كريتر نت – متابعات
تُصر بعض المؤسسات الدينية في المجتمعات العربية على سحب المرأة إلى العصور السابقة مرة أخرى، رغم المكتسبات السياسية والاجتماعية التي تحققت الفترة الماضية، وظهر ذلك في تمكينها بالعديد من القطاعات، الأمر الذي استفز التوجهات الذكورية لدى البعض من الفقهاء الذين يتحكم فيهم المزاج السلفي من دون اكتراث أن الفتوى من المفترض أن تكون إنسانية أكثر منها تراثية.
وحمل إصرار دار الإفتاء المصرية على نسب الطفل الناتج عن علاقة غير شرعية إلى أمه وليس أبيه، حتى لو اعترف الرجل بهذا النسب وتزوج من المرأة المستهدفة، الكثير من الشواهد التي تعكس هيمنة المزاج السلفي على الفتاوى، إذ تمسكت دار الإفتاء بأن يُنسب الطفل إلى أمه كعقوبة دينية لها، على اعتبار أن هناك إجماعا فقهيا على ذلك لكونها قبلت بالعلاقة خارج إطار الزواج.
توجه رجل بسؤال إلى دار الإفتاء، معترفا بأنه ارتكب فعل الزنا ويرغب في الزواج من المرأة التي أقام معها العلاقة حتى يُنسب الطفل له كنوع من تصحيح الخطأ الذي ارتكبه معها، لكن جاء الرد بعيدا عن المعاني الإنسانية واشترطت المؤسسة الدينية ألا يكون إنجاب الطفل حدث قبل عقد القران بستة أشهر، فحينها يكتب باسم الأم.
يعني ذلك أن الرجل إذا احترم العلاقة التي جمعته بامرأة بطريقة غير شرعية فرجال الفتوى يرفضون تبرئة السيدة، رغم أن التوبة عن الزنا لم ينكرها الإسلام، لكن يظل التشدد الذي يهيمن على عقلية بعض رجال الفتوى وتأثرهم بالمزاج السلفي الذي يحكم المجتمع جعلهم أسرى لرؤى فقهية قديمة بحاجة لأن تنسف من جذورها.
الهيمنة والرؤى السلفية
عادل بركات: إنسانية العلاقات الاجتماعية تتعارض مع الكثير من الرؤى الفقهية
يصعب فصل الهيمنة السلفية على الفتوى وإدمان الكثير من الأفراد داخل بعض المجتمعات العربية للرؤى السلفية، عن وقوف بعض الحكومات عاجزة عن وضع حد لولاية الفقيه واستبدالها بولاية القانون، فرغم أن الدستور في مصر يؤكد على مدنية الدولة، لا تزال العلاقات الاجتماعية تأخذ شكلا دينيا، وتتحكم الفتاوى في كثير من مناحي الحياة، وأصبحت متداخلة مع كل التصرفات الإنسانية.
ترتب على هذه الهيمنة أن صارت الأحكام القضائية التي يفترض أن تحدد شكل العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين الأفراد دينية بحتة، ما ينسف مكتسبات حصلت عليها النساء في المجتمعات التي تقدس الفتوى في علاقاتها، وينعكس ذلك أيضا على حياة الناس مع بعضهم، طالما أن التحريم المطلق أصبح ثقافة سائدة عند المفتين.
ويرى معارضون لهذا الواقع المجتمعي الذي يميل للرجعية والجمود وتسطيح العلاقات الإنسانية أنه لا يمكن تأسيس دولة مدنية متحضرة دون أن تكون لها تشريعات مدنية حاكمة لها، لأن استمرار تديين العلاقة يغذي حضور الفكر المتشدد، ويجعل مهمة النظام السياسي في نشر التسامح والمودة بين الناس يصطدم بعراقيل بالغة.
الرجل الذي أخطأ وأقام علاقة غير شرعية خارج إطار الزواج مع امرأة ونتج عن ذلك إنجاب طفل لا يجب أن يتحدد نسبه لابنه من عدمه بناء على فتوى أو فقه قديم، دون مراعاة لإنسانية الموقف وتطورات العصر الراهن، فهو اعترف بابنه، لكن هناك رجال دين يتمسكون بقطع صلة الرحم مع طفل يفترض أنه أولى الناس بنسبه واسمه.
