منتصر حمادة
كاتب مغربي
تدور فكرة هذه المقالة حول ظاهرة إحدى التحولات التي تهم ظاهرة “التطرف العنيف” في نسختها المغربية، انطلاقاً مع أرضية إحصائية حصلنا عليها من لجنة حقوقية تتابع ملف السجناء الإسلاميين، بمن في ذلك السجناء الذين استفادوا من مشروع “المصالحة” الذي يسهر عليه العديد من مؤسسات الدولة، في سياق تشجيع المراجعات والتقليل بالتالي من عدد السجناء في الملف.
حسب الأرقام المتداولة، يوجد حوالي (454) معتقلاً إسلامياً، من المحكوم عليهم في قضايا التطرف العنيف، سواء أكانوا مرتبطين بالخلايا التي تم تفكيكها خلال الأعوام الأخيرة، وهذا عمل تسهر عليه الأجهزة الأمنية، أم كان يهم حالة معتقلين سابقين، لكنّهم محكوم عليهم بمدة أطول مقارنة بالمعتقلين الجدد.
وفي جميع الحالات، هذا الرقم أقلّ بكثير من الأرقام الكبيرة التي تلت اعتداءات الدار البيضاء في 16 أيار (مايو) 2003، فقد ناهز العدد حينها (3) آلاف معتقل، اتضح لاحقاً أنّ أغلبهم لا علاقة لهم بتلك الاعتداءات أو بغيرها، في سياق انخراط الدولة المغربية رسمياً في مراجعات خاصة بتدبير الملف، وهي المراجعات التي انطلقت مباشرة بعد مضامين الحوار الذي أجرته صحيفة “إل بايس” الإسبانية في 16 كانون الثاني (يناير) 2005 مع العاهل المغربي الملك محمد السادس، وجاءت إشارات صريحة في الحوار بأنّ هذا الملف عرف بعض التجاوزات، وعلى ضوء هذا التحول سيدخل المغرب مرحلة مؤسساتية جديدة في تدبير الملف، تطلبت تأهيل جميع الفاعلين، وتوزيع المهام على عدة جبهات، أمنية وحقوقية ودينية واجتماعية، ممّا أفضى لاحقاً، كما نعاين خلال الأعوام الأخيرة، إلى أنّ التجربة المغربية في تدبير ظاهرة “التطرف العنيف” أصبحت محط إشادة إقليمية ودولية، إلى درجة أنّ الرباط توصلت رسمياً بطلبات من عدة دول عربية وأوروبية في سياق الاستفادة من التجربة، موازاة مع الدعوات التي تتوصل بها الرباط من دول عربية وإفريقية وأوروبية بخصوص تدبير الشأن الديني وتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات.
موازاة مع الرقم أعلاه، تفيد الإحصاءات ذاتها أنّ عدد المغاربة المعتقلين على هامش أحداث سوريا موزع على (60) طفلاً و(270) امرأة و(327) شاباً، إمّا في حالة اعتقال وإمّا في حالة إقامة موزعة على التراب التركي أو في الحدود السورية التركية، إضافة إلى حالة نساء وأطفال بمخيم الهول.
والشاهد هنا أنّ حوالي (700) طفل وشاب وشابة، ما كنا نسمع عنهم لو لم يتورطوا في التأثر بحالة الهيجان الدعوي الذي تورط فيه العديد من الأسماء الإسلاموية في المنطقة العربية مباشرة بعد اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة”، بين كانون الثاني (يناير) 2011 وحزيران (يونيو) 2013، إلى درجة أنّه كانت هناك نسبة من أتباع الإسلاموية أصبحت تحلم بإقامة خلافات إسلامية هنا وهناك، وتزامن ذلك مع فوز أحزاب إسلامية في انتخابات تشريعية واجتماعية، ومع تورط رموز إسلاموية كانت تُصنف في خانة الوسطية حتى ليلة تلك الأحداث، قبل أن تكشف عن وجه دعوي مغاير كليّاً مع مقتضى الحديث عن الوسطية، لعل أشهرها حالة الداعية يوسف القرضاوي وما صدر عنه ضد النظام الليبي، أو حالة المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي وما صدر عنه عن جهاديي تونس الذين شدوا الرحال إلى سوريا والعراق، ضمن نماذج أخرى.
بالنتيجة، وعبر مقارنة أولية بين عدد المعتقلين الإسلاميين المغاربة، من المتورطين في ملفات محلية عددهم (454)، وبين عدد المعتقلين أنفسهم، لكن من المتورطين في قضايا إقليمية، إضافة إلى أنّهم معتقلون في الخارج عددهم (657)، يتضح جلياً أنّ عدد هؤلاء أكبر مقارنة مع عدد حالات الداخل، وكان أكبر من قبل، أخذاً بعين الاعتبار عدد الشبان المغاربة الذين هاجروا إلى سوريا من أجل القتال هناك، سواء مع “جبهة النصرة” أو حركة “أحرار الشام” أو جماعات أخرى، بل وصل الأمر إلى قتال هؤلاء مع بعضهم بعضاً، بعد أن كان الهدف بداية قتال جنود الجيش السوري، وانتقل لاحقاً إلى قتال جنود الجيش السوري الحر.
