كريتر نت – متابعات
يسمونها “العوالم الأربعة عشر”، تلك التي تشكّل ما عرف باسم اتحاد الكومنولث متعدد الثقافات والذي ترأسته الملكة إليزابيث الثانية التي رحلت عن عالمنا مؤخراً أكثر من ثلثي قرن من الزمن.
“الكومنولث” أو رابطة شعوب بريطانيا هي واحدة من أقدم الاتحادات السياسية في العالم، تمتد لتشمل أكثر من 53 دولة على أراضي 6 قارات. يجمع بينها أنها كلها كانت تحت حكم الإمبراطورية البريطانية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
بالتغير الذي طرأ في لندن، وبتحول المُلك إلى وريث الملكة إليزابيث الثانية الملك تشارلز الثالث، كثرت التساؤلات عن مستقبل ذلك الكيان الذي حافظت عليه والدته بقدر كبير من الحكمة والصبر، كيان يبلغ عدد سكانه 2.4 مليار نسمة يتوزعون على دول من بينها كندا وأستراليا ونيجيريا والهند والكثير من دول الكاريبي.
الكومنولث نشأ عن التوجه الاستعماري البريطاني، ومع تطورها تطور، وبتحول الحقبة الاستعمارية من بعدها “التجاري” إلى ما عرفت بحقبة “الحكومة المسؤولة” والتي نشأ عنها نظام يمكن للحاكم بموجبه التصرف في الشؤون الداخلية فقط، بناءً على نصيحة الوزراء الذين يتمتعون بثقة المجلس المنتخَب، كما في حالة أجزاء من كندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وأيرلندا.
كان هذا الوضع يشبه إلى حد بعيد “الحكم الذاتي”، وكثيراً ما طالبت تلك الدول بالاستقلال، إلا أن التاج البريطاني كان يعرقل ذلك باستعمال الفيتو. وفي العام 1926 أعلن المؤتمر الإمبراطوري أن هذه الدول يجب أن تُعَدّ “مجتمعات تتمتع بالحكم الذاتي داخل الإمبراطورية البريطانية، متساوية في الوضع، ولا تخضع في أي حال من الأحوال لبعضها البعض في أي جانب من جوانب شؤونها الداخلية أو الخارجية، على الرغم من أنها موحَّدة بولاء مشترك للتاج الملكي، وترتبط بحرية كأعضاء في الكومنولث البريطاني”.
تفكك الإمبراطورية
ثم بدأ عهد جديد بتطبيق “النظام الأساسي لوستمنستر” مطلع الثلاثينات، وهو النظام الأساسي لبرلمان المملكة المتحدة ذاتها، والذي يقوم على “المساواة بين بريطانيا ودومينياتها آنذاك في كندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وأيرلندا ونيوفاوندلاند”، منذ تلك اللحظة بدأت تلك الدول تأخد المزيد من الحقوق وبات بوسعها أن تتحكم في شؤونها الداخلية والخارجية، وترسل بعثاتها الدبلوماسية الخاصة.
غير أن تلك الحقبة من القرن العشرين شهدت صعوداً للحركات القومية حول العالم، فلم يعد يكفي الولاء للملك لعضوية الكومنولث لدى الشعوب غير الأوروبية، كما في حالة الهند التي كانت تعدّ حالةً خاصة داخل الإمبراطورية البريطانية، فقد كان يحكمها نائب للملك، لديها وزير خارجية منفصل في لندن، وجيشها خاص، وحتى سياستها الخارجية خاصة، وبعد أن حصلت الهند على الاستقلال عام 1947، أصبحت عضواً في الكومنولث. ولكنها أعلنت رغبتها بالتحول إلى جمهورية بعد سنوات قليلة، وهذا كان سوف يؤدي إلى خروجها من الكومنولث حسب قواعده المتبعة.
حينئذ حرص الكومنولث على عدم خسارة الهند، فقرر رؤساء حكوماته المجتمعين في لندن في أبريل عام 1949 الموافقة على استمرار عضوية الهند، إذا قبلت التاج البريطاني، باعتباره فقط “رمزاً للارتباط الحر” لأعضاء الكومنولث.
وبذلك الإعلان سقطت الصفة البريطانية عن الإمبراطورية وأصبح الاسم الرسمي لها “كومنولث الأمم”.
