كريتر نت – متابعات
توفي ميخائيل غورباتشوف الزعيم السوفييتي السابق في الشهر الماضي عن عمر ناهز 91 عاما، واشتهر في الغرب بالبيريسترويكا والغلاسنوست، لكن ثلاث كلمات روسية أخرى مألوفة أيضا كانت أكثر أهمية في فترة حكمه وللسقوط السوفييتي الذي نتج عنه وهن: الغاز والنفط والذرة.
ويستمر النهج الذي وضعه غورباتشوف للتعامل مع ركائز الاقتصاد السوفييتي في تشكيل علاقات روسيا مع العالم الخارجي.
ويقول المحلل الاقتصادي روبن ميلز في تقرير لموقع سنديكيشن بيورو المختص في شؤون الشرق الأوسط، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يرث من غورباتشوف توجهاته السياسية لكنه ورث نفطا وغازا.
وكان الحدث الأكثر دراماتيكية في عهد غورباتشوف، قبل الانقلاب الفاشل، هو الحادث النووي في عام 1986 في تشيرنوبيل، حيث كانت تكلفة التنظيف هائلة، وقدرت بنحو 68 مليار دولار مقارنة بأموال اليوم وشارك فيها حوالي 500 ألف شخص.
روبن ميلز: بوتين يتمتع بهيمنة هشة للطاقة أساسها مخطط هش
وتم التخلي بعد ذلك الحادث عن خطط التحول من طاقة النفط والغاز إلى الطاقة النووية، وتمثل الضرر الأكبر في الكشف للعالم عن ضعف الكفاءة التقنية للنظام السوفييتي وعدم الأمانة من خلال اتهامات لا يمكن إنكارها لعداد جايجر لكشف النشاط الإشعاعي.
وأدى الاستغلال السريع لحقول النفط العملاقة في غرب سيبيريا إلى إبقاء اقتصاد الاتحاد السوفييتي على قيد الحياة من خلال طفرة أسعار النفط في السبعينات، ولكن تحول ذلك إلى مشكلة في أواخر الثمانينات، حيث أدت الممارسات التشغيلية غير المحسوبة والافتقار إلى التكنولوجيا الحديثة إلى الاستغلال المبالغ فيه، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، وارتفعت صادرات النفط بشكل قوي حتى عام 1983 لكنها انخفضت بعد ذلك.
وكان البترول ضروريا لتغذية الصناعات السوفييتية التي افتقرت إلى كفاءة الطاقة، ولدعم الدول العميلة في أوروبا الشرقية، ولكسب العملات الأجنبية لشراء السلع التقنية وحتى القمح.
وتصاعدت التوترات بين الاتحاد السوفييتي والأعضاء الآخرين في دائرته الاقتصادية، حيث أرادوا النفط الرخيص بينما فضلت موسكو البيع للغرب مقابل الدولار والمارك الألماني، وأصبح الشتاء في بولندا ورومانيا باردا وتضور البعض من الجوع.
ويعود الفضل عند البعض في خفض أسعار النفط لتقويض دعائم الاقتصاد السوفييتي إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان، ولكن في حين أن الأسعار انهارت في عام 1986، حيث انخفضت من 30 دولارا للبرميل إلى 10 دولارات، فقد ظهرت هذه الخطة الرئيسية المزعومة في الرياض وليس واشنطن، حيث أدركت المملكة العربية السعودية في وقت متأخر أن سياستها في خفض الإنتاج للدفاع عن الأسعار كانت غير مستدامة في مواجهة “الغش” المتمثل في فائض الإنتاج من قبل زملائها في أوبك، وارتفاع مستوى الإنتاج من قبل الأعضاء خارج أوبك.
ومع إغراق المملكة العربية السعودية للسوق بالنفط لهزيمة منافسيها، سافر نائب الرئيس الأميركي جورج بوش، وهو رجل نفط من تكساس، إلى المملكة العربية السعودية لطلب تقليل الإنتاج، حيث أراد أسعارا أعلى لحماية شركات الحفر المحلية في الولايات المتحدة.
صادرات الغاز إلى أوروبا الغربية في عهد غورباتشوفنمت نمت من 29 مليار متر مكعب في عام 1983 إلى 63 مليار متر مكعب في عام 1990
وفشلت جهود بوش، لكن الانخفاض في عائدات النفط أدى إلى تقويض دعائم الاقتصاد السوفييتي، كما أوضح رئيس الوزراء الروسي السابق إيجور غيدار، ولم يتمكن السوفييت من دفع فواتيرهم أو استيراد المواد الغذائية دون اعتمادات غربية، كما كان سيتم قطع تلك الاعتمادات إذا قمع غورباتشوف الحركات المؤيدة للديمقراطية في أوروبا الشرقية، كما فعل أسلافه نيكيتا خروتشوف وليونيد بريجنيف، وأدى ذلك إلى سقوط جدار برلين، ثم إلى تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه.
