عمرو فاروق
شهدنا خلال الأيام الماضية عقد مؤتمر في اسطنبول لـ”التيار الثالث” داخل جماعة “الإخوان المسلمين”، أو بقايا مجموعة “الكماليون”، المنتسبين إلى القيادي محمد كمال، المؤسس لخلايا الجناح المسلح عقب ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013، وهو قُتل في مواجهات مسلحة في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، وذلك للإعلان عن وثيقة سياسية للمرحلة المقبلة.
لم تطرح الوثيقة السياسية للتيار الثالث أو “المكتب العام”، توجهات خارجة عن الأدبيات الفكرية للمكوّن الإخواني، رغم تضمنها عدداً من المؤشرات الهامة، لتحركات هذه المجموعة وأهداف مَن يمولها، ويدعم وجودها في ظل السيولة التنظيمية التي تشهدها الجماعة في إطار الصراع القائم بين “جبهة لندن” بقيادة إبراهيم منير، و”جبهة تركيا” بقيادة محمود حسين.
لكن لماذا خرجت هذه المجموعة في هذا التوقيت تحديداً؟ وما الدوافع وراء استدعائها؟ ولماذا تم تجاهل الخلافات والمشاكل القائمة في العمق التنظيمي لـ”الإخوان”، وتبني التوافق مع القوى السياسية، والمطالبة بإسقاط النظام المصري، وتفكيك المنظومة الأمنية والعسكرية والقضائية، وخلق دوائر إعلامية جديدة، والاتجاه لإثارة الشارع ضد القيادة السياسية؟
تكهنات كثيرة خلف الترتيبات التي صاحبت صعود هذه المجموعة ومصادر تمويلها وغطائها السياسي، لا سيما في ظل الحديث عن سعي جبهة إبراهيم منير، ومن ورائها جبهة محمود حسين، إلى الدخول في مفاوضات أو تفاهمات مع الجانب المصري عبر وسطاء من دوائر صنع القرار السياسي في المنطقة العربية.
استدعاء مجموعة “التيار الثالث” أو “تيار التغيير” مثلما يطلقون على أنفسهم، ومحاولة تقديمهم على أنهم الممثل الرسمي لجماعة “الإخوان” وحلفائها خلال المرحلة الراهنة، يأتي في إطار توظيفهم كورقة ضغط سياسي ضد الدولة المصرية في ظل الأوضاع والظروف الآنية، والأزمة الاقتصادية العالمية التي أربكت حسابات الأنظمة السياسية الحاكمة.
مجموعة “التيار الثالث”، لا تؤمن بنظرية “التغيير من أسفل”، من خلال تجهيز قواعد تنظيمية جديدة، والهيمنة على مؤسسات الدولة أو التأثير في العقل الجمعي للمجتمع، سعياً في الوصول إلى مرحلة “التمكين”، وإعادة الجماعة إلى قمة المشهد السياسي والاجتماعي والدعوي، والتي تترجم في استراتيجية المدرسة الأولى داخل “الإخوان” التي نظَّر لها حسن البنا، لكنها تؤمن بنظرية “التغيير من أعلى” أو استراتيجية المدرسة الثانية التي طرحها سيد قطب، من خلال الاشتباك مع النظام السياسي، والإعداد والتجهيز لحراك شعبي جارف يقودون زمامه من خلف الستار.
الخيار الأهم في أجندة “التيار الثالث”، فرض الجماعة وسطوتها بالقوة وباستخدام العنف، والاعتماد على التوجهات الفكرية لسيد قطب، فضلاً عن تحالفها مع رموز “الجبهة السلفية”، أمثال أحمد مولانا، ومحمد الهامي، وخالد سعيد، والتي تعتبر من التنظيمات الداعمة لسياسات العنف والتكفير داخل القاهرة، وهي دعت من قبل إلى “انتفاضة الشباب المسلم”، في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014.
دعم وتمويل مجموعة “التيار الثالث”، من قبل إحدى الدول التي تمارس ضغوطاً على الدولة المصرية خلال المرحلة الأخيرة، يأتي من قبيل إتمام التفاوض مع جماعة “الإخوان”، تحقيقاً لمصالحها في العمق العربي، ومن ثم عملت على توظيف الطرف الأكثر عنفاً لترهيب القاهرة، وإجبارها على قبول الطرف “الإخواني الكلاسيكي” المتمثل في “جبهة لندن” التي يتزعمها إبراهيم منير وحلمي الجزار.
