هدير حسن
في 21 أكتوبر تحتفل القوات البحرية المصرية بعيدها، بعد أن تمكنت من غرق المدمرة الأسطورة لتصبح قصة تدمير إيلات صفحة ناصعة في تاريخ مصر.
ما زال حطام المدمرة غارقا قِبالة سواحل بورسعيد إلى الآن، ليشهد على قصة تدمير إيلات وغرقها في البحر المتوسط أمام المدينة الباسلة في 21 أكتوبر 1967، وتنتهي أسطورتها بأول معركة صاروخية بحرية في العالم، ونتيجتها التي أفقدت إسرائيل واحدة من قطع الأسطول البحري الضخمة على يد زوارق مصرية صغيرة بعد أشهر من نكسة يونيو؟
انتصار كان الأول من نوعه، أن تتمكن القوات البحرية المصرية من مواجهة المدمرة التي كان الحديث عن مقوماتها ومواصفاتها لا يكف، واعتقدت إسرائيل أن امتلاكها لـ “إيلات” قد يُضعف من عزيمة المصريين، ولكن تحطمت أوهامها في عملية سبّاقة أوقفت الزمن وأذهلت العالم، وباتت القوات البحرية المصرية تحتفل بعيدها في ذكراها.
مواصفات المدمرة إيلات
قبل غرق وتدمير إيلات، امتلكت السفينة البحرية الحربية تاريخا امتد على مدار 23 عاما بداية من الحرب العالمية الثانية، ثم العدوان الثلاثي عام 1956 وحتى تمكنت منها القوات البحرية المصرية عام 1967، ويمكن تلخيص مسار المدمرة إيلات ومواصفاتها- كواحدة من أشهر المدمرات البحرية المجهزة بأحدث الأسلحة حينها- في نقاط:
صنعت شركة بناء السفن البريطانية كاميل ليرد Cammell Liard المدمرة البحرية إتش إم إس زيلوس (HMS Zealous) من فئة Z التابعة للبحرية الملكية عام 1944.
مواصفات المدمرة: يمكنها حمل 1710 طن، طولها 110.6 مترا، عرضها 10.9 مترا، تضم توربينات موجهة واثنان من المهاوي وقوة دفع 40 ألف حصان، سرعتها 37 عقدة (ما يساوي 69 كم/ الساعة)، ومزودة بـ 4 مدافع 4.5 بوصة (أي 1133 ملم) سريعة الإطلاق، و5 مدافع بوفورز 40 ملم، 8 أنابيب طوربيد 21 بوصة (533 ملم).
في نوفمبر 1944، اشتركت المدمرة في الحرب العالمية الثانية باعتبارها جزءا من مواجهة السفن الألمانية عبر
ساهمت ضمن الأسطول البريطاني في إنقاذ 525 نرويجيا اختبئوا في الكهوف المغطاة بالثلج في إحدى جزر النرويج لمدة 3 أشهر، وتم إجلاؤهم على ميناء جوروك البريطاني.
اشتركت في القوافل القطبية إلى روسيا لنقل الإمدادات إلى شبه جزيرة كولا حول النرويج، في ظل استهداف الغواصات الألمانية في فبراير 1945.
كانت جزءا من الأسطول المشارك في تحرير مدينة كوبنهاجن في مايو 1945، واستسلام القوات البحرية الألمانية المتمركزة هناك.
خضعت لفترات طويلة من التجديد، ما بين يوليو- أكتوبر 1945، وعامي 1953 و1954.
باعت بريطانيا المدمرة زيلوس لإسرائيل عام 1955، التي أطلقت عليها اسم إيلات (INS Eilat)، تيمنا بمدينة إيلات (أم الرشراش الفلسطينية) في جنوب إسرائيل عام 1956.
اشتركت المدمرة إيلات في الهجوم على القوات البحرية المصرية في العدوان الثلاثي 1956، مع المدمرة الفرنسية كيرسانت والمدمرة الإسرائيلية يافو.
تمكنت خلال العدوان الثلاثي 56 من الهجوم على المدمرة المصرية إبراهيم الأول، التي تضررت واستسلم طاقمها وتم قطرها وضمها للقوات البحرية الإسرائيلية باسم حيفا.
