هشام النجار
اندلعت شرارة الاحتجاجات في إيران عقب مصرع الشابة مهسا أميني، غير أن المطالب ذهبت إلى أبعد من محاسبة قاتليها، حيث رددوا هتافات “الموت لخامنئي” و”سنستعيد إيران حتى لو كلفنا ذلك حياتنا”. وأثارت ردود أفعال الإسلاميين والجهاديين السنة على الأحداث الجارية في إيران الجدل، حيث جاءت في أغلبها حذرة ومتحفظة مع الكثير من العبارات التي تفضح هواجس القلق والخوف من تحول الانتفاضة إلى ثورة قد تطيح بنظام ولاية الفقيه في إيران.
من الواضح أن جماعة الإخوان وتنظيمها الدولي وتنظيم القاعدة التكفيري السني يهمهم استمرار النظام الراديكالي في إيران بنفس حماسة الميليشيات والحركات الشيعية، على وقع مطالبات المنتفضين بإنهاء نظام دولة المرشد والتحول إلى جمهورية ديمقراطية.
ويرجع حرص تيار الإسلام السياسي السني على استمرار نظام ولاية الفقيه في إيران، على الرغم من الاختلافات والتوتر بينهما الذي شبهه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بالتوتر الكاثوليكي – البروتستانتي بعد انشقاق مارتن لوثر كينغ عن كنيسة روما عام 1517، إلى المصالح التاريخية أو الآنية المشتركة بينهما.
أعداء مشتركون
ردود أفعال الإسلاميين والجهاديين السنة على أحداث إيران أغلبها تتحفظ على الإطاحة بنظام ولاية الفقيه
يرى كل تيار ضرورة وجود أعداء مشتركين بينهما وأنه من الجيد التعاون والتنسيق لاقتسام ساحات النفوذ، ووضحت خلال فترات متباينة ملامح اتفاق ضمني على أن يهيمن الإسلاميون الشيعة على فضاء الشرق العربي والشام، في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن، بينما يُترك للإسلاميين السنة الفضاء العربي السني في مصر وتونس وليبيا والسودان والجزائر.
وحرص نظام ولاية الفقيه في إيران على توطيد علاقاته مع جماعة الإخوان المسلمين للترويج لنموذجه الإسلامي الثوري في قلب الفضاء السني، ولتخفيف حدة العداء له من خلال أجنحة داخل الإسلام السني في مواجهة تشويه التيار السلفي والسلفي الجهادي لصورته والتحريض ضده.
ولبت جماعة الإخوان السنية هذه الحاجة لدى النظام الإسلامي في إيران متبنية الثورية الإسلامية؛ وتبين أن ما سعت لتطبيقه في عام حكمها مصر هو نموذج دولة المرشد في إيران وليس الأسلمة المتدرجة أو التخفي وراء العلمانية على طريقة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وهمشت الجماعة قيادات مثل عبدالمنعم أبوالفتوح نظرًا إلى ميله للنموذج التركي وإعجابه بتجربة أردوغان من خلال عمل مرحلي يتوخى التحرك بتدرج تحت ستار العلمانية ويركز على الاقتصاد كما كانت بدايات حكم حزب العدالة والتنمية.
ورفضت جماعة الإخوان نصيحة أردوغان خلال تصريحه الذي أغضب قادتها حينما زار القاهرة في سبتمبر 2011 داعيًا إياهم للاقتداء بالنموذج التركي، فيمَا رأوا أن النموذج الأمثل الذي ينبغي استنساخه هو دولة المرشد في إيران بهدف تأسيس دولة مرشد سنية يقودها الإخوان من مصر ويحكمون بها غالبية دول المنطقة العربية.
ورأت الجماعة أن استنساخ النموذج الإيراني يمكّنها من الهيمنة على مقاليد السلطة في مصر على مدى عقود قادمة عبر القبض على مفاصل الدولة وتقويض التيارات المدنية وإخضاع المؤسسات السيادية لمكتب الإرشاد.
خطط قادة الإخوان عبر نقل تجربة الثورة الخمينية من أجل التصدي لأي تهديد لحكم الجماعة، من الجيش أو من التحركات الشعبية في الشارع، بتشكيل قوات مسلحة مدربة من عناصر الإخوان والموالين لها على غرار قوات الحرس الثوري الإيراني.
وينظر قادة وعناصر جماعة الإخوان وغالبية منتسبي الإسلام السياسي السني حاليًا، بعد فشلهم في تجربة الحكم، إلى استمرار دولة المرشد في إيران وإلى نماذج وكلائها، مثل حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن، على أنه الأمل لمشروع الإسلام السياسي.
