كريتر نت – متابعات
على مدار الساعة تحلّق المسيّرات الإسرائيلية التي يسميها سكان قطاع غزة “الزنّانة” محدثة ضجيجاً لا يقلّ تأثيره عن المهمات التي تم إرسالها لتنفيذها، إضافة إلى مشاهدتها وهي تحوّم فوق رؤوس المدنيين.
وتفرض إسرائيل حصارا مشددا برا وبحرا وجوا على القطاع الذي تبلغ مساحته نحو ثلاث مئة وستين كيلومترا مربعا، ويسكنه أكثر من مليوني فلسطيني يشكّل اللاجئون نحو ثلثيهم.
في المنزل الصغير الذي تبدو جدرانه متصدعة، والذي يبعد أقل من مئتي متر عن شاطئ البحر في حي “المرابطين” شمال غزة، لم تعد طالبة المدرسة بيسان تتحمل صوت “الزنانة”، وكلّما اقترب المساء، تخفُت أصوات أبواق السيارات والباعة المتجولين ويعلو صوت الآلة المرعبة القادم من السماء. تقول “أحاول في الليل مراجعة دروسي وامتحاناتي، لا أستطيع القراءة بسبب هذا الضجيج المزعج والمؤرق”.
ويشكو جيل بيسان من أن “الزنانة” تجعلهم لا يغادرون بيوتهم من الخوف والقلق، متسببة بصداع مستمر.
مسح جوي
الزنانة المستخدمة فوق غزة
– من نوع “كواد كابتر” أو “هيرمز 450”
– يمكنها حمل 380 كيلوغراما من المتفجرات
– قدرتها على التحليق المتواصل تصل إلى 30 ساعة
– يتم التحكم بها عن بعد ألف كيلومتر
خلال الحرب بين حركة حماس وإسرائيل في مايو 2021، والتي استمرت أحد عشر يوما، حلقت الطائرات المسيّرة 6000 ساعة في أجواء القطاع، وفقًا لبيانات الجيش الإسرائيلي.
واندلعت في أغسطس الماضي مواجهة عسكرية دامية بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي استمرت ثلاثة أيام سجّل الجيش الإسرائيلي خلالها أكثر من ألفي ساعة طيران.
وبعيدا عن أوقات الحرب والتصعيد، تحوم المسيّرات الإسرائيلية في المتوسط حوالي أربعة آلاف ساعة شهريًا فوق القطاع، بحسب الجيش.
ويقول عمري درور قائد قاعدة “بالماهيم” الإسرائيلية التي تنطلق منها المسيّرات “طائراتنا التي يتم التحكم فيها عن بعد تجمع المعلومات على مدار 24 ساعة” فوق غزة.
أما ريم والدة بيسان فتقول “تعبت من كثرة محاولاتي لتهدئة أطفالي الخمسة الذين يخشون أزيز المسيرات”، وتضيف “أنا أساسا خائفة مثلهم، كيف أوفر لأولادي الطمأنينة؟”. ويبعد منزل العائلة أقلّ من مئتي متر عن موقع تابع لكتائب القسام الجناح العسكري لحماس.
وحين تقترب مسيرة ما تحلّق على ارتفاع منخفض فوق حي تل الهوى الذي يقطنه الفلسطيني أبوحسن، يتبادر إلى ذهنه على الفور أنها ربما تحضّر لهجوم وشيك.
ويقول الرجل البالغ من العمر 60 عاماً إن “الزنانة لعنة، كلما سمعنا صوتها عرفنا أن الحرب أوشكت”. ويوضح “أشعر أنها تعيش معنا، لا نوم بالليل ولا بالنهار”.
وفي عيادتها بمبنى “برنامج غزة للصحة النفسية”، تستقبل الأخصائية النفسية إيمان حجو أسبوعيا العشرات من الحالات التي تعاني صدمات أو اضطرابات نفسية بسبب الحرب. وتعبّر عن حزنها لأنه “لا توجد دراسات متخصصة بعلاج الآثار النفسية التي يعاني منها الأطفال والشباب بسبب الزنانة”.
طريق الهجرة
6000 ساعة طيران نفذتها المسيرات الإسرائيلية في أجواء غزة خلال عمليات العام 2021
لا تخفي حجو أنها تعاني من “قلق وأرق دائمين” بسبب المسيّرات الإسرائيلية، وتضيف أن “الزنانة أصبحت جزءا من حياتنا، هم يتعمّدون ذلك، ضجيج صوتها يبقي الناس في توتر وعصبية وقلق”.
وتصف حجو قطاع غزة بأنه تحول إلى “سجن محكم من الأرض والبحر”، فالزنانات أبقت سماء غزة مغلقة بلا أفق ولا أمل.
ويقول زميلها الطبيب النفسي سامي عويضة “يحتاج الأطفال إلى الشعور بالأمان للنمو، ولكن مع وجود الزنانة في السماء، لا يمكن لهذا الشعور أن يزدهر”.
أما الشاعر الغزاوي مصعب أبوتوهة فقد استحضر في مجموعته الشعرية الأخيرة باللغة الإنجليزية “الخطر” المتمثل في المسيرات الإسرائيلية فوق غزة، وكتب “عندما تستقرّ ضجة المسيرات على عائلتي وأصدقائي، فإنها تضع حدًا للعب والضحك”.
بدوره نشر عاطف أبوسيف وزير الثقافة في السلطة الفلسطينية رواية بعنوان “الزنانة تأكل معي” لتوثيق يوميات حرب العام 2014 في غزة.
ولم يبق أمام هؤلاء المدنيين إلا الهجرة، كما تعترف الأخصائية النفسية حجو التي تضيف أنها تفكر بها “بحثا عن حياة مريحة”، لكنها تختم قائلة “عندما تغلق الدنيا في وجهي، أتوجه إلى السماء بالصلاة والدعاء. هذا كل ما أملك”.