عبدالحسين شعبان
إذا كان الإسلام مجموعة من القيم الروحية والأخلاقية التي تدعو إلى العدل والمساواة والسلام والبر والإحسان والرحمة والتواصي والتآزر، وهو ما عرفناه منذ وعينا الأول، إلّا أننا واجهنا «إسلاماً» من نوع آخر، اتخذ طابعاً أيديولوجياً وسياسياً، وفي بعض الأحيان سلطوياً، وفي أحيان أخرى بالضدّ من السلطة.
فبمَ يختلف الإسلام الشعبي عن الإسلام الأيديولوجي؟
إذا كان الأول تطوّر تاريخياً، فإن الثاني نشأ في حركات سريّة، من أبرزها حركة «الإخوان المسلمين» في مصر في عام 1928، وغيره من التيارات الإسلامية التي تقدّم المصلحة السياسية والنفعية على جوهر الدين بتفسيراتها وتأويلاتها وقراءاتها للنصوص الإسلامية، من دون نسيان منطلقات «داعش» الإسلاموية، وقبلها تنظيرات تنظيم «القاعدة»، وغيره من الجماعات الإسلاموية التي انتشرت على نحو لم يسبق له مثيل باستغلال الثغرات الأمنية، وهشاشة بعض الدول وإخفاقاتها.
ويستخدم التديّن الأيديولوجي الدين في إطار مرجعية يخلقها هو بنفسه، ولنفسه، تارة باسم الحنين إلى الخلافة، وأخرى باسم ولاية الفقيه، وثالثة باسم القضاء على “معسكر الكفر الصليبي” وإقامة الدولة الإسلامية. ويميل مثل هذا النوع من التديّن إلى خلق إطار تنظيمي يقوم على الطاعة والمركزية الصارمة و«الأوامرية» الانضباطية التي تشبه التنظيمات الشيوعية، وطبعتها القومية والبعثية التي كانت مرجعيتها كتاب لينين «ما العمل؟» الذي صدر عام 1903.
وإذا كان هذا الفارق بارزاً بين الدين الشعبي والدين الأيديولوجي، فإن هذا الأخير حين يكون قريباً من السلطة يتحوّل إلى دين رسمي، وأحياناً باسم مذهب من المذاهب، في حين أن الاختلاف شاسع بين السلطة والدين، فالأولى تقوم على مجموعة من القوانين والأنظمة التي تصدر من جهة عليا لها الحق في اللّجوء إلى العنف لفرضها وإجبار الناس على الامتثال إليها من موقع فوقي، بينما يتعامل الدين معهم من موقع القيم الأخلاقية والأبعاد الإنسانية.
ويتماهى الدين أحياناً مع السلطة عبر المؤسسة الدينية، التي تتعاون معها وتخضع لتوجّهاتها وبالتالي يتم تكييف الدين لمصلحتها، تفسيراً وتأويلاً ونصوصاً. وإذا كان مصطلح «رجال الدين»، لا يوجد في الإسلام، وإنما يوجد علماء دين وهؤلاء عددهم محدود جداً، مثلما هناك باحثون ودارسون وطلبة علوم دينية، فإن السلطات تعمل على استمالتهم ومنحهم امتيازات مقابل تواطؤات معلنة ومستترة، بحيث لا يتجاوز كلّ منهما على الآخر، فالأولى تقدّم الدعم غير المحدود لإطلاق يد المؤسسة الدينية في الحصول على «الحقوق الشرعية»، مقابل أن تقدّم المؤسسة الدينية الولاء المطلق لها وتدعو لدعمها.
ويمكنني القول إن الدين شأن إنساني فردي، خارج دوائر السياسة والأيديولوجيا والسلطة، حتى وإن سعت التيارات الدينية لتوظيفه لمصلحتها، سواء بزعم التساوق مع التطورات الدولية وقبول الانتخابات والتداوليّة، أو العودة إلى الماضي ومحاولة استنساخه بما يتعارض مع أوضاع الحاضر ومتطلّباته، ومع سماحة الإسلام ومقاصده الإنسانية، فالماضي مضى، ولا يمكن إعادته.
طريقان سلكتهما المؤسسة الدينية، الأول اتجه للتوافق مع السلطة ووجد المبرّرات والذرائع لذلك، والثاني اتجه إلى المعارضة، وكان لقيام الثورة الإيرانية 1979 الدور المهم في إنعاش تيار الإسلام السياسي بمدارسه المختلفة، وتطلّعه في الوصول إلى السلطة، علماً بأن التيار الإسلامي لعب دوراً إيجابياً كبيراً في النضال ضدّ الاستعمار.
لقد انتقل الدين على يد بعض المجموعات الدينية الأيديولوجية، بما فيها «داعش» من فكر التكفير ذي العقوبات المؤجلة إلى الآخرة إلى فكر العقاب الآني المعجّل، أي القتل والتدمير خارج القضاء. وهكذا يتم التعامل مع التديّن السطحي الظاهري على حساب التديّن العميق التأملي، وبذلك يختلف جوهر الدين الشعبي عن الدين الشكلي.
ويقوم الإيمان الشعبي على طاعة الخالق، وهو الإيمان الإلهي – الفردي، وهو إيمان القيم، في حين أن التديّن السياسي المؤدلج، فضلاً عن التديّن الرسمي، يسعى إلى إخضاع الإنسان للطقوس حسب رأي فقهاء الطوائف التي تأسست لاحقاً.
التديّن الشعبي يقوم على إشباع حاجات الإنسان، روحياً ونفسياً، من خلال ممارسة عبادية وعلاقة إيمانية خارج النظريات والأيديولوجيات، أما التديّن الأيديولوجي فإنه ينتمي إلى الفقه الذي كتبه فقهاء السلطان في الأغلب، أي الانتقال من التديّن الشعبي إلى التديّن الرسمي وفقاً لضوابط الحاكم، أو لمعارضته لمصالح سياسية وطائفية، وهكذا ضاقت فسحة الحريّة في الدين لمصلحة الشكلانية الدينية الأيديولوجية والرسمية، خصوصاً بإبعاد العقل الذي هو هبة ربّانية، وتعطيل الاجتهاد والاكتفاء بالتلقين وتلاوة النصوص وحفظها وترديدها، أي التمسّك بالقشور على حساب الجوهر.
نقلاً عن “الخليج” الإماراتية