منير أديب
طرحت جماعة “الإخوان المسلمين” وثيقتين سياسيتين منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الجاري مغمستين بالعنف؛ إحداهما طرحها المكتب العام لـ”الإخوان” أو ما يُسمى بتيار التغيير في إسطنبول، ودعا فيها إلى حراك ثوري على غرار ما فعله قبل سنوات، وكان من ثماره إنشاء ميليشيات مسلحة منها “سواعد مصر… حسم” و”لواء الثورة” و”المقاومة الشعبية”، والأخرى طرحتها جبهة لندن بزعامة إبراهيم منير، والتي انحازت فيها إلى الحوار مع السلطة من دون الإعلان مباشرةً عن التخلي عن العنف.
صحيح أن جبهة ما يُسمى بالقائم العام لمرشد الإخوان إبراهيم منير أعلنت وثيقتها السياسية قبل إعلان المكتب العام لـ”الإخوان” وثيقته في المؤتمر الذي دعا إليه قبل عشرة أيام، والهدف هو قطع الطريق أمام وثيقة المكتب العام التي طرح أصحابها فيها أفكاراً تتناغم مع ممارساتهم السابقة بعد عام 2013، بخاصة أن هذه الجبهة سعت إلى التهدئة مع السلطة أملاً أن تسمح لها بالعودة حتى ولو من خلال العمل الاجتماعي.
ولكن الحقيقة التي ربما تغيب عن البعض هي أن الوثيقتين السياسيتين، سواء التي صدرت عن المكتب العام لـ”الإخوان” أو “الكماليون الجدد” أم وثيقة جبهة لندن، لا تختلفان إلا في بعض التفاصيل؛ فإحداهما ترى ضرورة مواصلة رد السلطة بالعنف، وهنا نقصد جبهة المكتب العام أو أتباع محمد كمال، عضو مكتب الإرشاد ومؤسس اللجان النوعية لـ”الإخوان”، وجبهة أخرى ترى ضرورة تأجيل العنف حتى يعود التنظيم إلى مدارجه سالماً، ثم يُعاود مواجهة السلطة من جديد.
وهنا يمكن القول، إن وثيقة إبراهيم منير السياسية خففت من نبرتها الحادة التي اعتادت عليها تجاه السلطة، ولم تذكر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بسوء ولم تتعرض للقوات المسلحة المصرية، كما كان يحدث في كل خطابات الجبهة وتصريحات قادتها، كما أنها تجنبت وصف ما حدث في مصر بأنه انقلاب عسكري، كما كانت تروّج لذلك، واكتفت بوصفه انقلاباً على الثورة، وهو تعبير يُحمل السلطة الخطأ ولكنه لا يمنع التعامل معها أو حتى الاعتراف بشرعيتها.
يبدو نظرياً أن الوثيقتين السياسيتين تختلفان عن بعضهما البعض، والحقيقة بخلاف ذلك؛ لأسباب منها أولاً، الجبهة التي أعلنت وثيقة “الدم” قالت فيها إنها ليست كل الإخوان ولكنها جزء منها، وتريد أن تقول هنا إننا ذراع عسكرية للجماعة أو يد طولى لها، وهنا يعترف المكتب العام بشرعية إبراهيم منير، كما أن كل الدلالات تؤكد أن ثمة حواراً دار ولا يزال مع القائم بأعمال مرشد “الإخوان”، الذي يعتبر أن الخلاف مع هذه الجبهة قد انتهى، وأنهم يراهنون على الوقت حتى يكونا جبهة واحدة، بخاصة أن مساحات الاتفاق أكبر بكثير من مساحات الخلاف بينهما.
فإذا كان تيار التغيير يعتبر نفسه جزءاً من “الإخوان” وليس “الإخوان المسلمين” كلهم، فكيف نصدق جبهة لندن ممثلة بزعيمها إبراهيم منير، الذي يحاول هو الآخر أن يقنعنا بأن الجماعة لا علاقة لها بتيار التغيير ولا بما طرحه من وثيقة سياسية شرّعت فيها العنف؛ هناك حالة من التمايز بين جبهات الإخوان المتنازعة ولكنه يبقى مجرد اختلاف طفيف في الأهداف ووسيلة التعبير عنها، ولكن يبقى أن الجميع يحمل صور حسن البنا وسيد قطب، ويعتبر أنهما آباء مؤسسون للتنظيم الذي يتحركون تحت لوائه.
أخذت وثيقة “الإخوان” الشكل السياسي، ولكن عند قراءة ما ورد فيها وفهم أهداف التنظيم، تدرك أن ما يرمي إليه لا علاقة له بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، وأن ما طرح هو محاولة للعودة مجدداً إلى مربع العنف أو ادعاء ممارسة السياسة، فيما الواقع يخالف ذلك، فأهداف كلتا الجبهتين هي إسقاط النظام السياسي والدولة حتى يستطيعوا أن يعودوا إلى ما كانوا عليه من قبل، ثم ممارسة غريزة الانتقام التي تتمتع بها جماعات الإسلام السياسي ضد المختلفين معها.
“الإخوان” يمارسون السياسة، ولكنهم في الوقت نفسه يمارسون العنف؛ فما لا يمكن أن يحققوه بالسياسة يحققونه بالعنف، ولعل المفارقة هنا أن المؤسس الأول حسن البنا قرر في المؤتمر الخامس في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي خوض غمار السياسة والعنف مرة واحدة، عندما قال إن الإسلام دين ودولة، وقد كان طرحاً جديداً على التنظيم الذي مارس الدعوة قرابة 10 سنوات كاملة منذ نشأته، كما أنه قرر نشأة النظام الخاص للجماعة أو جناحها العسكري حينما قال في المؤتمر نفسه: “سوف نستخدم القوة حين لا يجدي غيرها”.
ولعل دهاء “الإخوان” أنهم لم يبتعدوا عن السياسة ولكنهم مارسوها مع العنف، ولم يستخدموا العنف بصورة دائمة، ولكنهم استخدموه في مراحل تاريخية عندما كانوا يرون لذلك ضرورة أو يفشلون في تحقيق ما يريدون بالسياسة، ولعل هذا ساعد في تأخر رسم صورة “الإخوان” الحقيقية لدى البعض.
صدور وثيقتين سياسيتين للجماعة في ليلة واحدة، كل منهما تبدو مختلفة عن الأخرى، لكنهما تتفقان في مضمونهما، وما ترميان إليه يدل دلالة قوية على نيات التنظيم الذي ينتظر إشارة البدء لإسقاط الدولة. مشروع “الإخوان” الحالي يمكن تلخيصه في إسقاط الدولة حتى يعودوا إلى ما كانوا عليه.
“الإخوان” من خلال الجبهات المختلفة يتفقون على الكليات العامة والأهداف المشمولة بإسقاط الدولة، ولكنهم قد يختلفون في بعض التفاصيل والوسائل، فجميعهم خرجوا من مشكاة واحدة ويعملون لهدف مشترك.
قراءة الوثيقة السياسية لـ”الإخوان” ربما تساعد في فهم ما يرمي إليه التنظيم، الذي يتمتع بقدر من المراوغة أحسنها المؤسس الأول حسن البنا وتمرس عليها مرشدو التنظيم وقادته في ما بعد، فهذه القراءة تضعنا على عتبة الفهم الصحيح للجماعة، فلا يمكن مواجهة التنظيم وأهدافه من دون فهم خطابه السياسي أو تفكيكه.
نقلاً عن “النهار” العربي