تمثل قضية “المصالحة” حجر الزاوية بالنسبة إلى جماعة “الإخوان” والمتعاطفين معها أو المستفيدين من وجودها في المشهد الإقليمي والدولي، في ظل المحاولات القوية لفك التحالف بين النظام الملالي الإيراني، وبين التنظيم الدولي لجماعة “الإخوان”، ووقف التمدد الشيعي في قلب المنطقة العربية.
المطالب حالياً لا تدور في نطاق الإفراج عن القواعد التنظيمية، لكنها تستهدف إخراج بعض قيادات الصف الأول (مكتب الإرشاد) بعفو رئاسي، مع التزام الجماعة عدم ممارسة أي نشاط سياسي أو اقتصادي أو دعوي لمدة 10 سنوات مقبلة.
الرفض المصري لتلك المطالب جاء على المستوى الرسمي والأمني، وفقاً لتقديرات الحفاظ على الأمن القومي، وتبعاته على القرار الشعبي، وتأثيراته في محاولات منح الحياة لجماعة “الإخوان” وقواعدها التنظيمية في العمق القاهري.
حديث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الأخير عن “المصالحة” وأهل الشر، تضمن رسالة واضحة لمختلف الأطراف العربية والأميركية التي تعمل على إعادة تمرير جماعة “الإخوان” للمشهد بما يحقق لها مصالحها على حساب الجانب المصري.
احتضان الجانب التركي لهذا المؤتمر ولهذه المجموعة يثير الكثير من علامات الاستفهام في ظل التعاون والتفاهم بين أنقرة والقاهرة، على المستويين الأمني والاستخباري، أو ما يعرف بـ”دبلوماسية الباب الخلفي”، بعيداً من الدبلوماسية السياسية المباشرة والأجواء الإعلامية، لإعادة ترتيب جذور المشهد بين الجانبين وفقاً لمجموعة من المطالب المتبادلة التي لا ترقى إلى مستوى الشروط، بعد سنواتٍ من القطيعة.
قدمت مجموعة “التيار الثالث”، من قبل، تقييماً متعلقاً بالداخل التنظيمي، تحت مسمى “الرؤية”، في 28 صفحة، على 4 محاور أهمها: “غياب ترتيب الأولويات، وعلاقة التنظيم بالدولة، والممارسات الحزبية، والشرعية الثورية”.
ضمت المحاور 17 نقطة، أبرزها غياب مشروع سياسي متكامل للتغيير، عجز الجماعة عن إدارة وتحليل المعلومات، فضلاً عن التداخل الوظيفي بين الحزبي التنافسي والدعوي التنظيمي، وعدم الجاهزية السياسية للجماعة، وفشلها في صناعة وتطوير القيادات والكوادر الحزبية.
اعتبرت مجموعة “التيار الثالث”، أن الجماعة مملوءة بالتناقضات الفكرية التي تم التغاضي عنها على مدار تاريخها، خشية تفجير التنظيم من الداخل، ما أدى إلى تكريس حالة شديدة من التعقيد وعدم التجانس، والفشل التام في خلق بيئة تصهر الخلافات العمرية والاختلافات الفكرية.
يضاف إلى ذلك سيطرة عواجيز الجماعة على المشهد التنظيمي بالكامل، مع غياب آلية العمل المؤسسي، والدور الرقابي والمحاسبي، بخاصة في الدرجات التنظيمية العليا، والتداخل بين المهام الإدارية والتربوية، وعدم الفصل بين الجانب الرقابي والجانب التنفيذي، وترسيخ استراتيجية الهرم التنظيمي، وتحصينه من الاختراق الأمني.
تحركات “التيار الثالث”، تمثل في ذاتها انفجاراً للصراعات والخلافات الداخلية، وإلقاء الضوء على المزيد من الانقسامات والارتباك الفكري والتنظيمي بين القواعد “الإخوانية”، وعدم الانفصال الحقيقي عن المرجعية القطبية، والتمسك بأبجديات العمل المسلح صعوداً وهبوطاً.
نقلاً عن “النهار” العربي