علي الصراف
وحدهم الذين اتخذوا من صناعة السلام منهجا للدولة، هم الذين يمكنهم نقل رسالة سلام إلى العالم.
الإمارات، تحت قيادة الشيخ محمد بن زايد، لم تصنع سياسة “تصفير المشاكل” إلا لكي تحولها إلى مشروع إستراتيجي يضع في الاعتبار أن المصالح الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، وعلاقات التعاون، أعلى مقاما من أي نزاعات أو خلافات سياسية أو حروب.
حتى “الحياد السويسري” لم يرق إلى هذه الرؤية. سويسرا في الحرب العالمية الثانية اتخذت من الحياد إطارا لتحاشي الدخول في حلف من الأحلاف المتصارعة. لم تشأ أن تكون أرضا للمعركة.
الإمارات اختارت أن تكون هي أرض المعركة! إنما لمعركة مختلفة تماما. إنها معركة تنمية وتعاون وإثراء متبادل للمصالح. ومن بعدها، معركة لتسوية الخلافات، على قاعدة النظر إلى العلاقات بين الدول من منظار المستقبل، أو من منظار ما يجب، وما يمكن أن يكون، لا من منظار ما قد نقع فيه من الأزمات.
إستراتيجية الإمارات سرعان ما تحولت إلى عدوى إقليمية لأنها لفتت الانتباه إلى ما هو أهم وأبقى من أي نزاع سياسي، مهما بدا عميقا أو شرسا.
قبل أن تعلن الإمارات برنامجها للخمسين عاما المقبلة، كانت المنطقة تغرق بكل احتمالات الحروب، في أجواء من القطيعة والتوترات الشاملة بين هذا وذاك وذلك. ولكن سرعان ما انقلبت تلك الأجواء لتفتح الطريق إلى أفق آخر. كان يبدو بعيد الاحتمال، فأصبح واقعا ممكنا.
تحتاج الخيارات الإستراتيجية الجذرية إلى شجاعة مطلقة، وثقة مطلقة بالنفس، وإيمان مطلق بالصواب، وبفرص المستقبل القائم على نبذ الحروب والنزاعات والمشاكل.
يذهب الشيخ محمد بن زايد إلى موسكو وهو يحمل هذه الرؤية. ولأنه صانعها، فإنه الأقدر على تقديمها والدفاع عنها، للخروج من دائرة الشر التي تحيط بروسيا وأوكرانيا وأوروبا والولايات المتحدة، بل وربما العالم بأسره.
توجد مصالح. كما يمكن لنزاعات المصالح أن تستثير حروبا. إلا أنه يمكن دائما الفوز بتلك المصالح عن طريق آخر. للخروج من أزمة، يوجد طريق آخر دائما. الحرب ليست هي الطريق الوحيد. بل إنها ليست طريقا من الأساس. إنها مسلك عتيق وبالٍ، ولم يعد يتلاءم مع ما يواجهه كوكب الأرض من تحديات.
كنا في أزمة مناخ، على سبيل المثال، وكنا نراها تتفاقم وتنثر جفافا وفيضانات وذعرا. الآن، وبفضل الحرب في أوكرانيا، أصبحت العودة إلى الفحم هي الحل!
قد تنتصر في أوكرانيا أو في ما هو أبعد منها. ولكنك تهزم الأرض، بكل ما فيها، أيضا!
السير بطريق السلام يقتضي شجاعة وثقة مطلقة بالنفس، إلا أنه ممكن. كما يمكن دائما كسب الحرب من دون حرب. هذا هو التصور الإماراتي للعلاقات بين الدول.
ويمتلك الشيخ محمد بن زايد ما هو أبعد من إرادة السلام. الأدلة على الموقف المتوازن من الأزمة بين روسيا وأوكرانيا هي أقل ما يمكن النظر إليه كدليل على تلك الإرادة.
أما الأكثر، فهو أن البلاد التي تحولت، تحت قيادته، إلى مركز جذب عالمي للاستثمارات والمشاريع وأعمال التطوير والشركات متعددة الجنسيات، ومنها الشركات الإماراتية نفسها، قدمت نموذجا لثقافة السلام والتعاون ونبذ النزاعات والالتفات إلى المصالح المشتركة.
وأما الأكثر، فهو أن للإمارات “مصلحة خاصة” بالسلام العالمي. وهي مصلحة يجدر بكل دول العالم أن تكسبها وتستفيد منها وتأخذ بمعاييرها ومتطلباتها.
