مهند الجنابي
فرض بيان المرجع الديني كاظم الحائري في 29 آب الماضي تداعيات آنية تمثلت بتقييد الحراك السياسي لزعيم التيار الصدري عبر إعلان اعتزاله السياسي بعد ساعات من صدور البيان، وعلى الرغم من تشكيك السيد مقتدى الصدر أن يكون اعتزال الحائري وبيانه بإرادته، وما يؤكد شكوك الصدر أن بيان الحائري لم يكتب بخط يده فالمراجع الشيعية كافة تكتب بياناتها بخط اليد وإلى جانبه يطبع النص إلكترونياً لإثبات صحة البيان وعدم صدوره من حاشيته أو جهة أخرى، إلا أن الصدر أمر أتباعه في اليوم التالي بالانسحاب من المنطقة الخضراء وفضّ الاعتصام الذي استمر 30 يوماً وحال دون تمكّن مجلس النواب من عقد جلساته حتى الآن.
إلا أن هذه التداعيات الآنية ستكون لها آثار مختلفة في المستقبل على الحراك السياسي للصدر من جانب، وعلى شكل العلاقة الدينية بينه وبين إيران والسياسية بينه وبين قوى الإطار التنسيقي من جانب آخر، إذ أصبحت الخارطة السياسية الشيعية تتوزع الى ثلاث اتجاهات، يجسّد التيار الصدري الاتجاه الأول المتمثل بالخط الشيعي الوطني، فيما يُعبر الاتجاه الثاني عن الاسلام السياسي الشيعي المسلّح المتمثل بالقوى التقليدية كحزب الدعوة ومنظمة بدر وتيار الحكمة وحركة عطاء وحزب الفضيلة، بينما يجمع الاتجاه الثالث القوى الولائية العابرة للحدود المتمثلة بالفصائل السياسية والمسلحة كعصائب اهل الحق، وحركات النجباء وسند وحقوق، وكتائب حزب الله وسيد الشهداء.
“الأعلمية” تُحرر الصدر من القيود المرجعية.
تعتمد المدرسة الفقهية للصدر الثاني (السيد محمد محمد صادق الصدر) مبدأ (الأعلمية) كشرط أساسي في التقليد والولاية ويُقصد بها المرجع الأعلم من غيره في اصول الدين التي وضع اُسسها الصدر الأول (محمد باقر الصدر)، وتختلف بذلك عن حوزة قُم وولاية الفقيه التي تعتمد شرط (الأقدر والاكفاً) لقيادة الأمة، وقد أوصى الصدر الثاني أتباعه بالسيد الحائري بوصفه الأعلم من بعده، ولم يُشر في أي مناسبة الى ان علي خامنائي يمتلك الاعلمية، واكتفى في احدى المناسبات بالاشارة الى القول “لا اعتقد ان السيد الخامنائي يرى في نفسه الأعلمية ولكن مع ذلك اقول انه ينبغي أن يُفتى شرعاً بولايته على المنطقة التي يحكمها – أي ايران”.
وبذلك فلا يعترف الصدر الثاني بأية ولاية لخامنائي خارج حدود بلاده، ويظهر ذلك جلياً في مواقف ولده السيد مقتدى الصدر عندما أسس مشروعه السياسي على مبدأ (لا شرقية ولا غربية) وما ذكرته وكالة رويترز في وقت سابق أنه خاطب قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني بعبارة “ما هي علاقتك بالشأن العراقي”.
وبالعودة لتداعيات بيان الحائري، تؤكد الوقائع أنه ومنذ صعود الدور السياسي للسيد مقتدى الصدر بعد عام 2003 لم يكن للحائري تحكّم سياسي بمواقف التيار الصدري، ومِما لم يتم التركيز عليه في تغريدة اعتزال الصدر أنه أشار الى أن قيادته السياسية للتيار الصدري هي فضل من الله وفيض والده السيد محمد محمد صادق الصدر وليست فضلاً أو أمراً من الحائري او الاخرين بقوله “يظن الكثيرون بما فيهم السيد الحائري دام ظله ان هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم. كلا، ان ذلك بفضل ربي أولاً وفيوضات السيد الوالد قدس سره الذي لم يتخلّ عن العراق وشعبه” وأعقب ذلك بالتأكيد على أن “النجف الاشرف هي المقر الأكبر للمرجعية كما هو الحال دوماً” قبل ان يختم تغريدته بإعلان اعتزاله النهائي.
وفي اليوم التالي، وبعد كلمة الصدر التي أمر فيها أتباعه بالانسحاب، أوضح وزيره أن المرجع المقصود هو الحائري التزاماً بوصية والده التي انتهى مفعولها باستقالة المرجع، أي أن ما يصدر عن الحائري خلاف منهجية الصدر الثاني غير ملزم بالكامل للسيد مقتدى الصدر، ولكون الحائري أوصى مقلديه بطاعة المرشد الأعلى علي خامنائي، ولأن الأخير لا يمتلك الأعلمية فإن كل ما ورد في بيان الحائري غير ملزم لقيادة وأتباع التيار الصدري كونه خالف بذلك الأسس الفقهية للسيد محمد محمد صادق الصدر.
