كتب .. منير أديب
تحوّلت التكنولوجيا التي صنعتها الدول المتقدمة بهدف خدمة البشرية إلى خنجر تسلطه الجماعات المتطرفة في خاصرة هذا العالم، فقد باتت هذه التنظيمات الأقدر على استخدام هذه التكنولوجيا في تنفيذ العمليات الإرهابية من جانب وفي إبطال أي مفعول لمواجهتها من جانب آخر.
التكنولوجيا هي عصب التنظيمات المتطرفة وسر بقائها، سواء وهي تقيم على تخوم المدن أو حتى في الصحراء الشاسعة التي تستخدمها ملاذاً، فمن خلالها يتواصلون مع مقاتليهم في كل مكان، ليس مجرد تواصل سريع ولكن لقاءات مشفرة تستمر لساعات طويلة وتوجيهات بتنفيذ عمليات إرهابية من دون أن يتم رصدها، وهنا تُدير القيادة المركزية لأي تنظيم مقاتليها في أي مكان من العالم من دون وجود أي مشكلة.
وإذا كانت ثمة مواجهة حقيقية للإرهاب فلا بد أن تكون من قبل الدول التي صنعت هذه التكنولوجيا ثم عجزت أو فشلت في منع استخدامها من قبل جماعات العنف والتطرف، أو على الأقل عجزت هذه الدول في صناعة تكنولوجيا تقف أمام مواجهة التنظيمات المتطرفة.
نجحت جماعات العنف والتطرف في خلق التواصل بين القيادات والمقاتلين عبر برامج مشفرة من خلال منصة “تلغرام” مثلاً، وهنا نجح هذا التطبيق في رسم طريق التواصل الحي للتنظيمات المتطرفة، التي باتت تخطط وتعطي إشارة البدء لتنفيذ العمليات الإرهابية من دون رفع الغطاء عن أي ممارسة يمكن أن يستخدمها الإرهابيون أو تدخل في سياق الإرهاب المظلم.
لك أن تتخيل عزيزي القارئ أن التنظيمات المتطرفة تستخدم برنامج “توم” الذي كانت تستخدمه البحرية الأميركية في المحادثات الخاصة، للغرض ذاته، فضلاً عن أنها نجحت في جمع مئات الملايين من الدولارات من خلال التواصل مع فروع التنظيم في كل دول العالم عبر هذا البرنامج وغيره من دون معرفة المتبرع أو الوصول إلى المتبرع إليه.
اكتفى تطبيق “تلغرام” بحذف الحسابات المشكوك فيها، ما دفع هؤلاء المتطرفين إلى إنشاء حسابات جديدة حتى يستمر التواصل بينهم، ولعل التواصل وصل إلى هذه الصورة بفعل نجاح “داعش” في استخدام التكنولوجيا عموماً، من دون البحث عن حل لهذه المعضلة ووقف البرنامج أو حتى اختراقه.
التنظيمات المتطرفة استخدمت شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) وحددت الإحداثيات عبر الوسائل التكنولوجية في صناعة الإرهاب، وهنا أعطت الدول المتقدمة للتنظيمات المتطرفة السلاح الذي تُحارب به، من دون صناعة تكنولوجيا مماثلة لمواجهة هذه التنظيمات، بينما تفرغت بعض الدول في مواجهة هذه الصناعات عبر جهود ذاتية وتطوير إمكاناتها التكنولوجية. وهنا يمكن القول، إن هذه المواجهة منقوصة طالما غاب التطور التكنولوجي عنها.
استغلت التنظيمات المتطرفة الفضاء الإلكتروني واستخدمت التكنولوجيا عبر هذه الفضاءات، وهنا نجحت في الاستثمار بالعملات المشفرة، مثال البيتكوين، وحققت أرباحاً بعشرات الملايين من الدولارات، حتى أن تقريراً لوزارة الخزانة الأميركية أشار إلى أن “داعش” يمتلك قرابة مئة مليون دولار كسيولة نقدية بخلاف التدفقات المالية التي تأتيه بشكل يومي عبر وسائل أخرى، فضلاً عن أضعاف هذا المبلغ الذي يحققه من خلال عملياته عبر بيع النفط في الأماكن التي يُسيطر عليها، إلى الفدية والأتاوات والسرقات وغيرها والتدخل في نطاق الإنفاق على عملياته الإرهابية.
