حسن فحص
“ژینا” باللغة الكردية بمعنى مانحة الحياة أو هي الحياة نفسها، وفي اللغة الفارسية القديمة بمعنى المرأة المنتصرة، وفي اللغة الفرنسية “النابغة والذكية” وفي الإيطالية اسم لنوع من الورد.
وعلى تعدد الأسماء والمعاني إلا أنه يبقى اسم للفتاة “مهسا أميني” من مدينة سقز في محافظة سنندج الكرية شمال غربي إيران التي خسرت حياتها قبل أيام بعد أن اعتقلتها دورية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو “دورية الإرشاد” من أمام محطة المترو، واقتادها حراس القانون والشرع والأحكام الدينية إلى أحد مراكز الوعظ والإرشاد في شمال مدينة طهران التي جاءتها رفقة أهلها لتكون على مقربة من عاصمة وطن من المفترض به أن يكون حامياً للجماعات والمكونات التي تتشكل منها هويته الجامعة، وحارساً لأحلام وآمال بنيه.
“ژینا” أو مهسا “نظيرة القمر” لم يتحمل قلبها، بحسب الرواية الرسمية لحراس الشرع والأخلاق في الشرطة الدينية، فسقطت مغشياً عليها فاقدة للوعي بين نظيراتها المحجور عليهن وسط جماعة يفتقرون للوعي والمعرفة الإنسانية والدينية والشرعية، فرحلت من هول الخوف والرعب أولاً، قبل أن تقضي عليها اليد المحترفة المنفذة للحدود الشرعية والتعزير، وتنزف أعضاءها بصمت ويكون دمها شاهداً على حجم ما نزل بها، على رغم أن الفاعل أو المحتسب الشرعي كان على استعداد ليقدم دمها النازف شهادة على التزامه بتطبيق أحكام دين السلطة.
لو حصلت جريمة قتل “مهسا أميني” قبل سنة أو سنتين أو حتى قبل أشهر لما كانت أية من جماعة النظام والسلطة ومؤسساتها ليتوقف عند هذه الحادثة، ولكانت أجهزة النظام وذراع القمع والرعب التي تتخذ صفة الدفاع عن الدين وأحكامه عمدت إلى استخدام أقصى أنواع العنف لمنع الأصوات المعترضة على هذه الجريمة، ولكانت أبواب السجون فتحت على مصراعيها لاستقبال المعترضين أو المنتقدين بتهمة استهداف أساس الدين والأحكام الإلهية، وقد حصلت سابقاً أحداث مشابهة سارعت أجهزة النظام وشرطته الدينية إلى محاصرتها بكل الوسائل ومنعت تحولها إلى مسألة رأي عام واسعة.
لم تتوقع هذه الأجهزة وحراس أحكام النظام الدينية أن تواجه رد فعل شعبي واسع بمشاركة نوعية وغير مسبوقة من شخصيات دينية ذات تأثير داخل المؤسسة الدينية مثل المرجع الديني أسدالله بيات الزنجاني، بحيث تحولت وفاة “مهسا” إلى قضية رأي عام بين الشرائح الاجتماعية المعارضة للحجاب الإجباري، واتسعت لتشمل هذه المرة شريحة واسعة من بين الجماعات التي كانت ترى في أذرع النظام الأمنية، بخاصة الشرطة الأخلاقية والمحافظة على الأحكام الشرعية والاجتماعية، جماعة منزهة عن الخطأ نذرت نفسها للدفاع عن الأحكام الشرعية والدينية.
