منير أديب
التقيت عدداً كبيراً من قادة العنف ومسؤولي الأجنحة المسلحة في التنظيمات المتطرفة ضمن مهمات صحافية وبحثية، ربما أتاحت لي التعرف الى المرتكزات الفكرية التي يستند إليها أمراء هذه التنظيمات في إقرارهم العنف، فأكثر الأمور التي تبدو لافتة أن هؤلاء المتطرفين يُبررون استخدامهم العنف وفق اجتهادات فقهية تتسق مع طبيعتهم النفسية غير السوية، والتعليق هنا على ليّ عنق النص الديني حتى يتوافق فهمه مع الطبيعة الشخصية المضطربة لقادة هذه التنظيمات.
العجيب أن بعض هؤلاء المتطرفين ادّعوا أنهم راجعوا أفكارهم، فهم يُبررون العنف من موقع الرفض له! فهؤلاء أخطر بكثير من الذين يُمارسون العنف من دون أي مراجعة سابقة؛ الذين راجعوا أفكارهم أو تراجعوا قليلاً عن بعض الأفكار يُقدمون أفكارهم الجديدة أو القديمة التي ألبسوها حلّة جديدة حتى تبدو مختلفة، وفي الحقيقة هي إعادة تأصيل للعنف، وقد يكون العنف الناتج منها أخطر لأنه يرتدي ثياب “المراجعات الفكرية”.
هذه القيادات راجعت أفكارها بعدما شاركت في مبادرات وقف العنف التي أطلقت في مصر مع نهاية التسعينات من القرن الماضي، وربما كان لها إسهامٌ في تصحيح بعض المفاهيم المتعلقة بالجهاد، ورغم ذلك لا يزال جزء من هؤلاء يُمارسون العنف تحت لافتة “المراجعات الفقهية”، وهذا النوع من أمراء الدم أخطر بكثير من الذين يُمارسون العنف من دون أي مراجعة، فقادة العنف من هذه النوعية يُهددون بأفكارهم الظلامية العقل الإسلامي بما يطرحونه من أفكار تبدو بعيدة من العنف ولكنها منحازة له.
فرق شاسع بين المراجعة الفكرية والفقهية والتراجع عن استخدام العنف؛ لا يمكن وصف المراجعات الفكرية والفقهية التي قامت بها جماعات العنف والتطرف في مصر في العام 1997 بأنها تراجعات حتى ولو انقلب عليها بعض من أصحابها، فكما تراجعت عنها بعض القيادات، هناك من آمن بها ودافع عنها، فنجحت في تصحيح بعض المفاهيم الشرعية والفقهية التي حركت قطاعاً كبيراً من الشباب عن العنف، ولا تزال هذه المراجعات تمثل نبراساً يمكن الاهتداء به وسط جهالات الاجتهادات الفقهية لهذه التنظيمات.
ولكن السؤال، هل نجحنا في استثمار المبادرات الفكرية والفقهية التي طرحتها جماعات العنف والتطرف في المنطقة العربية؟ ولماذا لا نعيد التجربة مع تلافي بعض عيوبها السابقة التي أدت إلى انقلاب البعض عليها؟ وهل يتصور البعض أننا يمكن أن نواجه ظاهرة الإرهاب من دون أن نطرح المراجعات كأحد أهم استراتيجيات المواجهة؟ مواجهة من خلال تصحيح المفاهيم.
لا بد من إعادة إحياء المراجعات الفكرية والفقهية، من خلال مشاركة المؤسسات الدينية والمجامع الفقهية، بهدف تصحيح المفاهيم الدينية المغلوطة، وأن تقدم المفاهيم الصحيحة لكل من وقع في براثن الفهم الخاطئ للدين، ولا بد من تشجيع هؤلاء المتطرفين على مراجعة الأفكار والتوجهات الفقهية وتقديم التصور الصحيح للأفكار التي تعبر عن حقيقة الدين.
