عيسى نهاري
مرت أكثر من 25 يوماً على مقتل مهسا أميني، ابنة الـ22 عاماً التي قضت بحسب عائلتها على يد السلطات الأمنية الإيرانية، وما زالت التظاهرات المنددة بالجريمة تعصف بإيران بل بلغ صداها مختلف دول العالم وازداد زخمها مع انضمام الإيرانيين من شتى المدن إلى دعمها، الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة حول طبيعة التظاهرات الحالية، وما يجعلها مختلفة عن غيرها في بلد تلازمه الاحتجاجات منذ عقود، من دون تغيير ملموس في هرمية النظام ورموزه.
شعار جديد
تشترك احتجاجات اليوم والأمس في أسلوب النظام الإيراني في قمعها إلا أنها تختلف في الشعارات والقوى المحركة لها، فبخلاف تظاهرات 2009 التي نددت بممارسات تزوير الانتخابات الرئاسية أو تظاهرات 2019 التي نددت بزيادة أسعار البنزين، فإن التظاهرات الحالية تنطلق من استياء شعبي من تحكم النظام في شؤون الناس اليومية، وأسلوب حياتهم خصوصاً النساء اللاتي يعانين من وصاية السلطات الأمنية وإجبارهن على ارتداء الحجاب.
ولذلك، رفعت التظاهرات الحالية شعار “المرأة والحياة والحرية” وشاركت المرأة بصوتها، الأمر الذي استدعى النظام الإيراني للمسارعة في التكشير عن أنيابه. ويذكر معهد “كوينسي” للأبحاث أن التظاهرات السابقة استغرق النظام أسابيع وفي حالات أشهر قبل أن يتحول إلى العنف لإخمادها، بخلاف التظاهرات الحالية التي دقت ناقوس الخطر لدى السلطة الحاكمة سريعاً ودفعتها إلى استخدام القوة مع المتظاهرين ما أدى إلى مقتل العشرات في غضون أيام قليلة.
المرأة تقود وتلهم
ولكن ما يميز التظاهرات هذه المرة ليس فقط الاستنفار السريع لقمعها بل عدة عوامل تأتي في مقدمتها مشاركة المرأة اللافتة في قيادة الاحتجاجات. يقول أستاذ في علم الاجتماع والدراسات الدولية في كلية بوسطن الأميركية محمد كاديفار، إن الموجة الحالية من الاحتجاجات تتطلب الشجاعة كغيرها، لكنها تتميز بأن “المرأة تقود الطريق هذه المرة، وتبتكر طرقاً جديدة لتحدي النظام”.
ويعدد كاديفار في مقالة نشرتها “واشنطن بوست”، ثلاث سمات تميز التظاهرات الحالية وهي: خروج شخصيات إيرانية بارزة من رياضيين وفنانين ورجال أعمال للحديث عن القضية علانية، وتضامن إيرانيين مع الحركة الاحتجاجية على الرغم من أنهم لم يعتادوا الانخراط في الاحتجاجات، إضافة إلى تلاشي الانقسامات العرقية أمام مطالب المحتجين، فعلى الرغم من أن الفتاة الراحلة من كردستان فإن التعاطف مع عائلتها جاء من مختلف المدن في إيران.
فيينا ومقعد المرشد
ومن العوامل التي تزيد من أهمية التظاهرات الحالية وتبرر رغبة النظام في إخمادها بأسرع وتيرة ممكنة هو اندلاع الاحتجاجات في وقت حساس في إيران، خصوصاً بعد التقارير التي تحدثت عن مرض المرشد الإيراني علي خامنئي، وعلى الرغم من أن خامنئي خرج في إحدى المناسبات لقطع الطريق أمام التكهنات حول صحته ومستقبل النظام فإن الغموض حول الشخص المرشح لخلافته لا يزال قائماً.
كما تأتي التظاهرات في وقت سيئ للنظام الإيراني بالنظر إلى مساعيه المستمرة لإحياء الاتفاق النووي الذي سيرسم ملامح المرحلة المقبلة في إيران. ويبدو أن أول تداعيات الاحتجاجات التي أحرجت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هو التحول اللافت في خطاب واشنطن حول مفاوضات فيينا، إذ قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية، الأربعاء 12 أكتوبر (تشرين الأول)، إن المحادثات النووية مع طهران “ليست محور تركيز الولايات المتحدة حالياً”، مشيراً إلى أن تركيز واشنطن منصب الآن على “الشجاعة التي يظهرها الشعب الإيراني، ودعم تظاهراتهم السلمية وتسليط الضوء عليها”.