ولاحظ أن الحديث عن استثمارات التنظيم المتطرف لهذه التكنولوجيا يأتي بعد سقوط دولته، أي أنه لا يزال قادراً على استخدام هذه الصناعة وتطويرها بهذه الصورة التي تبدو مرعبة. وهنا يمكن القول أيضاً، إن مواجهة “داعش” لا بد أن تكون في ميدان التكنولوجيا أولاً.
نجحت الولايات المتحدة في مواجهة “داعش”، بل في إسقاط دولته ولكنها فشلت في مواجهة التنظيم عبر الفضاء الإلكتروني، فالمفروض أن الأسهل في المواجهة، وهو التكنولوجيا، بات هو الأصعب وصارت الدول التكنولوجية الكبيرة عاجزة عن مواجهة هذه التنظيمات التي نجحت في تطوير التكنولوجيا لصالحها أو على الأقل في استثمارها بما يخدم أهدافها.
القول إن وجود التنظيمات المتطرفة مرهون برغبة بعض الدول الكبرى لم يكن عفو الخاطر، وإنما له دلائل يأتي في مقدمها أن هذه الدول لم تبذل جهوداً مرضية في مواجهة هذه التنظيمات في مجال التكنولوجيا التي تتفوق فيه هذه التنظيمات، بل وصل الاعتقاد بعدم رغبة هذه الدول أو حماستها في مواجهة هذه التنظيمات عبر صناعة تكنولوجيا قادرة على الرقابة والمواجهة معاً، الدول الكبرى ضمنت وجود هذه التنظيمات من خلال التكنولوجيا التي صنعتها.
مواجهة الإرهاب تحتاج إلى فكرة؛ فقد تكون الفكرة أهم بكثير من المواجهة الأمنية والعسكرية، وإن كانت كل صور المواجهة مهمة ولا يمكن الاستغناء عنها؛ فهذه التنظيمات ترى أن المواجهة الأمنية هي احدى صور المواجهة التي يقدر عليها التنظيم أو لديه قدرة للتدريب عليها، بخلاف مواجهته بالتكنولوجيا أو بالأفكار عموماً.
لا يمكن الحد من قدرات تنظيمات العنف والتطرف أو تفكيكها من دون وجود استراتيجية عامة تتبناها الدول الكبرى حتى يتم غلق الباب على تقديم أي دعم لهذه التنظيمات عبر استخدام التكنولوجيا وغيرها، وبالتالي يمكن إلزام كل الدول بها وتكون هناك آلية لمتابعة ذلك. الوضع الحالي يستفيد منه “داعش” وكل تنظيمات العنف والتطرف، ولعل ذلك سبب بقائها.
الدول المتقدمة شريكة في مواجهة تنظيمات العنف والتطرف، حيث لم تقدم آخر ما لديها في المساعدة للقضاء على إرهاب التنظيمات المتطرفة وما تستخدمه من تكنولوجيا متطورة، فباتت هي والعالم عاجزين أمام إرهاب التنظيمات المتطرفة والذي قد يسبق خياله، خيال أجهزة الأمن التي تواجهه.
هذه المادة تُلمح لأهمية التكنولوجيا في مواجهة جماعات العنف والتطرف وتفعل الأمر ذاته من خلال تسليط الضوء على خطر استخدام هذه التنظيمات للتكنولوجيا، كما أنها ترسم خطوط المواجهة المتوقعة ذات الأثر الفعال، على أمل استكمال ذلك بباقي سجالات المواجهة حتى تبدو استراتيجية مواجهة الإرهاب خصوصاً العابر للحدود والقارات أكثر فعالية وأثراً على أرض الواقع.
عن “النهار” العربي