ما من أحد من قيادات النظام وأجهزته يمكنه الجزم بأن قرار فرض الحجاب الإجباري منذ عام 1982، جاء بناء على قبول اجتماعي غالب أو شامل، حتى وإن كان الإيرانيون قد صوتوا بحسب الإعلام الرسمي بنسبة 98 في المئة لمصلحة إقامة جمهورية إسلامية في الاستفتاء الذي أجري أواخر مارس (آذار) وأعلنت نتائجه في الأول من أبريل (نيسان) عام 1979، لأن المشاركة الشعبية الواسعة من جميع الشرائح والطبقات الاجتماعية الدينية وغير الدينية، كانت نتيجة لقبولها بالوعود التي أطلقها المؤسس السيد الخميني من منفاه الباريسي قبل أن يعود لإيران بشهرين من هذا الاستفتاء، وتنقلب الصورة لاحقاً ووعود الحرية والديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية والحزبية، وتتحول شوارع المدن والعاصمة طهران لمسرح تلاحق فيه دوريات “ثار الله” التابعة لحرس الثورة النساء غير المحجبات اللاتي حتى ذلك الوقت كن يرفلن بشعورهن في مسارب المدن وشوارعها من دون أن يعتريهن خوف أو رعب من عنصر نصب نفسه حارساً للأحكام ومحاربة السفور والفساد، مطبقاً عقده وتعقيداته وعقائده التي فصلها على موقفه النفسي والشخصي، ويسعى إلى فرضها على الآخرين.
كثيرة هي المخالفات والموبقات التي تطور بها جهاز شرطة الأخلاق وحراس الأحكام الشرعية، ويكفي أن نتذكر تلك الفضيحة التي كان بطلها قائداً في شرطة طهران مع أحد مساعديه، عندما قبض عليهما بعد ليلة حمراء وسكر وعربدة بمشاركة نساء يشتغلن في أقدم مهنة في التاريخ، وقد ختموا ليلتهم بإقامة صلاة الصبح عراة مخمورين، من دون أن تتحرك السلطة لتعيد النظر في سياساتها وأن تلمس حجم الفساد الذي ينخر داخل أجهزتها، والذي يكشف عدم اقتناع الموكل بتطبيقها بها، وأنه يفرضها بما يخدم عقده النفسية والاجتماعية والأخلاقية.
ومن هنا فإن رد فعل النظام والدولة على حادثة مقتل “مهسا اميني” هي محاولة لاستيعاب تداعياتها اجتماعياً وعقائدياً، وما قرار تفكيك جهاز الشرطة الأخلاقية ومحاولة النظام رمي مسؤولية فشل المنظومة الأخلاقية على كاهل المؤسسات المتخصصة والمجلس الأعلى للثورة الثقافية واتهامها بالعجز عن رسم سياسات دينية وأخلاقية تخدم أهداف ومصالح النظام الاجتماعية، سوى محاولة للهرب من التداعيات السلبية، وما قرارات الإقالة والمحاكمة لبعض المسؤولين سوى تعبير عن بدء النظام في سياسة التنازل والتراجع أمام الحركات المطلبية، وهو ما لا يرغب فيه لتخوفه من أن تفتح الباب أمام تنازلات أخرى أكثر خطراً وأبعد أثراً.
كان لافتاً موقف المرجع بيات زنجاني الذي سبقت الإشارة إليه عندما أدخل مسألة الحجاب التي تعتبر “فرضاً وواجباً دينياً وإلهياً” عند المؤسسة الدينية بكل مدارسها وعقائدها، أدخلها في مفهومه للآية القرآنية “لا إكراه في الدين” ليربطها بحرية العقيدة والمعتقد، خارجاً على كل السياقات الحوزوية المتعارف عليها والتي باتت حقيقة ومسلمة لا يمكن الاقتراب منها أو المساس بها، مما يعني أنه أسقط عنها “الإلزامية” ولم تعد مدخلاً للممسكين بالقراءات الدينية ومفاتيح الجنة والنار، بأن يصموا أو يصنفوا من يعارضها أو لا يلتزم بتطبيقها بالخروج على الدين ويدخلوه في دائرة الكفر والإلحاد، ولعل إشارة المرشد الأعلى علي خامنئي قبل نحو شهرين إلى أن “الفتاة أو السيدة التي تظهر جزءاً من شعرها قد يعتبر نقصاً ظاهرياً في التزامها الديني، فماذا عن النقص الداخلي الذي لا يراه أحد”، وهو كلام جاء في محاولة لاستيعاب رد الفعل السلبي الذي تنامى في المجتمع الإيراني جراء مساعي بعض المتطرفين لسن قوانين تسمح بالتشدد في تطبيق إلزامية الحجاب، باعتبار أن الأمور من وجهة نظرهم بدأت تتفلت وتخرج عن السيطرة.