وفيما يتعلّق بمرجعية أتباع التيار الصدري بعد اعتزال الحائري، فالأصل ان المُكلّف (المُسلم) مُخيّر فيما يقلّد، ولكون الثوابت العقائدية للصدر الثاني سارية حتى الآن، فلا أثر يترتب إلا في مستحدثات الأمور، والتي يرجع فيها المُكلفين للمرجع الذي يرونه الأقرب لهم.
وعلى الرغم من تمكّن ايران اجبار الصدر على التراجع مؤقتاً، إذ يعتقد الاخير ان ايران استهدفته عقائدياً بالإشارة المتكررة الى ان الحائري اُجبر على كتابة بيانه، إلا أن هذا الاستهداف قد يكون من الأخطاء الايرانية التي ستتسبب بخسارة أكبر لها في العراق، فمن المحتمل أن يُعظّم هذا الاستهداف من المنفعة السياسية للصدر، فانقطاع السلطة العقائدية تمكّنه من تعزيز موقعه الرافض للتدخل الخارجي ببعده السياسي المتمثل بالتدخل في مسار تشكيل الحكومة والتحالفات بين القوى السياسية، وبعده العقائدي المتمثل بتبعية وكلاء ايران لعلي خامنائي، كما ان بيان الحائري لا يمثل استهدافاً عقائدياً للصدر أو القوى الشيعية غير الموالية لإيران كقوى تشرين فحسب، إنما يمثل أيضاً استهداف لموقع النجف ومرجعيته الممثلة بالمرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني، فقد دعا الحائري الى دعم وتأييد الحشد الشعبي “كقوة مستقلّة غير مدمجة في سائر القوى” ويمثّل ذلك مخالفة صريحة لفتوى الجهاد الكفائي للسيد السيستاني التي أشارت الى التطوّع للانخراط في القوات الأمنية، ولم تدعو الى تشكيل قوة مستقلة عن القوى الأخرى.
المدخلات السياسية لتعليق الاعتزال
يمكن القول ان من المستبعد للغاية تخيل غياب التيار الصدري عن التفاعلات السياسية في البلاد، ففي تغريدة الاعتزال أشار الصدر الى مبررات تعليق اعتزاله بالقول “إنني لم أدع يوماً العصمة أو الاجتهاد ولا حتى القيادة، إنما آمرٍ بالمعروف وناهٍ عن المنكر” فضلاً عن تجارب الاعتزال السابقة لمراتٍ عدّة، ومثّلت الزيارة الأربعينية فرصة للمناورة والصمت السياسي، استجابة للتحديات التي تعرض لها من قبل ايران وقوى الاطار التنسيقي الحليفة لها، والتزاماً بالعزلة التي أعلن عنها في 30 آب الماضي.
ففي الأوساط السياسية الشيعية تمكّن الصدر من توظيف عزلته للالتفاف على ضغوطات إيران وحلفائها، وحصد مكاسب ذلك في فرض رضاه عن الحوارات السياسية رغم عدم حضوره في الاجتماعات التي عُقدت برعاية رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، كما أسهم ذلك الصمت في إظهار التفكك العمودي لقوى الاطار التنسيقي، إذ اختلفت المواقف السياسية بين العامري والخزعلي الذين يجمعهم تحالف الفتح، كما تناقضت ذات المواقف بين الحكيم والعبادي الذين يجمعهم تحالف قوى الدولة، الى الدرجة التي يمكن القول ان الصدر تمكّن من تصفير تحالفات قوى الاطار التنسيقي التي تشكّلت قبل الانتخابات الأخيرة.
حضوره غيابياً والمواقف السياسية لحلفائه في الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة من المحتمل ان يفرض على خصومه في الإطار التنسيقي العمل على انهاء عزلته السياسية لدفع مسار تشكيل الحكومة الى الامام، وهو ما تجسد فعلياً في المبادرة التي يفترض أن تنطلق بعد الزيارة الأربعينية بزيارة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي ورئيس اقليم كردستان نيجيرفان بارزاني ورئيس تحالف الفتح هادي العامري الى الحنانة، والتي قد تدفع الصدر لإنهاء الاعتزال.
كما أن استعدادات قوى الاحتجاج من تشرين وانسجامها مع جماهير التيار الصدري للتظاهر في الذكرى الثالثة للثورة قد يدفع الصدر أيضاً لإنهاء عزلته وقيادة جماهيره نحو التغيير، إذا ما تورطت إيران وحلفاءها لتكرار أحداث الخضراء مرة أخرى، إلا أن تكرار ذلك قد ينهي حلفاء إيران ويجهض أي فرصة لتشكيل الحكومة، إذ يفترض هذا دخول العشائر على خط المواجهة دعماً للقوى الاحتجاجية في مواجهة حلفاء ايران، لاسيما بعد الاعتقالات التي قامت بها مديرية أمن الحشد الشعبي بحق معارضين بتهم كيدية تسببت في وفاة الشيخ إقبال دوحان زعيم عشيرة آل مرمض في محافظة القادسية.
نقلاً عن “العربية”