وسام العبيدي
كاتب عراقي
لا يُنكر ما للمؤسّسات الأكاديمية من أثر كبير في تطوير البنى الفوقيّة للمجتمع؛ فكلُّ المؤسّسات التي تقوم عليها ركائز الدولة الحديثة بمعناها المدني، تقوم على الكفاءات التي تُصدِّرها المؤسسات الأكاديمية، فالسياسة والاقتصاد والقضاء والتربية والتعليم والصحة والزراعة والصناعة… إلخ، كلّ هذه المجالات لا تقوم إلا على الطاقات الأكاديمية المؤهّلة لإدارتها بالشكل الصحيح، وقد لا نحتاج إلى تبيان مدخلية كل هذه المجالات وعلاقتها بالجانب العلمي الذي تقوم به الجامعات، ولعلَّ نظرة واحدة إلى الخطط التنموية التي تسير عليها الدول العظمى، تجدها تُعطي كل الأهمية فيما يخصّ تطوير البحث العلمي وترصينه، ورصد الميزانيات الضخمة في سبيل أنْ يشهد قفزات نوعية على أساسها يتحقّق للدولة ما ترتجيه من ازدهار في مختلف المجالات الحيوية.
والأمر لا يقتصر على الجانب العلمي من الدراسات الأكاديمية، بل يشمل كذلك الجوانب الإنسانية منها، فهو الآخر لا يمكن أنْ يبقى على ما كان عليه قبل أكثر من (50) عاماً من مناهج دراسية، ومن موادّ يدرسها الطالب؛ إذ لا بدّ من أن تشهد تطوّراً يعكس مدى التطور في الدراسات الإنسانية في العالم، وإذا كانت بعض الدراسات الإنسانية كالنحو وغيرها من الدراسات التي تتعلّق باللغة، بطبيعتها تتطلّب أنْ يكون الطالب مُلمّاً بالمعلومات التي تخص اللغة العربية وقواعدها من المصادر القديمة، مع بعض الآراء والطروحات للمحدثين من الدارسين في سبيل تيسيرها للطالب المبتدئ، فإنَّ حال دراسة النقد الأدبي لا تقتصر على أنْ يكتفي الطالب بما يطالعه من تاريخ النقد في القرون السالفة، وبشيء مختصر على المناهج النقدية، بل ينفتح إلى ما آل إليه حال النقد ومناهجه في جامعات العالم المختلفة، فضلاً عمّا ينبغي أنْ يُصار إليه واقع النقد وتدريسه من الجانب النظري إلى العملي، وتمثّله في سلوكيات الآخذين بتلك المناهج، بما يعكس روحيّة التعدد والحوار بين المختلفين، وفي هذا الصدد يقول الناقد الدكتور صالح هويدي: “وإذا كان للجامعة الأثر التنويري الأكثر أهمية وحسماً في حياة المجتمعات، فإنّ من الطبيعي أن يؤثر واقع الدرس النقدي وتدريسه في الجامعة في المشهد الثقافي وتطوره تأثراً وتأثيراً. فكلما كان الدرس الأكاديمي (النقدي) أكثر تفعيلاً ومنهجية وازدهاراً، وكانت العلاقة بين أساتذته والوسط الثقافي قائمة على الفعل والحوار والتأثير، كان ذلك في صالح نمو الحركة النقدية وتطورها” [مقاربات نقدية في الثقافة والتراث، 60] وهذا ما ينبغي أنْ يكون عليه واقع الدرس الأكاديمي في النقد الأدبي، وإلا فالحال الذي نجده راتباً من جمود في واقع الدرس الأكاديمي في الدراسات الإنسانية، لا سيّما في الأدب ونقده، أعادنا إلى “المربع الأول” الذي لا جديد فيه تحت شمس التحولات في النظرية النقدية، ولا يبشّر بما هو مختلف عن السائد “المدرسي” الذي لا يخرج عن حدِّ التلقين، ولعل حسرة الروائي والناقد الدكتور محمد برادة في ضمن حديثه عن مشروع الناقد محمد مندور في محلِّها؛ إذ يقول: “لقد انقضى ذلك الزمن الذي تجرّأ فيه طه حسين على التوسّل بالشك الديكارتي لدراسة الشعر الجاهلي، انقضى ذلك الزمن، وتحوّلت الجامعة