ولا بد من أن يقدم الباحثون والمختصون رؤيتهم لهذه المراجعات، فيعملوا على استثارتها وتشجيعها، وقراءة الوقت والظرف المناسب لانطلاقها بعد تهيئة البيئة المشجعة عليها، وعليهم أن يقرأوا ظاهرة العنف بشكل حقيقي، فليس كل العنف مآله توجه فقهي غير صحيح أو رؤية للدين غير منضبطة، وتبدو هنا مهمة الباحث والمراقب المختص.
مشكلة بعض قادة العنف تبدو نفسية وشخصية؛ فقد تجد الكثير منهم يمارسون العنف وفق طبيعة غير سوية، لا علاقة لها بالتصورات المتعلقة بمفاهيم القتال والجهاد في سبيل الله،؛ فهؤلاء يحتاجون لعلاج نفسي أكثر منه لتصحيح المفاهيم الدينية، وهذه مهمة ليست ميسورة، فالعلاج النفسي يأخذ وقتاً طويلاً وقد يأتي بنتيجة وقد تكون النتيجة مخيبة للأمال.
وهنا نطرح للمناقشة أن يكون المشاركون في الإشراف على المراجعات الفكرية والفقهية بعض الأطباء النفسيين؛ فالشخصية العنيفة لها دوافع نفسية وفقهية، التعرف الى هذه الدوافع قد يساعد في علاجها والتخلص من آفة العنف.
نشأت “الجماعة الإسلامية” في صعيد مصر، تلك التي واجهت السلطة على مدار عقدين كاملين بدأت من فترة الثمانينات ولم تنتهِ إلا مع نهاية التسعينات من القرن الماضي، ولذلك غلب على أعضاء الجماعة وقادتها الغلظة بحكم النشأة وربما غلفوا هذه الغلظة بالتوجه الديني وهذا ما حدث بعد ممارسة العنف، والأدل على ذلك أن الجماعة كتبت مواثيق العنف في السجن بعدما قتلت الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فبعدما مارست العنف بدأت تبحث عن تخريج شرعي له.
كانت “الجماعة الإسلامية” تقوم بوضع طواقم للحراسة على اللقاءات التي كانت تصفها بأنها دعوية وإيمانية في المساجد، فقد تجد الداعية الذي ينتمي الى الجماعة يتحدث في المسجد عن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة واللين والرحمة، بينما يقف من يحمي هذا الدرس بأسلحة ومقذوفات، وربما يدخل في صدام مسلح مع أجهزة الأمن التي كانت تسعى الى فض مثل هذه التجمعات المحرضة.
قال لي أحد أعضاء “الجماعة الإسلامية” الذين استخدموا العنف ثم راجعوا أفكارهم: لن نستخدم العنف حتى مع زوجاتنا! هذه القيادة وغيرها انقلبت على مفاهيم المراجعات بعد ثورة 30 حزيران (يونيو) عام 2013 في مصر كأهم اختبار لهذه المراجعات، فأول رصاصة خرجت ضد الدولة كانت من أعضاء الجماعة وكانت ترجمة لتحريضها المستمر ضد خصومها.
التقيت أحد قادة العنف داخل سجن العقرب، الذي خصص لقضاء عقوبة الحبس على قادة الأجنحة العسكرية في “الجماعة”، في هذا اليوم نفسه التقيت محمد الظواهري، شقيق زعيم تنظيم “القاعدة” المقتول، أيمن الظواهري، ومصطفى حمزه، رئيس مجلس شورى “الجماعة الإسلامية” في الخارج والعقل المخطط لمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في العام 1995، ولأن طبيعة المهمة الصحافية صادفت حالة الفوضى التي أعقبت ثورة 25 كانون الثاني (يناير) عام 2011، فسمعت كلاماً عجيباً عن صحة موقف قادة العنف، وقد ادّعى بعضهم أن ما حدث في الشارع المصري، هو امتداد لما سمّوه بنضال هذه التنظيمات ضد الدولة على مدار عقود وهو ما يتطلب إعادة النظر في المبادرات الفكرية كمحاولة لتصحيح المفاهيم المغلوطة.
نقلاً عن “النهار” العربي