محمد المحمود
بعدما قرر، مصطفى كمال، إلغاء “الخلافة العثمانية” عام 1924م، عم العالم الإسلامي حالة من الإحساس الحاد باليُتْم أو التّيه؛ إذ لا رابطة بعد هذا القرار الحاسم يمكن أن تُلِمَّ ـ ولو في إطار معنوي/ رمزي ـ شعث متُفَرِّقات هذا العالم الإسلامي، هذا العالم الذي عاش فُرقَته وتعايش معها منذ سنوات تاريخه الأول؛ ولكنه كان حريصا طوال تاريخه/ تاريخ الإسلام الممتد لأكثر من أربعة عاشر قرنا، على الانضواء تحت راية رمزية جامعة، تفرض الوحدةَ، أو ـ على نحو أدق ـ تَفرض وَهْمَ الوَحدة بين الإخوة الأعداء.
كان وجود “الخلافة” مُوْهِماً ومُخَادعا. لقد انفصلت السياسة عن الدين فعليا منذ عام 41هـ، ولكن بقيت “الخلافة”ُ تصنع وَهْمَ الاتصال، الذي استفادت منه السياسة في تكريس شرعيتها المهزوزة على الدوام. وفي المقابل؛ لم يستفد منه الدينُ إلا بشكل ثانوي، وربما هامشي، وعلى سبيل الامتهان في معظم الأحوال.
عندما أُلْغِيت “الخلافة”؛ سَقط الوَهْمُ وانتهت مرحلةُ الخداع، ومن ثم؛ تعرّت السياسة في العالم الإسلامي من مشروعيتها المُدَّعاة سابقا. تحرّرت السياسة حتى على مستوى الامتثال الرمزي، وبدأت المؤسساتُ الاجتماعية (من حيث هي في الأصل: وَحدات سياسية) تتفاعل مع التيارات الفكرية الرائجة آنذاك (والتي هي غربية أساسا)، بل وبدأت تُحاول فرض أيديولوجيتها بالقوة، خاصة عندما كانت تتصدّر مراكز اتخاذ القرار الرسمي؛ سواء بالانتخاب الديمقراطي (كما هو الحال في مصر إبان ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين) أو بالانقلاب العسكري (كما هو الحال في جمهوريات العرب البائسة التي كانت ـ ولا تزال ـ مجرد قِطَطٍ “تحكي انتفاخا صولة الأسد”).
على المستوى الفعلي/ العملي؛ لم يكن حُكْم معاوية بن أبي سفيان ـ مثلا ـ مُتأسْلما أكثر من حُكْم صدام حسين، أو حافظ الأسد، أو جمال عبد الناصر، أو علي عبدالله صالح. لكن، آنذاك، في أزمنة الخلافة، كانت “الخلافة” شعارا رمزيا كبيرا قادرا على استغفال الغالبية العظمى من الناس. ومَن جاء بعد 1924م (في ما يسميها بوبي س. سيّد: “الأنظمة الكمالية”) لم يكن قادرا على مثل هذا الاستغفال، أو لم يكن يحاول الاستغفال من هذه الناحية أصلا؛ لأن المشروعية الجماهيرية التي صدمت الحداثة كانت مشروعية التحديث.
بدأت حركاتُ/ أحزابُ التأسلم في الأعوام التالية لإلغاء الخلافة. “جمعية الشبان المسلمين” عام 1927م، و”الإخوان المسلمون” عام 1928م…إلخ الحركات المتأسلمة، التي كانت تُحاول وَصْلَ ما انقطع من ارتباط السياسة بالإسلام. ولأن علاقة الاتصال السابقة (الخلافة بِرَمْزِيَّتها) كانت وَهْماً مُخادعاً، فقد بدا وكأن هذه الحركات/ الأحزاب تطرح الإسلام ـ كآلية اشتغال مجتمعي ـ لأول مرّة منذ عام 41هـ. عندما سقط وَهْمُ تأسلم الخلافة، وأرادت هذه الحركات أن تطرح بديلا، وجدت نفسها تطرح بديلا حقيقيا، وجدت نفسها تُمارس عملية توصيل حقيقية بين الإسلام كمدونة تراثية من جهة، وكل مناحي تدبير الشأن العام من جهة أخرى.