إلى سلطة لكفالة المشروعية الثقافية، وتخريج الإطارات والباحثين المنسجمين مع المؤسسات المسيطِرة. في المرحلة الأخيرة من تاريخ مصر أصبحت معظم الأطروحات الجامعية تستهدف الحصول على وظيفة أو كرسي، وأضحى الأساتذة يتحصّنون في عزلة أبراجهم العاجية” [محمد مندور وتنظير النقد العربي: 19] وهو تشخيص لحالة مرَضية اجتاحت الوسط الثقافي الأكاديمي في وقتٍ نراه الآن زمناً ذهبيّاً للإنجاز الأكاديمي الرصين. ولو نظر برادة صاحب هذه المقولة إلى واقعنا الأكاديمي الراهن، لترحّم على ذلك الزمن وسحب في حقه ذلك التشخيص؛ لما سيجده من كوارث تُرتكب باسم العلم والمنهج العلمي.
ولعلَّ حال البلاغة ليس بأفضل من حال واقع الدراسات النقدية الأوّلية، فهي الأخرى تئنُّ من النزعة التقليدية التي أنَّ منها من عاش قبلنا بأكثر من (80) عاماً مفعماً بالأسى والسقم من واقع البلاغة في عصره، وأعني به الشيخ أمين الخولي، الذي قال عن البلاغة إنّها نضجت حتى احترقت، وهنا أترك للناقد الدكتور الغذّامي التعقيب بقوله: “وهذا رأيٌ فيه صدقٌ وبصيرة، ولكنَّنا، مع هذا، ما زلنا نُدرِّسُ طلّابنا في المدارس والجامعات مادة البلاغة بعلومها الـ3، ولا نعي أنَّ ما نُدرِّسهُ لهم هو علمٌ لم يعد يصلح لشيء، فلا هو أداةٌ نقديّةٌ صالحةٌ للتوظيف، ولا هو أساسٌ لمعرفة ذوقيّة أو تبصُّر جماليّ، وإنْ كانت قديماً كذلك، إلا أنَّها الآن لم تعد أساساً لتصوُّر ولا لتذوُّق، ومن ذا يحتاجُ إلى رصد الكنايات والجناسات والطباقات في أيّ نصّ أو تعرّف صيغه ودلالاته، ونحنُ في الجامعات نُدرِّسُ طلّابنا وطالباتنا كلَّ ما هو نقيضٌ لهذه البلاغة، وقد نظنُّ أنَّ إلغاءها سيكون بمثابة الانتحار المعرفي، أو التآمر ضدَّ التراث، وضدّ ذائقة الأمّة. تتصنّمُ العلوم مثلما يتصنّم الأشخاص حتى لتبلغ حدّ القداسة، وأنا أرى أنّ النقد الأدبي كما نعهده، وبمدارسه القديمة والحديثة، قد بلغ حدّ النضج، أو سنّ اليأس حتى لم يعد قادراً على تحقيق متطلّبات المتغيّر المعرفي والثقافي الضخم الذي نشهده عالميّاً وعربيّاً” [نقد ثقافي أم نقد أدبي: 12]
ولعل مشاهد الركود العلمي لم تنحسر في هذا الجانب: جانب عدم مواكبة المناهج المقرَّرة للدراسة، بل شملت جانب التدريس الذي طال طرائق التدريس سواءً أكان في الدراسات الأوّلية أم في الدراسات العليا، ومعلومٌ أنَّ طرائق التدريس لها الأثر الكبير في تنمية الموهبة لدى الطالب، ودفعه بصورة أفضل لتلقّي المعلومات لا بصورة المستهلك بل ما يتعدّى هذه المرحلة إلى نقدها وإنتاج ما يُقابلها من أفكار… وإلا ما فائدة أنْ يجعل الطالب من نفسه خزينةً لمعلومات لا يُسهم في مراجعتها نقدياً، بل يجترُّها فيما بعد إن سنحت له الفرصة هذا في أفضل الأحوال؟ وإلا فحال تلك “الخزينة” أنْ تذهب معلوماتها مع الريح بانتهاء أمد الدراسة الأكاديمية التي يقطع شوطها الطالب أو الباحث…! فضلاً عن سياسة المؤسسة التعليمية التي ارتهنت إلى ما ترهّل في الواقع من مجالات حيوية، وكأنَّ تأثير كلٍّ من المؤسسة التعليمية في المجالات الأخرى النابعة في الأصل منها، وتأثير تلك المجالات في المؤسسة التعليمة، يأخذ منحى “الدور” فلسفيّاً؛ إذ كلُّ مجالٍ له أثره وتأثيرهُ في الآخر.