لا شك في أن المرأة الإيرانية استطاعت على مدى العقود الأربعة الماضية أن تنتج آلياتها الخاصة للتملص من المحددات التي فرضت عليها بإلزامية الحجاب بعيداً من أعين النظام وأجهزته، وفي لحظات بنوع من التحدي له، وقد عمدت الإيرانيات إلى سياسة “القضم”، فتراجع حجم غطاء الرأس وتنوعت أشكال الألبسة وابتدعن ما يناسب معركتهن من أزياء بين الحجب والكشف في لعب واضح على أجهزة المراقبة وشرطة “الأخلاق” التي أسقط في يدها، وفقدت القدرة على التصدي لهذه الظاهرة ومنع اتساعها وتوسعها.
أساليب مختلفة اجترحتها النساء الإيرانيات، وما ظاهرة الفتيات والناشطات اللاتي خرجن في بعض الشوارع ونزعن حجابهن في العلن متحديات النظام وأحكامه سوى تفصيل قد يكون ذا أبعاد سياسية غير أساسية، في المعركة بين الفعل النسائي وأجهزة السلطة، وهي أساليب أجبرت النظام على إجراء استطلاعات سرية ليصطدم بحقيقة لا يريد أن يقبل بها، وهي أن 98 في المئة من الإيرانيين لا يعتقدون بإلزامية الحجاب، وأن أي استفتاء حول هذا الموضوع لن يكلف النظام والسلطة عناء فتح مراكز اقتراع، بل ستتحول شوارع المدن إلى شاهد على رفض القانون وأوراق الاقتراع ستكون “أغطية الرؤوس التي ستتلاعب بها الرياح”.
مقتل “مهسا أميني” أو “ژینا” ابنة مدينة سقز الكردية، وإن كان قد أشعل موجة من الاعتراضات على “القتل الرخيص” الذي تمارسه أجهزة النظام، إلا أنه شكل القاعدة الصلبة التي صدعت قبضة النظام على جانب من الحريات المحجوبة عن الإيرانيين، وسيؤسس إن لم يكن قد أسس لمرحلة جديدة في معركة الحصول على الحقوق التي ما كان النظام ليقبل بالتنازل فيها، لو لم يكن يشعر بجدية ما يواجهه من أخطار وتهديدات نتيجة سياساته الاقتصادية والدولية وحتى النووية التي أدخلت إيران في أتون عقوبات طويلة ومتشعبة، وأن عليه استيعاب هذا المتحول والتضحية ببعض المبادئ والمسلمات ومقدسات المؤسسة الدينية من أجل الحفاظ على مكتسباته واستمراره في السلطة والحفاظ على النظام ومنع الأمور أن تتطور إلى انفجار داخلي يهدد بإطاحته من بوابة تراكم القمع الذي مارسه خلال السنوات الماضية.
قد يكون حرياً بنساء إيران أن يرتدين خلال الأيام المقبلة غطاء للرأس عليه صورة “مهسا” كعربون وفاء لها، وأن ينزعنه في استفتاء الدفاع عن حقها ودمها المهدور، فهو الدم الذي أسقط حجاباً من حجب النظام على طريق تحصيل الحقوق الطبيعية والأساس التي ضمنها القانون والدستور والدين في حق الاختلاف وحرية المعتقد والرأي.
نقلاً عن “اندبندنت عربية”