ثم تتالت الدول التي تبعت الهند رافضة الاعتراف بالتاج حاكماً لها، فتنازل العرش البريطاني مجدداً مقابل أن يستمر الكومنولث. ومع الوقت صار الانضمام إلى الكومنولث لا يشترط أن تكون الدولة الراغبة فيه مستعمرة في السابق من قبل الجيش الملكي البريطاني، فانضمت موزمبيق أواسط التسعينات، ثم انضمت رواندا في العام 2009.
مع تطور حركات التحرر والاستقلال حول العالم، ظهرت أصوات رفضت البقاء ضمن الكومنولث، مثل ميانمار وأيرلندا وجنوب أفريقيا وباكستان، إلا أن الأخيرتين عادتا إلى الكومنولث بعد مغادرته.
واستمر الكومنولث كل هذه العقود يضم أقاليم تحكمها المملكة المتحدة أو أستراليا أو نيوزيلندا مثل أنغيلا، برمودا، جزر كايمان، جزر فوكلاند، جبل طارق، جزر تركس وكايكوس في المملكة المتحدة، جزيرة كريسماس وجزر كوكوس وجزر بحر المرجان وجزيرة نورفولك في أستراليا، وجزر نيوي وتوكيلاو في نيوزيلندا.
وتم منح هذه الأقاليم حكماً ذاتياً وحكومات إقليمية.
قيم تنتشر
• الملكة الراحلة مثلت الخط الدفاعي الأقوى عن الإنجليكانية، بينما عرف عن ابنها أنه مدافع قوي عن الأديان والثقافات
لا يوجد دستور رسمي أو لوائح داخلية للكومنولث، وتتم المقارنة بينه وبين منظمة الأمم المتحدة أو منظمة التجارة العالمية التي تتمتع بأنظمة خاصة، بينما يخلو الكومنولث من أي من القوانين الضابطة، ويحكم بين أعضائه التشاور والمراسلات التي توضع على أساسها القرارات وفقاً للمباحثات، ويقوم كل عضو في الكومنولث بإرسال مفوض سام إلى عواصم بقية الأعضاء.
أما رئيس الكومنولث فيحدده رؤساء الحكومات في الدول الأعضاء، وتقوم أمانة الكومنولث التي يرأسها أمين عام، بتنظيم أنشطة الكومنولث وتنسيقه وتيسير العلاقات بين الدول الأعضاء. والأمانة مسؤولة أمام مجلس المحافظين، الذي يتألف من المفوض السامي للدول الأعضاء لدى المملكة المتحدة. والرئاسة يتم التناوب عليها كل عامين.
تأثير هذه الرابطة على أعضائها بدأ يتخذ شكلاً تعاونياً أكثر منذ العام 1971 بعد مؤتمر سنغافورة، وكذلك في مؤتمر هراري بعد عشرين عاماً حين تم إلزام الدول الأعضاء بحقوق الإنسان والديمقراطية.
• الإرث الذي تركته الملكة إليزابيث الثانية ثقيل ومعقد، وليس بالضرورة أن يستطيع الملك تشارلز الثالث تحمّل أعبائه بالطريقة التي كانت تدير بها والدته اللعبة
وفي عام 2011 في أستراليا تم اعتماد الميثاق الذي كرس المبادئ الأساسية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتنمية المستدامة والحصول على الصحة والتعليم والمساواة بين الجنسين. ثم تم إنشاء صندوق “الكومنولث الأفريقي” لزيادة الاستثمار في تلك القارة. وتأسست روابط ثقافية وتربوية بين الأعضاء لتبادل المعلمين، وظهرت ألعاب الكومنولث التي تقام كل أربع سنوات.
يبدو الكومنولث رابطة أبعد من سياسية، وأقل سلطة من إلزام أعضائها بسياسات عامة، ففي الوقت الذي يتمتع فيه باتفاقيات تجارية مع الاتحاد الأوروبي، نجد أن بريطانيا التي غادرت الاتحاد لم تتمكن من فرض المغادرة على عضوين في الكومنولث هما مالطا وقبرص اللتان بقيتا ضمن الاتحاد الأوروبي.