أقول: ومع ذلك ما زال الحلّ بيدنا فيما لو تضافرت جهود المجتمع الأكاديمي، واتفقت كلمتها على إنهاء الوضع المزري الذي تؤديه المؤسسة التعليمية، التي للأسف لم تضع عنوانها نصب عيون الذين تسنّموا المسؤولية فيها، تلك السيرة التي نجدها طيلة عقود بأفضل حال ممّا هي عليه اليوم، ودليلٌ على إمكان النهوض بالواقع العلمي الأكاديمي، هو في عدم الانصياع للقرارات المرتجلة غير المدروسة التي تفرضها الوزارة بشأن خطة قبول الدراسات العليا، أو رفض الاعتراف بالشهادات العلمية الوافدة من جامعات ركيكة في مستواها العلمي، في الوقت نفسه يتم إبعاد الأساتذة الدُخلاء الذين ينطبق عليهم وصف الرصافي: (يُعدّد أياماً، ويقبض راتباً)…! وهؤلاء لم يكونوا على هذا المستوى إلا لترهّل حال الضبط من قبل الوزارة؛ ولانهماكها بإنجاح الطلبة وعدم الضغط العلمي عليهم، وكأنّ العلم صار لوناً من ألوان الضغط والإجحاف بحق الطلبة…! ناهيك عن حال اللجان العلمية التي تُجيز النطيحة والمتردّية من الرسائل والأطاريح؛ بسبب المُدخلات من الطلبة الذين يتم قبولهم من دون شرط النجاح بحسب القرار الوزاري الذي يصدر كل عام بعد تحديد الأقسام العلمية بعدد معين بحسب الخطة التي يضعها القسم، ويأتي القرار الوزاري آنف الذكر ضارباً عرض الحائط بخطّة القسم، وكأنّ حال الدراسات العليا لدينا صار كالمقبرة؛ إذ لا تردّ جنازةً تدخل إليها على أيّ حال!
ومع ذلك أردّد بحزم: ما زال الحلّ بمستقبل علمي واعد تشهده جامعاتنا ممكناً إن عقدنا العزم على تغيير الحال لما هو أفضل وأصلح، ولما فيه ازدهار حركة المعرفة وإنعاشها؛ وذلك بما أفصحتُ عنه قبل قليل، فضلاً عمّا يمكن الاستفادة منه من طروحات منهجية -ونحن نخص بالكلام ميدان النقد الأدبي- في سياق نقد النقد، الذي ينبني في أصل مشروعه على إعادة ضبط الأفكار واختبار صلاحية العمل بها في ضوء متغيرات العصر والوافد من الأفكار والطروحات، وفي ضوء تمثيلها والاشتغال عليها في متون وسياقات أخرى، وبهذا الوعي النقدي الحسّاس، نأمل أن تعود إلينا الدراسة الأكاديمية بالنافع والمفيد، سواءً للمجتمع الأكاديمي أو للمجتمع عامّة؛ فالجهد الأكاديمي إنّما يصبّ في غايته الأساس لصالح المجتمع الذي يمثّل القاعدة الحقيقية لنهضة الأمم.
المصدر حفريات