تطورات جوهرية ولكن
ويتفق الباحث مهدي خلجي من “معهد واشنطن” مع الطرح الذي يميز بين تظاهرات اليوم وسابقاتها في الماضي، مشيراً إلى أن طبيعة الحركة الاحتجاجية الحالية وأسلوب تنظيمها وقيادتها ومثلها العليا تختلف تماماً عن جميع الاحتجاجات السياسية السابقة التي شهدتها إيران. ولذلك، لا يستبعد أن تؤدي هذه التظاهرات إلى تطورات جوهرية في إيران خلال الأيام والأسابيع المقبلة، على الرغم من أنه لا يعرف سوى القليل عن قدرتها على مواجهة التحديات الخطيرة على المدى الطويل، و”تأسيس قيادة داخلية قبل أن ينهكها القمع العنيف أو يؤدي إلى انهيارها”.
وحدد خلجي أربع سمات تميز الاحتجاجات الحالية في إيران، أولها، أن استياء المحتجين هذه المرة ليس مدفوعاً بقرار اقتصادي أو سياسي، إنما مصدره قمع النظام وتحكمه في جميع جوانب حياة المواطنين خصوصاً النساء لما يتعرضن له من انتهاكات، ولذلك فإن الشعار الأساسي للمحتجين حتى الآن هو “امرأة، حياة، حرية”، في إشارة إلى معارضة شاملة وعميقة للنظام الإيراني.
وقال، “احتلت كرامة الإنسان وحريته رأس قائمة المطالب الحالية للحركة الاحتجاجية، التي تتمحور حول الإقرار بأن النساء هن ضحايا رئيسين للتقاليد الأبوية للنظام والأيديولوجيا الإسلامية الاستبدادية التي يطبقها”، مضيفاً، “قد يجعل هذا الأساس من الحركة الاحتجاجية قوة إنسانية وليبرالية وعلمانية مؤثرة وقائمة على المساواة في إيران، مع إمكانات هائلة للتشجيع على تغيير جوهري”.
رجال الدين غائبون
أما السمة الثانية بحسب الباحث، فهي غياب رجال الدين عن الحركة الاحتجاجية، بخلاف تظاهرات الماضي، إذ شهدت جميع الحركات السياسية النافذة في إيران، من “الثورة الدستورية” في بداية القرن الـ20 و”الثورة الإسلامية” عام 1979، ووصولاً إلى احتجاجات 2009، مشاركة رفيعة المستوى من قبل رجال الدين.
وعلى الرغم من أن غياب رجال الدين عن الحركة الحالية لا يعني أنها مناهضة للدين، فإن هذا الغياب ليس “عرضياً”، بحسب خلجي، لأن كثيراً من المحتجين “يعتبرون رجال الدين الشيعة كافة، سواء أبرز أنصار النظام أو نقاده الصامتين، أساس شرعية النظام لأنهم سهلوا صعوده في المقام الأول ولم يكفوا عن تبرير مبادئه وسياساته وقراراته منذ ذلك الحين”. ويرى الباحث أن الحركة “قد تمثل لحظة مفصلية في الانفصال التدريجي لرجال الدين الشيعة عن القوى القيادية في المجتمع الإيراني”، بخاصة أن رجال الدين حتى وإن عارضوا النظام، فإنهم لا يتشاركون أهداف الحركة ونظرتها للعالم ولا يستطيعون أن يقفوا في صف حركة تطالب بحقوق متساوية للنساء”.
جدل الحجاب يتجدد
ويشير “معهد واشنطن” إلى أن التركيز على الحجاب في الاحتجاجات الحالية لم يتشكل بمحض صدفة، فالنظام الإيراني تعامل منذ قيامه بعدائية مع النساء وتعتبر القوانين الملزمة بارتدائه جزءاً من جهوده للسيطرة عليهن وتهميشهن.
لكن الحجاب بوصفه مثالاً على صراع التيارات في إيران ليس وليد اللحظة، فقد كان مركز صراع سياسي منذ عهد البهلوي الأول رضا شاه الذي أقر قانوناً في عام 1936 يلزم الإيرانيات بخلع حجابهن، قبل أن يلغيه ابنه البهلوي الثاني في عام 1944 بعد استياء شعبي. وفي أعقاب “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979، تبنى الخميني وجهاً بإلزام النساء ارتداء “الحجاب الشرعي” خارج بيوتهن.