شروط مجحفة
عبير سليمان: استمرار هيمنة الفتوى يقود إلى المزيد من الفجوات داخل المجتمع
يتعامل الأزهر بالمثل مع الزواج العرفي، فهو يعتبره “زنا” طالما افتقد للشروط الشرعية، مع أن الكثير من العلاقات الزوجية في مجتمعات مختلفة أصبحت تتم بشكل عرفي، فماذا عن أبناء هؤلاء الأزواج؟ ولماذا لم تنظر المؤسسة الدينية بعين الإنسانية إلى الأبناء لا المتزوجين عرفيا؟ وكيف يكون الآباء معروفين ولا ينكرونهم ولا ينتسبون إليهم ويعيشون معهم؟
لا يزال المبرر الديني الوحيد لرجال الفقه أن النسب الأبوي للأبناء يكون وفق علاقة شرعية وعقد زواج صحيح بشهود ومأذون، ودون ذلك ينتسب الطفل إلى الأم وحدها، ما يزيد من معاناتها وابنها ويضعهما في مواجهة مع المجتمع الذي دائما ما يبادلهما المعاملة بالوصمة والنظرة الدونية والتنمر والعنصرية، مع أن الإسلام حرم ذلك وجرم هذه التصرفات.
وتقول عبير سليمان الباحثة الحقوقية في مجال المرأة بالقاهرة إن استمرار هيمنة الفتوى على العلاقات الاجتماعية يقود إلى المزيد من الفجوات داخل المجتمع، وإذا وجد عداء شبه معلن من بعض الفقهاء تجاه المرأة لن تتمكن الحكومة من وضع حد لاستهداف النساء، قولا وعملا، والمعضلة أن مثل هذه الفتاوى السلفية أصبحت هدامة للعلاقات الأسرية.
وأضافت لـ”العرب” أن التحريم الديني لسعي الرجال لإقامة علاقات اجتماعية وأسرية مع سيدات حدثت معهن علاقة غير شرعية تفكير غير إنساني، لأن الله يقبل التوبة فكيف لا يقبلها رجل دين؟ وباتت المجتمعات تدفع ضريبة تديين التشريعات التي تحكم علاقات الناس، ولم يعد هناك بديل عن رفع يد المؤسسة الدينية عن القوانين.
وتبرهن فتاوى التحريم التي تتناغم ضمنيا وكليا مع المزاج السلفي على أن الرضوخ لولاية الفقيه في كل ما يخص العلاقات الإنسانية يظل عائقا أمام أي مجتمع يرغب في تكريس التسامح والمودة ولم الشمل، لأن علماء الدين المعاصرين يتمسكون برؤى قديمة متطرفة لها زمانها ولم تعد مناسبة للعصر الحالي ومستجداته.
ووفق قناعات الفقهاء الذين اعتادوا استهداف المرأة بفتاواهم المتشددة، فالابنة التي هي من صلب الأب ولم تُنتسب إليه تعتبر غريبة عنه، مع أنه بنفس المنطق الرجعي لهؤلاء يجوز لهذا الأب أن يتزوج من ابنته التي لا تنسب إليه، وغريبة عنه ولا تحمل اسمه، ولا تربطه بها علاقة، ما يبرهن جهل الكثيرين ممن يتصدرون مشهد الفتوى.
اختلاط الأنساب
المجتمعات والحكومات مطالبتان بإعمال العقل في كل ما يصدر من فتاوى لها علاقة بالمرأة
يؤكد معارضون لاستسلام المجتمعات والحكومات لرؤى رجال الفقه كل ما يرتبط بالعلاقات الإنسانية وحتمية أن تكون القوانين هي الحاكمة فقط، أن المؤسسات الدينية تبرر رفض تسمية أبناء العلاقات غير الشرعية لآبائهم بمنع اختلاط الأنساب بين الناس، ولو أعملوا العقل والفهم لوجدوا أن جمودهم يقود إلى نشر اختلاط الأنساب.