كيف تم تدمير المدمرة إيلات؟
بعد نكسة 5 يونيو 1967، التي منحت إسرائيل الفرصة لاحتلال سيناء كاملة وهضبة الجولان وقطاع غزة والضفة الغربية، طمح الكيان الصهيوني في المزيد، وتوهمت إسرائيل أنه يمكنها فرض السيادة واستغلال شعور الهزيمة الذي لحق بنفوس المصريين والعرب، بإظهار المزيد من قواتها البحرية والجوية العسكرية.
اختراق المياه الإقليمية
أمر الجيش الإسرائيلي باختراق المدمرة إيلات للمياه الإقليمية المصرية في البحر المتوسط قرب بورسعيد، وفي مساء يوم 11 يوليو 1967 رصد رادار قاعدة بورسعيد البحرية هدفا متحركا على بُعد 18 ميلا بحريا، حينها تم رفع درجة الاستعداد، واجتمع القادة العقيد أركان حرب سميح إبراهيم، قائد القاعدة البحرية، والنقيب عوني عازر.
وصدرت الأوامر بإبحار زورقين (لانشين) طوربيد، الأول بقيادة النقيب عوني عازر ومساعده الملازم أول رجائي حتاته، والثاني يقوده النقيب ممدوح شمس ومسلعده الملازم صلاح غيث، على أن تكون المهمة هي التأكد من اختراق الهدف للمياه الإقليمية المصرية، واستدراجه قرب مدى مدفعية المدمرة السويس الراسية في ميناء بورسعيد لتتعامل معه.
الاشتباك والاستشهاد
توجه زورقا طوربيد البحرية المصرية في الساعات الأولى من يوم 12 يوليو 1967 لرصد الهدف، ليتبين أنها المدمرة إيلات وجوارها زورقين طوربيد إسرائيليين، وعلى الفور هاجمت مدفعيات “إيلات” السرب المصري، ومع تفوق مدفعيتها عيار 40 ملم عن مدفعية الزوارق المصرية 25 ملم، كانت المعادلة غير متوازنة، بخلاف إقدام إسرائيل على مخالفة القوانين الدولية.
استهداف السرب المصري أدى إلى الاشتباك، الذي تسبب في اشتعال حريق في الزورق رقم 2، وأبلغ حينها القاعدة البحرية عن فقدان القدرة على الاستمرار، وفي ظل محاولات النجاة والخروج، أدركت البحرية الإسرائيلية وأصابت اللانش الذي قُتل 5 من طاقمه.
قرر النقيب عوني عازر قائد اللانش الآخر ألا يستسلم، وعلى الفور قرر وطاقمه أن يقوموا بعملية وصفت بـ “الانتحارية”، وهي الاشتباك مع المدمرة وسرب البحرية الإسرائيلية والاصطدام بهم، لتنهال طلقات المدافع على اللانش وينفجر بالكامل على مسافة 30 مترا من المدمرة، ويُستشهد النقيب عوني عازر والملازم رجائي حتاته وطاقم اللانش بالكامل.
غرق المدمرة إيلات
بعد أن أظهرت إسرائيل اختراقا سافرا للقوانين الدولية، وأفقدت البحرية المصرية أبناءها، عادت لتتصرف بتبجح واضح، وأمرت بتوغل المدمرة إيلات داخل المياه الإقليمية المصرية في البحري المتوسط قرب بورسعيد حتى يوم 18 أكتوبر 1967، معتقدة أن الهزيمة التي ألحقتها بالسرب الأول، قد تجعل القوات البحرية المصرية تخشى المواجهة.
في هذا الوقت، كانت القوات البحرية المصرية تستعد بالتخطيط لأفضل طريقة يمكن بها التخلص من المدمرة إيلات ووقف توغلها شمال شرق بورسعيد، ومساء يوم 21 أكتوبر 1967 تقرر تجهيز لانشين بحريين مزودين بالصواريخ لتفجير وإغراق “إيلات”.
تم تشكيل الفرقتين، الأولى بقيادة النقيب أحمد شاكر ومساعده الملازم أول حسن حسني على اللانش 504، والثانية بقيادة النقيب لطفي جاب الله ومساعده الملازم أول ممدوح منيع، وتم تجهيز اللانشين بصاروخين كومر سوفيتية سطح- سطح من طراز ستيكس، ومع رصد رادار المراقبة لقاعدة بورسعيد البحرية تحرك المدمة إيلات، بدأت العملية.