وتكشف الحركة الاحتجاجية الجديدة، بحسب خلجي، عن تغيير جذري، في وجهة نظر كثير من الإيرانيين إزاء فرض الحجاب، إذ ازداد في ما يبدو عدد المواطنين الذين أصبحوا يعتبرون حقوق النساء نقطة انطلاق مثلى لنضالهم من أجل الديمقراطية وضد النظام. في المقابل، تبنت حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي نهجاً أكثر صرامة في تطبيق قانون الحجاب.
جيل شاب
ومما يميز الحركة الاحتجاجية الحالية هي أنها تتألف في معظمها من شباب إيرانيين دون سن الـ25، يعتبرون أنفسهم أكثر من مجرد معارضين للأيديولوجيا الإسلامية، فهم يعارضون أيضاً ذهنية الجيل الأكبر سناً، بمن فيهم السياسيون المعارضون للنظام، وهذا يشير إلى أن الجماعات وشخصيات المعارضة السياسية الحالية، سواء أكانت من الإصلاحيين داخل البلاد أو من المنشقين خارجها، لا صلة لها بدافع الاحتجاجات الحالية.
تعاطف واسع
ومن العوامل التي تكشف عن أهمية التظاهرات الحالية هو حجمها وانتقالها لأكثر من 100 مدينة في إيران ومدن أخرى خارجها في الولايات المتحدة وكندا وألمانيا، إذ جذبت قضية أميني تعاطفاً واسعاً من مختلف الأطياف حول العالم، ودفعت سيدات لخلع حجابهن وحلق شعورهن احتجاجاً على مقتل أميني التي احتجزتها شرطة الأخلاق الإيرانية بسبب حجابها “غير اللائق”.
ومن مظاهر الاهتمام الدولي بالاحتجاجات الإيرانية قرار الإدارة الأميركية الشهر الماضي، بتخفيف القيود الخاصة بتصدير التكنولوجيا التي تفرضها على إيران بهدف توسيع وصول الإيرانيين إلى خدمات الإنترنت التي قيدتها الحكومة الإيرانية. وقالت وزارة الخزانة الأميركية على لسان نائب وزيرها والي أدييمو في بيان، إن “الإجراء الجديد سيسمح لشركات التكنولوجيا بتوسيع نطاق خدمات الإنترنت المتاحة للإيرانيين”، معتبراً قطع طهران الإنترنت محاولة “لمنع العالم من مشاهدة حملتها العنيفة ضد المتظاهرين السلميين”.
وبعد القرار الأميركي، ورداً على محاولات إيران حجب الإنترنت وتقييد التواصل داخل البلاد، أتاح الرئيس التنفيذي لشركة “تسلا”، إيلون ماسك خدمة “ستارلينك” في إيران التي تتيح للإيرانيين استخدام الإنترنت عبر الأقمار الصناعية
الغضب مكان الحزن
ويقول علي أشتاري ناشط كندي- إيراني، إن الاحتجاجات الحالية “استبدلت بتقديس النضال إرادة الانتصار، وحل الغضب مكان الحزن”، مشيراً إلى أن “طلاب الجامعات يواجهون الآن بشجاعة أتباع النظام، ويصرخون الموت للديكتاتور”. وأضاف “عندما تعرض الطلاب في جامعة شريف للتكنولوجيا في طهران لمعاملة وحشية احتج الطلاب من الجامعات في جميع أنحاء البلاد وانضم إليهم حتى طلاب المدارس الثانوية”.
ونوه أشتاري كغيره بالوحدة التي تبدت في التظاهرات المستمرة، بخلاف انتفاضة عام 2009 التي تركزت في شوارع طهران وعدد قليل من المدن الإيرانية أو تظاهرات نوفمبر 2019 التي عمت كل مكان إلا العاصمة باستثناء بعض ضواحيها وبلداتها، لكن هذه المرة قلب طهران مشتعل والأحياء الثرية في العاصمة تغص بالمتظاهرين إضافة إلى المناطق الحضرية والريفية في إيران، كما أن الطبقة الوسطى التي صمتت في نوفمبر 2019 وشتاء 2020 اتحدت أخيراً مع بقية شرائح المجتمع مما يجعل التظاهرات الحالية انتفاضة وطنية، على حد وصفه.
نقلاً عن “اندبندنت عربية”