يبني هؤلاء وجهات نظرهم على أنه إذا تمت تسمية الابنة للأم كعقوبة دينية لها على إقامة علاقة خارج إطار الزواج ثم تزوج الرجل وأنجب ولدا من امرأة ثانية، وبعد سنوات ارتبط الولد والابنة وتزوجا باعتبار أنهما من أبوين مختلفين أليس ذلك من صميم اختلاط الأنساب، حيث يتزوج الابن من شقيقته لمجرد أنه لا يعرف الحقيقة، ثم ماذا لو نتج عن ذلك أبناء؟
يرى عادل بركات الباحث المتخصص في العلاقات الاجتماعية والمحاضر في التنمية البشرية بالقاهرة أن الاستسلام لولاية الفقيه الاجتماعية لم تعد تصلح لهذا العصر، لأن مدنية وإنسانية العلاقات الاجتماعية تتعارض مع الكثير من الرؤى الفقهية القديمة، ولم يعد هناك بديل عن وجود إرادة سياسية تعزز مكاسب المجتمعات.
ويوضح لـ”العرب” أن المجتمعات والحكومات مطالبتان بإعمال العقل في كل ما يصدر من فتاوى لها علاقة بالمرأة وعلاقاتها لتتأكد من خطورة استمرار حالة الاستسلام للتفسيرات القديمة، فلا توجد نصوص دينية قطعية تحسم المسائل الاجتماعية، ولا يجب أن يكون البديل فكرا سلفيا لمجرد أنه متوارث منذ القدم.
لا يزال المبرر الديني الوحيد لرجال الفقه أن النسب الأبوي للأبناء يكون وفق علاقة شرعية وعقد زواج صحيح بشهود ومأذون
ويعتقد بركات أن المرأة أكثر فئة معرضة للظلم والقهر والاستهداف نتيجة سيطرة الفتوى مقابل ضعف القوانين الإنسانية، لأن الكثير من رجال الدين يتعاملون معها باعتبارها تابعة للرجل، لا عنصر فاعلا بالمجتمع، ثم أن اتهامها وحدها بتحمل مسؤولية العلاقة غير الشرعية يجعلها موصومة مجتمعيا، وهذا ضد الدين، ويجعل أولادها من المستهدفين دوما.
وتؤمن الناشطة عبير بأن الرؤى الدينية المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية، حتى لو كانت صحيحة، فهي ظالمة للمرأة طالما تسيطر عليها العقلية السلفية المعادية للمرأة، ومهما بلغت صحتها فهي تخص زمانها ومكانها وسياقها المجتمعي، ولا يمكن أن يتم إغفال العلم والقانون مقابل التمسك بالفقه والطريقة التي كانت مطبقة قبل قرون.
وهناك تجارب عربية تبرهن على أن نسف الرؤى الدينية المرتبطة بنسب أطفال المولودين خارج إطار الزواج ليس صعبا، يتطلب فقط إرادة ومجتمعية وفهما لمستجدات العصر، وجرأة وشجاعة من صانع القرار، وهي دوافع شجعت دولة الإمارات العربية المتحدة على أن تحسم قضية نسب الأبناء بشكل إنساني.
وأجرت دولة الإمارات منذ نحو عامين تغييرا جذريا في سياستها المتعلقة بالأطفال المولودين خارج إطار الزواج، وأصبح مسموحا للآباء غير المتزوجين التقدم بطلب للحصول على شهادة ميلاد للطفل خارج إطار الزواج بعد أن كانت التشريعات تنص على عدم السماح لهم بذلك، لكن التغيير جاء حفاظا على حقوق الأطفال ومراعاة للعلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة.
يشير هذا التصرف إلى أن إقصاء رجال الدين عن التحكم في مصائر العلاقات الاجتماعية والأسرية ليس مهمة صعبة ولا يتعارض مع الأديان في شيء، ويخدم الإنسانية ويغذي التراحم بين الأفراد، والعبرة في جرأة وشجاعة الحكومات بأن تنسف العقلية السلفية ولا تجعلها مهيمنة على الناس إذا أرادت المجتمعات التعامل بالرحمة.