هناك العديد من الجدالات التي تثار حول القيم المشتركة داخل الكومنولث، والتي ليست موضع إجماع من كافة أعضائه، كقوانين حظر المثلية الجنسية، فهي تطبق في 37 دولة من دول الكومنولث بينما ترفضها بقية الدول.
واليوم كما في الماضي، يقع عبء استمرار الكومنولث على التاج البريطاني وحده، وعلى العائلة المالكة والأجيال الشابة فيها، غير أن الإرث الذي تركته الملكة إليزابيث الثانية ثقيل ومعقد، وليس بالضرورة أن يستطيع الملك تشارلز الثالث تحمّل أعبائه بالطريقة التي كانت تدير بها والدته اللعبة.
ويرى المراقبون أن المظاهر المقلقة بدأت بالظهور مع انتهاء مراسم الحداد على الملكة إليزابيث الثانية، وحتى قبل ذلك، كما في قرار دولة باربادوس بأن تصبح جمهورية العام الماضي، ويفهم من هذا أن هناك تطلعاً متزايداً لقطع تلك الروابط الرسمية بالملكية البريطانية. ويتم الاستشهاد بتوجهات دول مثل أستراليا وجامايكا وغرينادا التي أعلنت عن نيتها إجراء استفتاءات للتحول إلى جمهوريات.
إذا استمر انفراط عقد الكومنولث فإن بريطانيا سوف تخسر قوتها الناعمة المتبقية عبر خرائط العالم، وصحيح أن الملك تشارلز الثالث وخلال الفترة الطويلة لولايته للعهد كان قد تمكن من إقامة صلات وثيقة وحظي بشعبية واسعة في دول الكومنولث إلا أن كل شيء قابل للانقلاب في أي لحظة. لقد تم اختياره في العام 2018 ليكون رئيس الكومنولث في اجتماع رؤساء الحكومات، إلا أن الملكة إليزابيث الثانية كانت موجودة آنذاك.
فرصة الملك
• بريطانيا لم تتمكن من فرض مغادرة الاتحاد الأوروبي على عضوين في الكومنولث هما مالطا وقبرص
في علاقة الملكة الراحلة بالكومنولث محطات مثيرة، من بينها ذلك الخطاب الذي أذاعته من مدينة كيب تاون عام 1947 وتعهدت فيه أن تقضي حياتها في خدمة شعوب الإمبراطورية والكومنولث، وخلل زيارتها إلى كينيا أبلغوها برحيل والدها وانتقال العرش إليها، كما نالت الكثير من الاحترام والتقدير لدورها في إقناع رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر بالتخلي عن معارضتها لعقوبات الكومنولث على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
أما الملك تشارلز الثالث الذي زار حوالي 45 دولة من 56 دولة من دول الكومنولث، فلم تتح له الفرصة للبرهنة على دعمه بمواقف قوية مثلما فعلت والدته، وهو الآن بمواجهة ذلك الاستحقاق قبل فوات الأوان.
من بوابة المناخ يمكن للملك تشارلز الثالث الاعتداد بأنه كان حريصاً على مصالح دول الكومنولث، فموقفه حيال القضايا البيئية وتغير المناخ، يدعم دول الكومنولث التي ستتأثر أكثر من غيرها بارتفاع درجات الحرارة ومستويات سطح البحر والظواهر الجوية الشديدة، وقد يكون ذلك هو مفتاحه الذهبي ليكون صوتاً قوياً لتلك الدول.
اختلف موقع التاج بين الملكة والملك، فالأم كانت تمثل الخط الدفاعي الأقوى عن العقيدة الإنجليكانية، بينما عرف عن ابنها أنه مدافع قوي عن الأديان والثقافات. ويمكن لذلك أن يكون جسراً قوياً يربطه بشعوب الكومنولث من خلال مؤسسة “برنسس ترست” الخيرية.
أمام الملك تشارلز الثالث وأمام الكومنولث عهد جديد قد يكون ضرورياً في عالم يسمع كل يوم صوت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يتحدث عن قيم الغرب الاستعمارية لتبرير حربه على أوكرانيا، مقابل غياب تام لمراعاة قيم الشعوب من قبل الغرب.
• المناخ يمكن للملك تشارلز الاعتماد عليه لإظهار حرصه على مصالح دول الكومنولث التي ستتأثر أكثر من غيرها