتبادلة بين الأفراد، ومضامين نقاشاتهم وحواراتهم ومداولاتهم العفوية.
بهذا تتعدد مستويات استعمال الثقافة أو استهلاكها، بوجه عام، واستعمال “التراث” أو استهلاكه، بوجه خاص، وتختلف باختلاف الشروط الموضوعية والذاتية، التي تحدد مواقع الأفراد ومنظوراتهم. فإنّ التفاوت الاجتماعي، وما يلازمه عادة من تفاوت معرفي وثقافي لا يسمح بإطلاق أحكام عامة حول علاقة المجتمع بتراثه، على نحو ما هو شائع في النزعات التراثية و”القراءات التراثية”، ولا يسمح بتحديد ماهية التراث الذي يستعمله هذا المجتمع الصغير أو ذاك، وهذه الفئة الاجتماعية أو تلك أو هذه الشريحة العمرية أو تلك، ضمن المجتمع الكلي، إضافة إلى الفروق المعرفية والثقافية بين النساء والرجال، في ظل الحرمان المعرفي والثقافي، الذي تعاني منه أكثرية النساء، و”الهيمنة الذكورية”، التي تصير بموجبها النساء قيِّمات على الثقافة الذكورية السائدة.
في ضوء التفاوت والاختلاف المشار إليهما تبدو مقولتا “الثقافة العربية” و”التراث العربي” مقولتين أيديولوجيتين مضللتين، لا تقدمان أي معرفة موضوعية بالواقع، وكذلك مقولة “الثقافة الشعبية”، كما يستعملها برهان غليون، ويعارض بها ثقافة النخبة و”مجتمع النخبة”.
في ضوء التفاوت المشار إليه تبدو مقولتا “الثقافة العربية” و”التراث العربي” أيديولوجيتين مضللتين لا تقدمان أي معرفة موضوعية بالواقع
الدراسة العلمية للتراث، هي نوع من القراءة والتأويل، يتوخى منه الدارس أن يكون أقرب إلى الموضوعية، وتعني أن يُعامل التراث على أنّه جملة من الوثائق (لا يمكن القطع بصحتها وصدقها2)، يُستدل منها على عصرها، لا على عصرنا، أي على الشروط الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية، التي أنتجتها، وعلى نمط إنتاج الخيرات المادية والمعنوية ومبادئ إنتاج السلطة، والقيم التي كانت توجه المجتمع المعني في ذلك الزمن. ولهذا قيمة معرفية بالطبع، لكن هذه القيمة لا تكتمل، ولا تستوفي شرطها الأخلاقي، إلا إذا اقترنت باكتشاف الأسئلة والمسائل التي تنطوي عليها هذه الوثيقة أو تلك، هذا النسق من الوثائق أو ذاك. ولا تكون الأسئلة والمسائل ذات قيمة وفائدة للمجتمع المعني (السوري أو المصري … إلخ) إلا بقدر ما تكون من النوع الذي يهم الجماعة الإنسانية كلها، لا المجتمع المعني فقط. وهذه واحدة من آليات تجديد المعرفة والثقافة والارتقاء بهما إلى الكونية. فلا فائدة ترجى من قراءة التراث أو دراسته إذا لم تؤدِّ القراءة والدراسة إلى هذه الغاية.
“لا يستطيع أحد أن يدعي أنّه يدرس التراث دراسة علمية، موضوعية، إذا بقي هو، أي الدارس، في مستوى ذلك التراث. لا بد له قبل كل شيء أن يعي ضرورة القطيعة وأن يقدم عليها”3. فلا يمكن التفكير في الديمقراطية وحرية الفرد وحقوق الإنسان، على سبيل المثال، أو في الحرية والمساواة والعدالة من دون قطيعة معرفية وأخلاقية مع التراثات المختلفة والمتخالفة، بصفتها الثقافات السائدة في مجتمعات متنثِّرة، لا تتشارك في المعاني والرموز والقيم.
القطيعة، التي نعنيها، هي بالضبط قطيعة معرفية وأخلاقية مع السلفية والأصولية والتطرف والعنف ومع الاستبداد والرعوية. فلا بد أن يوضع السؤال الآتي على طاولة البحث: ألم يكن لكل قبيلة من القبائل العربية، قبل الإسلام وفي صدر الإسلام أو “فجر الإسلام”، بما فيها تلك القبائل، التي تقرَّشت (من قريش) ثقافتها و”تراثها”: أعرافها وعاداتها وتقاليدها وعقائدها وعباداتها وطقوسها وأيامها وأخبار تلك الأيام وسردياتها .. ألم يكن لكل منها شعراؤها وحكماؤها وكهانها ورواتها وسير ساداتها وأبطالها… إلخ، وإلا كيف أمكن للإسلام أن يكون؟ نزعم أنه لا يمكن وضع تاريخ تعاقبي دقيق لأي مجتمع، ولا يمكن من ثم، وضع تاريخ تعاقبي للثقافة بوجه عام وللتراث بوجه خاص. إنّ الزعم بإمكان كتابة تاريخ شامل لأمة بعينها أو لثقافة بعينها هو أشبه ما يكون بخلق تلك الأمة أو تلك الثقافة من الكلمة: (كوني)، بل، كوني كما نشاء.
وهذا بالضبط ما يعنيه بعث الأمة وإحياؤها أو بعث الثقافة وإحياؤها، أو إحياء التراث.
هوامش:
1- نشير إلى مفهوم إعادة الإنتاج عند عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو. راجع/ي، بيير بورديو وجان – كلود باسرون، إعادة الإنتاج، ترجمة ماهر تريمش، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007، ص 179.
2 – للشعر المنحول، أو الأحاديث الموضوعة على لسان النبي محمد، عليه السلام، على سبيل المثال، قيمة وفائدة لا تقلان عن قيمة الشعر الأصيل والأحاديث الصحيحة، من حيث الدلالة على الظروف، التي استدعت نحل الشعر ووضع الأحاديث.
3- عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، ص 11.
المصدر حفريات