وفي الخامسة والنصف مساء 21 أكتوبر، توجه السرب المصري نحو المدمرة إيلات، ورصد الزورقين الهدف، وفي سرعة خاطفة على مسافة 11 ميلا بحريا، تم إطلاق الصاروخ الأول الذي أصاب جانب المدمرة، وبدأت تميل للغرق في البحر المتوسط، فيُلحقها السرب بالصاروخ الثاني الذي أغرقها تماما، ويعود السرب سالما دون أن يفقد أحدا من طاقمه.
خسائر إسرائيل
أصاب الذعر القيادة الإسرائيلية، التي لم تتوقع صربة مماثلة بعد هزيمة قوية منذ أربعة أشهر، وكانت السفينة تحمل ما يقرب من 199 ضابط وجندي ودفعة طلبة الكلية البحرية، وقتل منهم 47 شخصا وأصيب 91 آخرين، بينما غرقت المدمرة بالكامل في البحر المتوسط، وما زالت أنقاضها قبالة سواحل بورسعيد شاهدة على الانتصار.
وحين حاولت إسرائل أن ترد الضربة في الثامنة مساء من خلال قواتها الجوية، التي أطلقت قذاسف مضيئة قرب ساحل بورسعيد، استهدفتهاالمدفعية المضادة المصرية، ثم لجأت إسرائيل إلى الأمم المتحدة حتى تتم محاولات الإنقاذ للجرحى دون اشتباكات من الجانب المصري، وهو ما احترمته القيادة المصرية بالفعل.
ورغم رد إسرائيل بعدها بأكثر من 60 ساعة، بضرب بتفجير ميناء السويس وتدمير مصافي تكرير النفط الثلاث في الميناء، ظل إغراق المدمرة إيلات واحد من أشهر المعارك العسكرية البحرية، والحدث فتح الباب أما تطوير الأسلحة البحرية والعمل على صياغة استراتيجية بحرية جديدة في أنحاء العالم.
القصة الحقيقية لعملية إيلات
تختلف عملية إغراق المدمرة إيلات في 21 أكتوبر 1967، عن عملية الهجوم على ميناء إيلات وتفجير الرصيف الحربي وتدمير السفينة بيت شفيع وناقلة الجنود بات يام، والتي تم تنفيذها على 3 عمليات عسكرية، الأولى في 16 نوفمبر 1969، والثانية في 5-6 فبراير 1970، والثالثة 14-15 مايو 1970. وهي العملية التي تحويلها إلى فيلم سينمائي بعنوان “الطريق إلى إيلات” عام 1993 للمخرجة إنعام محمد علي.
عيد القوات البحرية المصرية
تعتبر عملية إغراق المدمرة إيلات واحدة من أشهر المعارك في تاريخ الحروب والمواجهات البحرية، فإذا تُرك الأمر للمنطق وحده، فكيف يمكن لزوارق صغيرة أن تُنهي مسيرة مدمرة حربية لم تكمل 25 عاما؟ ولكن يبدو أنها البسالة التي دوما ما اتسم بها جنود مصر على الجبهة أو ملحقين في الجو، وكذلك وهم ضفادع بشرية تحارب مقاتلات عملاقة.
متسلحين بالإيمان والعزيمة، ورفض الاستسلام لآلام الهزيمة، التي لم يكن قد مرّ عليها سوى أربعة أشهر، وقرروا أن تظل الحرب قائمة حتى النصر، وألا يتسلل الخزي لنفوسهم، فردوا الصاع صاعين، وتمكن النقيب أحمد شاكر وفرقته والنقيب لطفي جاب الله وفرقته أن يصنعوا إنجازا أعاد للمصريين كرامتهم بعد الهزيمة وسطره التاريخ في أكثر صفحاته نصوعا.
بعد أن شهد العالم على نجاح هذه العملية البحرية، التي فاجأت إسرائيل والعالم، وسُجلت كأول عملية صاروخية بحرية في التاريخ، صدر قرارا جمهوريا بمنح الضباط والجنود المشاركين بها أنواط وأوسمة الشجاعة، كما تم اختيار يوم تنفيذ العملية 21 أكتوبر ليكون عيدا القوات البحرية المصرية.
المصدر العين الإخبارية