لقد أحدثت الحرب في أوكرانيا دمارا زائدا عن الحاجة. ولكنها أحدثت شروخا أعمق في العلاقات الدولية، لم يعد مبالغا فيه اليوم القول إنها تهدد باندلاع حرب عالمية يمكن أن تقضي على كوكب الأرض.
يذهب الشيخ محمد بن زايد إلى موسكو ليدافع عن حصة بلاده في هذه الأرض! وهو مبتغى سلام يجدر بكل ذي حصة مماثلة أن يأخذ به ويدافع عنه.
يقف العالم اليوم على حافة حرجة؛ حافة كان يمكن تحاشيها، ولكن تحاشيها الآن، أصبح أوجب من أي وقت مضى.
بوضوح، تدور الحرب في أوكرانيا في دائرة مفرغة. تصعيد يقابل تصعيدا. ودمار يقابل دمارا. وضحايا على الجانبين يسقطون بلا أفق واضح. وإذا كانت روسيا تخوض حربا مع التحالف الغربي، فلا هي قادرة على هزيمته، ولا هو قادر على هزيمة روسيا. ولكل طرف من الطرفين من عوامل القوة ما يجعله قادرا على استنزاف يدوم لسنوات. هذا إن لم يجد العالم نفسه أمام دمار مطلق.
الحديث الجاري عن استخدام النووي التكتيكي نذير بؤس شامل في أوروبا التي تُقبل على شتاء لن يجمّد أطراف الناس فقط، بل يوقف الكثير من الصناعات، ما يدفع بالاقتصاد العالمي كله إلى التعثر والشلل.
الشيخ محمد بن زايد يذهب إلى موسكو من أجل مشروع لإعمار شامل، يوقف الحرب أولا، ويجد سبيلا لتسوية النزاع ثانيا، ويبدأ عملا دوليا مشتركا ليس لإعادة بناء ما تهدم في المساكن والبنى التحتية فحسب، وإنما لإعادة بناء ما تهدم في النفوس وفي العلاقات الدولية أيضا.
إنه رجل ثقة لأكثر من سبب. ولكن أول الأسباب هو أنه صاحب مشروع لم يكتف بأن أصبح ناجحا في علاقات الإمارات بمحيطها الإقليمي والدولي، ولكنه امتلك من قوة التأثير ما جعله نموذجا جاذبا.
وفي الواقع، فإن كل قصص النجاح في التاريخ المعاصر، هي قصص سلام وتعاون، لا قصص حروب.
الحرب في أوكرانيا، لا تقتصر على أوكرانيا وحدها. إنها حرب بين تصورين مختلفين للنظام الدولي نفسه. وهذا ما يجعلها، حتى في حدودها الراهنة، حربا عالمية مصغرة؛ تدور في نطاق جغرافي محدود، ولكنها تأخذ أبعادا لا توفر نطاقاً أو أحداً.
ولكن بالرغم من كل ما نراه من أجواء الحرب التي تستثير الكراهيات والرغبة بالقضاء على الآخر أو إملاء الهزيمة عليه، إلا أن هناك سبيلا ليس لاستئناف التعايش، فحسب، ولكن للخروج من دائرة التنازع والمنافسة التي تضمر تهديدا.
لقد جرب النزاع بين “القوتين العظميين”
(الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة) فلسفة التعايش. ولكنها فشلت.
انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي سرعان ما نُظر إليه في الغرب على أنه هزيمة بلغت بالتاريخ إلى نهايته، هو الذي صنع الرؤية القومية الروسية التي قادت إلى خوض الحرب في أوكرانيا.
استئناف التعايش لم يعد كافيا، وهو ليس حلا، وأي تسوية في إطاره، لن تصمد طويلا.
هذه الحرب، من وجهة نظر مشروع الشيخ محمد بن زايد، لا يكفي أن تتوقف فورا. وهي لن تتوقف في الواقع إلا إذا اتخذت من “تصفير المشاكل” إطارا عريضا لتصفير الحروب والنزاعات المسلحة.
كل ما سوف يبقى، من بعد ذلك، هو رعاية المصالح الاقتصادية والتنموية والاجتماعية والمنافسة على أسس الشراكة والتعاون والإثراء المتبادل.
رسالة السلام الإماراتية شجاعة وواثقة وصائبة بما يكفي لكي تدل طرفي الحرب على طريق آخر.
نقلاً عن “العرب” اللندنية