لاشك أن هذه الحركات اكتشفت بعد سنوات قليلة من محاولتها تفعيل مقررات الشريعة في الواقع بأن إلغاء الخلافة كان صوابا، أو كان صوابا؛ بدرجة ما. فهي ـ في تفاعلها الأولي، وفي نجاحاتها غير المتوقعة في البداية ـ أدركت أن ما تراه “التطبيقَ الأمثل للإسلام في الواقع” لم تنهض به “الخلافة” التي استمرت على امتداد أربعة عشر قرنا؛ باستثناء عصر الراشدين. وهذا يعني ـ فيما تكشّف لها بعد قليل من الممارسة ـ أن المجتمعات التي كانت تظن نفسها إسلامية لم تكن كذلك؛ بسبب الانخداع بوهم الخلافة، وأنها ستصبح إسلامية بحق؛ على يديها: إدخال المسلمين في الإسلام. وهذا ليس تأويلا اجتهاديا لمسلكيات المتأسلمين، بل هو نص ما صرّح به كثير من منظري هذه الحركات، إذ أكدوا مرارا على أن الإسلام أصبح خارج دائرة التطبيق الفعلي منذ نهاية عهد الراشين.
هنا، بدأت أكبر عملية أسْلمة في تاريخ الإسلام. قبل ذلك، كانت جهود الدعوة إلى الإسلام تتوجه إلى غير المسلمين. أما الآن، فقد أصبح الهدف الرئيس ـ وربما الأوحد في كثير من الأحيان ـ أسلمة هؤلاء المسلمين الذين ورثوا الإسلام عن آبائهم وأجدادهم، من غير أن يَتمثّلوه حقا. وبالطبع، كانت هذه العملية تحتاج إلى ما هو أكثر من استعادة الموروث الإسلامي الذي بقي في معظمه جَدلا نظريا بين الفقهاء، لا إلحاحا به على عموم الناس لتطبيقه في تفاصيل الواقع اليومي.
لقد احتاجت عملية الأسلمة التي استمرت لأكثر من سبعة عقود إلى فيالَق متتابعة من “الفقهاء/ الوعاظ” الذي يمتهنون هذه المهنة، ويعتاشون هم وأسرهم عليها. الحراك الإسلاموي الواسع الذي أنتج “الصحوة”؛ كان لا بد وأن ينتج بالضرورة عشرات الألوف من وعاظ الدرجة الأولى والثانية والثالثة…وصولا إلى العاشرة وما بعدها؛ حتى يستطيعوا توفير الإجابات/ الإلزامات التي تغطي الأصول والفروع، ثم تستتبع التفاصيل وتفاصيل التفاصيل؛ لأن المسلم ـ في سياق حراك التأسلم/ الصحوة السلفية ـ مُلْزمٌ بأن لا يُحَرِّك شعرةَ إلا بفتوى، ولا يخطو خطوة إلا بسؤال واعظ ديني؛ حتى أصبحت “الفتاوى” مَجالا للغرائب والطرائف التي يدخل كثير منها في باب الكوميديا المُبْكية؛ فضلا عما يدخل منها في باب فتاوى التطرف والانغلاق والإرهاب.
هكذا أصبح “السوق الوعظي” رائجا، وبالتالي؛ جاذبا. أصبحت الكليات الشرعية والمعاهد الدينية تدفع بعشرات الألوف كل عام إلى سوق العمل الديني. وكان السوق رابحا في كل الأحوال، والمتنفعون به يجنون من الأرباح ما يكفيهم وزيادة، بل وأحيانا يتجاوز الأمرُ الزيادةَ بما يغري؛ فيردي في مهاوي الافتضاح.
لقد حَقَّق كبارُ الوعاظ ثرواتٍ طائلةً، وتوفّر للألوف منهم وظائف دائمة. لكن، وبانحسار مَدّ التأسلم، وانطفاء وهج الصحوة، وصعود أجيال حديثة غير معنية بالسؤال الديني، أو غير معنية به بدرجة أولى، واجه هؤلاء الوعاظُ/ الفقهاء أزمةَ بطالة واسعة النطاق. فبعد تراجع المد الديني؛ لن يفقدوا الحضور الاجتماعي الباذخ فحسب، بل سيخسر معظمهم وظائفهم ومصادر أرزاقهم على المدى القريب والبعيد. وسيتعين على كثير منهم البحث عن وظائف أخرى، خاصة أو عامة. وهنا تأتي خطورة حضور المَدّ الصحوي المتأسلم في مسارات غير معهودة، وبشعارات غير دينية في الغالب، ولكنها تخدم مستهدفات الصحوة في نهاية المطاف.
نقلاً عن “الحرة”