الهوس بالشيعية السياسية
إذا سقطت الخمينية في إيران اكتمل سقوط المشروع عقب تراجع تيار الإسلام السياسي السني على وقع ثورات شعبية نتيجة عوامل متشابهة تتعلق بالعجز عن التحدث بلغة العصر وتعويض الفشل في السياسة والاقتصاد وإدارة الدولة بادعاء التطهر الإيماني والتركيز على قضايا هامشية كالحجاب وغيره، علاوة على قمع المعارضين وتصفيتهم جسديًا.
وينظر تنظيم القاعدة بإعجاب إلى جذور تأثير الخمينية على منبعه السني وهو تنظيم الجهاد المصري بالنظر إلى أن تكفير الخميني للرئيس المصري الراحل أنور السادات عقب نجاح الثورة الإسلامية عام 1979 شجع قادة الإسلام السياسي في مصر على تنشيط فكرة الحاكمية بعد أن انزوت بإعدام الإخواني سيد قطب في منتصف الستينات من القرن الماضي.
تأثر الإخوان والقاعدة بالخمينية يطال الحركات الإسلامية المسلحة في فلسطين، كحركتي الجهاد وحماس
وقال الخميني عن السادات إنه “ليس مسلمًا” لأنه تعامل مع أعداء الإسلام، في إشارة إلى قيامه بالتوقيع على اتفاقية السلام مع إسرائيل، ولذلك أصبح في نظره “كافرا”.
وكان هذا هو نفس مبرر تكفير الجهاديين في مصر للسادات والحضّ على قتله وصولًا إلى اغتياله عام 1981، حيث كان واضحًا تأثر فتوى محمد عبدالسلام فرج لاغتيال السادات في كتابه “الفريضة الغائبة” بالفتوى السابقة لها عندما أفتى آية الله الخميني بكفر السادات وإهدار دمه.
واستلهم الجهاديون السنة من نظرائهم الخمينيين فكرة الثورة الدينية للوصول إلى السلطة ونظرية التغيير من أعلى (تغيير الحكام)، وشرعوا بعد نجاح الثورة الإيرانية في تنظيم مظاهرات حاشدة، منها مظاهرات رفض الصلح مع إسرائيل والاعتراض على استقبال السادات لشاه إيران السابق محمد رضا بهلوي في القاهرة.
وتجاوز الجهاديون في مصر الخلاف المذهبي بينهم وبين الشيعية السياسية، واعتبروا أن نظريتيْ الحاكمية على الجانب السني وولاية الفقيه على الجانب الشيعي تجعلانهم أكثر قربًا منهجيًا ضد أعداء مشتركين، وهم أولًا الحكام العرب بوصفهم علمانيين لا دينيين، وأيضًا الأنظمة الغربية وأميركا بوصفها راعية العلمانية والقيم الديمقراطية في العالم.
إعجاب متبادل
ملامح اتفاق ضمني
ساعد في توثيق تلك العلاقة الإعجاب المتبادل بين المنظرين الذين صاغوا المناهج على الجانبين، فالخميني تأثر بالأب الروحي للجهاديين السنة أبوالأعلى المودودي الذي أثنى بدوره على ثورة الخميني ووصفها بأنها ثورة إسلامية تلقّى شبابها التربية في الحركات الإسلامية، مطالبًا المسلمين في العالم بتأييدها والتعاون معها.
كما تأثر المرشد الحالي علي خامنئي بالمنظّر الإخواني سيد قطب وهو مُلهم الجهاديين السنة، ما دفعه إلى ترجمة بعض كتبه إلى الفارسية واصفًا إياه بالمجاهد وأن كتبه خطوة على طريق توضيح معالم الرسالة الإسلامية.
وتأثر قادة القاعدة لاحقا بتجارب جماعات الإسلام السياسي الشيعي في السلطة، وأرادوا اقتفاء أثر حزب الله الذي تحول من ميدان الفعل العنيف المتمرد إلى التمتع بالسلطة والحكم في لبنان.
وانبهر قادة القاعدة بتجربة الميليشيات الشيعية وهم يطمحون إلى استنساخ تسلسل مسيرتها بدءًا بشن هجمات انتحارية على مصالح غربية وأهداف أميركية -وها قد مر تنظيم القاعدة بتلك المرحلة- ومرورا بترسيخ الهيمنة على المشهد السياسي المحلي والنمو ووصولًا إلى حكم دول ومناطق بنسخة سنية لدولة الملالي.