وحسب أرقام رسمية صادرة عن لجنة برلمانية استطلاعية أحدثت خصيصاً لمتابعة هذا الملف الخاص بمغاربة سوريا والعراق، فقد غادر المغرب (1659) شاباً وشابة بين 2012 إلى عام 2017، من أجل الجهاد، أو لأسباب مادية، منهم (1300) التحقوا بتنظيم داعش، مع ملاحظتين في هذا السياق؛ من ناحية نجد في الرقم نفسه (628) قاصراً، ومن ناحية ثانية اتضح أنّ غالبية هؤلاء ينحدرون من مدن شمال ووسط المغرب.
هذا نموذج واحد، ضمن عدة نماذج، يكشف خطورة الاستقطابات الدينية العابرة للأوطان في حقبة ما بعد تأسيس الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة العربية؛ لأنّه في الأصل كان من المفترض الحديث عن واقع وتطورات ملف المعتقلين الإسلاميين على ضوء ملف “التطرف العنيف”؛ أي الواقع الخاص بأحداث محلية أو داخلية، والذي يهم الرقم الأول أعلاه، لكن مع حضور واقعة إقليمية واحدة تهم الوضع في سوريا والعراق، دون الحديث عن أحداث أخرى، في أوروبا وأفريقيا وعمّا هو قادم من تحديات وتطورات، اتضح أنّنا إزاء ملف جديد ويوازي في متابعته القضائية والإنسانية والبحثية والقانونية الملف الأول.
ـ في الشق الإنساني مثلاً، سوف يعاين الشارع المغربي في 28 كانون الثاني (يناير) 2022 وقفة احتجاجية لعائلات العالقين والمعتقلين المغاربة في سوريا والعراق، ناشدت فيها السلطات استعجال إعادة أبنائها إلى المغرب، وإنشاء لجنة متابعة لتنفيذ توصيات اللجنة الاستطلاعية البرلمانية التي سبق أن أعدت تقريراً في الموضوع. وعلى ضوء الوقفة، صرح رئيس التنسيقية الوطنية لعائلات العالقين والمعتقلين المغاربة في سوريا والعراق عبد العزيز البقالي بأنّ إعادة هؤلاء إلى المغرب خطوة أساسية في محاربة الإرهاب، خاصة أنّ “العائلات لا تعترض على محاكمة الشباب بعد إعادتهم”، مضيفاً إشارة دالة مفادها أنّ “الأجهزة الأمنية المغربية من أقوى الأجهزة في العالم، ثم إنّ ما يقارب (345) شخصاً عادوا من سوريا، ورغم عودة هؤلاء فلم يقع أيّ تهديد لأمن واستقرار البلاد، لأنّ الدولة تعرف الأشخاص الذين التحقوا ببؤر التوتر، ومنهم مَن لم يُكمل شهراً واحداً ولم يشاركوا في أيّ معركة وهربوا من تنظيم داعش، وهناك أدلة على ذلك”.
ـ أمّا في الشق القانوني، فقد عقدت اللجنة الاستطلاعية المكلفة بدراسة هذا الملف عدة ندوات، صرح رئيسها في إحداها، ويتعلق الأمر بالنائب البرلماني عبد اللطيف وهبي، الذي أصبح اليوم وزير العدل، بأنّه يتفهم تحفظ الجهات الأمنية على عودة “الدواعش” المغاربة في بؤر التوتر، خاصة في سوريا والعراق، لكنّه استدرك قائلاً: “لكن نحن كحقوقيين لنا رأي حقوقي”.
والآن، بعد أن أصبح المسؤول نفسه وزيراً للعدل، لم يتجاوز سقف أداء المؤسسة التشريعية إصدار التقرير الذي يلخص أداء اللجنة البرلمانية سالفة الذكر، ومن خلاصاته أنّنا إزاء “حقائق مؤلمة لأوضاع صعبة وخطيرة عاشها ويعيشها المغاربة في سوريا والعراق، خصوصاً النساء والأطفال”، وأنّ الأمر يهم “مجموعة من المغاربة المقاتلين المعتقلين والنساء والأطفال يوجدون اليوم في السجون الرسمية لهاتين الدولتين، أو في السجون الموالية للتنظيمات الإرهابية المناهضة لتلك الدول، ويتم إمّا استيطان هؤلاء المقاتلين وعائلات المعتقلين من نساء وأطفال بهذه السجون، وإمّا تفرض عليهم إقامة إجبارية داخل المخيمات”.
كنّا في غنى عن هذه التطورات والتحديات، لولا السماح بخطاب تزييف الوعي باسم الدين التأثير على جزء من مخيال شباب المنطقة، لكي يتورط من حيث يدري أو لا يدري في أزمات مجانية لدول المنطقة، وهذه إحدى نتائج ودروس أحداث “الفوضى الخلاقة”.
نقلاً عن حفريات