لكن هنا جاء المنقذ وهو الغاز. حيث وافق الاتحاد السوفييتي لأول مرة على بيع الغاز خارج الستار الحديدي في عام 1968 إلى النمسا، وأعربت الولايات المتحدة مرارا عن مخاوفها بشأن اعتماد أوروبا المتزايد على الغاز السوفييتي، على الرغم من أن حجم الغاز كان صغيرا في البداية. وفي عهد ريغان، عندما تم استبدال الانفراج بالمواجهة، طبقت واشنطن عقوبات وضغوطا دبلوماسية وتجارية لمحاولة إيقاف خطوط الأنابيب الروسية الجديدة.
وفي عهد غورباتشوف، الذي تولى السلطة في عام 1985، نمت صادرات الغاز إلى أوروبا الغربية بشكل كبير، من 29 مليار متر مكعب في عام 1983 إلى 63 مليار متر مكعب في عام 1990، واستمر ذلك حتى مع انهيار الإمبراطورية السوفييتية.
ويقول ميلز إن تجارة الغاز هذه لم تكن أحادية الجانب كما ستصبح عليه في عهد الرئيس الروسي بوتين.
وظلت روسيا مرتبطة بأوروبا الغربية عن طريق خطوط الأنابيب بعد عام 1991، حيث كانت تلك الدول المستقلة حديثا، ولاسيما أوكرانيا وبيلاروسيا، واحدة من الأدوات القليلة التي كانت في حوزة روسيا الضعيفة في التسعينات لإكراه الجمهوريات السوفييتية السابقة. وحوّل بوتين الذي كان شخصية مختلفة تماما عن غورباتشوف أو وريثه في الكرملين بوريس يلتسين تلك الأداة إلى سلاح ووسّعها إلى ألمانيا ودول أخرى خارج الستار الحديدي السابق.
شركة روساتوم أفلتت حتى الآن من العقوبات، لكنها قد تواجه تحديات تمويلية مع قلق العملاء من تعميق اعتمادهم في مجال الطاقة على روسيا
وأعيد تمثيل خليفة وزارة الغاز السوفييتية غازبروم كبطل الدولة، حيث تضاعفت حصة روسيا من استهلاك الغاز في أوروبا ثلاث مرات، لتصل إلى 184 مليار متر مكعب في عام 2021، وتوسعت الثغرة في الدرع الحديدي وأصبح الفارس بلا حماية.
وبالمثل فإن احتكار خط الأنابيب “ترانزفت” و“روزنفت” كان وسيلة حليف بوتين إيغور سيتشين، والتي جعلت الطبقة الثرية التي تقتات على البترول في التسعينات منفيين أو خدما للكرملين، وأصبحت روسيا منافسة أوبك وأحيانا ضحية لها طوال فترة الثمانينات والتسعينات، ثم أصبحت شريكا في تحالف أوبك+ في عام 2016، وساعدت أسعار النفط المرتفعة روسيا على بناء صندوق لتمويل الحرب، مما منع الغرب من الحصول على قروض ضدها.
وتمتد خطوط الطاقة الروسية إلى أبعد من ذلك من خلال شركة روساتوم للطاقة النووية التابعة للحكومة الروسية، حيث تقدم الشركة اليوم حلولا متفوقة تقنيا لمفاعل “رامبك” الذي انفجر في تشيرنوبيل، وفي الواقع كانت الشركة واحدة من مجموعة صغيرة من المصدرين الرئيسيين للطاقة النووية المدنية، وبنت مفاعلات في بوشهر في إيران، وأكويو في تركيا، والضبعة في مصر على سبيل المثال لا الحصر، كما أن روسيا مُصدِّر مهم للوقود النووي.
وأفلتت شركة روساتوم حتى الآن من العقوبات التي فرضها الغرب بسبب الحرب في أوكرانيا، لكنها قد تواجه تحديات تمويلية مع قلق العملاء من تعميق اعتمادهم في مجال الطاقة على روسيا، كما أن القصف الروسي حول محطة زابوريزهزيا النووية في أوكرانيا، وانفصالها عن الشبكة الكهربائية يحملان أيضا تهديدا بظهور سحابة إشعاعية أخرى فوق أوروبا.
ويشير المحلل الاقتصادي إلى أن غورباتشوف لم يكن أمامه سوى خمس سنوات لحل مشاكل الطاقة والاقتصاد المستعصية، وقد قوض ركائز الدولة وهو يحاول إصلاحها، لو كان قد استمتع بحظ بوتين مع ارتفاع أسعار النفط، لكان التاريخ مختلف عما هو عليه الآن. وفي الجانب الآخر، يتمتع بوتين بهيمنة هشة للطاقة تعتمد إلى حد كبير على مخطط ساعد غورباتشوف في صياغته.