ويتوق الجهاديون السنة، بعد رحلة شاقة في ميادين الحرب والهروب والملاحقات والعمل تحت الأرض، إلى أن يتحول تيارهم لحركة جماهيرية تنخرط في معترك السياسة وتمارس الحكم كمثيلاتها الشيعية، التي تشارك في السلطة في إيران ولبنان والعراق.
وتمت بلورة هذا التقارب الفكري من خلال تشبيك علاقة مصلحية تمكن إيران من توجيه التنظيم السني وتوظيفه ضد المصالح الغربية من خلال السيطرة على قراره وتوفير الملاذ الآمن لبعض قادته.
ومن شأن تغيير المشهد في إيران أن يحدث تغييرات مزلزلة داخل تنظيم القاعدة الذي يحظى البعض من قادته النافذين والمؤثرين بحماية نوعية في طهران، ولا ينال تنظيم القاعدة كل ما يطلب من الطرف الإيراني ولا يرتفع سقف تحركاته وأنشطته داخل إيران عن الحدود التي وضعها المسؤولون في طهران.
ورغم ذلك فهو بجانب علاقته واستفادته من حركة طالبان وحكمها لأفغانستان مستفيد من وجود إسلاميين راديكاليين على رأس السلطة في إيران؛ في سبيل تفعيل جوهر نظريته التقليدية التي وضعها أسامة بن لادن، وهي استهداف العدو البعيد وتهديد مصالح الغرب والولايات المتحدة.
نظام ولاية الفقيه في صف واحد
ويظل نظر وآمال طيف الإسلام السياسي والجهادي السني متعلقًا بنموذج دولة المرشد في إيران التي حققت بمواصلة الانفراد بالسلطة على مدار عقود ما لم يستطع النظراء السنة تحقيقه.
ويرجع نجاح الخمينية إلى وضع الأيديولوجيا في خدمة القومية الفارسية، وهو عكس صنيع الإسلاميين والجهاديين السنة الذين عادوا القومية العربية واعتبروا مشروعهم الإسلاموي على النقيض منها.
وتميزت الخمينية بكونها ممثلة وحيدة لقيادة الإسلام السياسي الشيعي في العالم، من خلال مرشد واحد بدولة المركز في إيران، في حين تتنافس فصائل الإسلام السياسي السني فيما بينها، ويتصارع الإخوان والقاعدة وداعش على من يمثل عموم التيار.
هذا علاوة على أنه لا يوجد مرشد واحد للإسلام السياسي السني، وهناك ما يشبه النزاع الخفي على زعامة التيار بين رأس التنظيم الدولي للإخوان وخليفة داعش وزعيم القاعدة، فضلًا عن أمير حركة طالبان في أفغانستان.
وإذا سقط نظام دولة المرشد في إيران عاجلًا أم آجلًا فإن عموم الإسلام السياسي سوف يخسر الرافد الأكثر نجاحًا وتحقيقًا لمصالح التيار، من خلال الاحترافية في تشكيل الميليشيات المسلحة والبراعة في زرع الوكلاء، واستخدام القوة لإخضاع الدول المستهدفة وفقًا لحسابات ومصالح المركز دون اعتبار لأولويات ومصالح الدول التي يحمل أعضاء تلك الميليشيات جنسيتها.
ويدعم النظام الإيراني الحركات المسلحة في فلسطين، كالجهاد وحماس، ويمدها بالمال والسلاح في سياقات اختطاف القضية الفلسطينية والمزايدة بها على الدول العربية، ولتعزيز النفوذ الإيراني باستخدام ورقة المقاومة كلما أرادت طهران أن تساوم بها، سواء في إطار المنافسة الإقليمية مع إسرائيل أو في ملفها النووي.
وتستخدم إيران هذه الأدوات السنية مثل الإخوان وحماس لتثبيت مشروعها الخاص بالهيمنة على حزام سوريا ولبنان والعراق واليمن، فيما يشبه الإمبراطورية الفارسية القديمة لكن بصبغة دينية.
ويترقب الإسلاميون والجهاديون السنة، الذين اعتبروا استيلاء الخمينيين على السلطة في إيران عام 1979 تمهيدًا وخطوة على طريق تعميم النموذج في باقي دول المنطقة، مصير النموذج المُلهم، ولسان حالهم يقول “دون الخمينية سنتوقف حتى عن الحلم وسيخبو بصيص الأمل المتبقي”.
المصدر العرب