سراج الدين الصعيدي
كاتب مصري
انعكست سياسات الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم سلباً على الطموحات التركية للانضمام يوماً للاتحاد الأوروبي، ليصبح حلماً بعيد المنال، بعد حوالي (23) عاماً من مساعيها للانضمام إليه.
ووفقاً لدراسة نشرها مركز الإمارات للسياسات للباحث أحمد نظيف، فإنّه في 12 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري اعتمدت المفوضية الأوروبية حزمة التوسيع لعام 2022، التي قدَّمت تقييماً مفصلاً لحالة التقدم الذي أحرزته دول غرب البلقان وتركيا في مسارات كل منهما نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وانتهت إلى منح وضع المرشح للبوسنة والهرسك، مقابل بقاء تركيا في التقييم السلبي نفسه بعد حوالي (23) عاماً من دخول قائمة الدول المرشَّحة.
ويأتي هذا القرار الأوروبي في سياق جيوسياسي استثنائي تعيشه القارة عنوانه الأبرز الحرب الأوكرانية – الروسية وتبعاتها السلبية على الطاقة والاقتصاد، وبروز الدور التركي في هذا السياق.
وتناولت الدراسة المسارات المستقبلية للعلاقات الأوروبية – التركية من خلال تحليل دواعي النهج الأوروبي السلبي تجاه عضوية تركيا للاتحاد وتداعياته المحلية والإقليمية.
وبيّن المركز أنّه منذ العام 1999 كانت تركيا دولة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي. وقد فُتحت مفاوضات الانضمام في عام 2005، ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن فُتِحَ (16) فصلاً من أصل (35) من فصول شروط الانضمام. لكن منذ حزيران (يونيو) 2018 توقفت المفاوضات بين الطرفين بشكل فعلي، ودخلت العلاقات بينهما حالة من التدهور بشكل تدريجي.
وقال المفوض الأوروبي للجوار والتوسع أوليفر فارهيلي في إحاطته السنوية في 12 من الشهر الجاري حول المفاوضات مع تركيا: إنّ تقييم المفوضية أكد أنّ أنقرة لم تعكس الاتجاه السلبي المتمثل في الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي مع التراجع المستمر في المجالات الرئيسة للحقوق الأساسية وسيادة القانون واستقلال القضاء، وتدهور الحوكمة الاقتصادية واختلالات الاقتصاد الكلي.
ومن خلال التقارير التي أصدرتها المؤسسات الأوروبية حول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي على مدى الأعوام الـ (4) الماضية، وآخر تقرير حول حزمة التوسع، فإنّ دواعي النهج الأوروبي السلبي تجاه انضمام أنقرة تقوم على عاملين أساسيين هما: طبيعة النظام السياسي، والقضائي التركي.
ووفق الدراسة، فإنّ الأوروبيين يرون أنّ تركيا تشهد تراجعاً كبيراً عن الإصلاحات في المجالات الرئيسة لعملية الانضمام، ففي أعقاب محاولة الانقلاب عام 2016 تدهورت باستمرار سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان واستقلال القضاء، وسط تزايد مركزية السلطة. وتسارعت وتيرة هذا الاتجاه بعد دخول النظام الرئاسي الجديد حيز التنفيذ في عام 2018، وقد تأثر بشكل كبير العديد من الضوابط والتوازنات في النظام الديمقراطي؛ إذ أعادت الحكومة تشكيل مؤسسات الدولة والمؤسسات العامة، ممّا قوض استقلاليتها، كما أُضعِفَ دور البرلمان بشكل كبير، وإضافة إلى ذلك عُزِل (59) من أصل (65) رئيس بلدية منتخبين ديمقراطياً من حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد، واستبدلوا بأوصياء معينين من قبل الحكومة، ثم طلب المدعي العام في محكمة النقض رسمياً حل حزب الشعوب الديمقراطي. كما يُمرَّر معظم التشريعات في إجراءات عاجلة دون المشاركة المناسبة والتشاور مع أصحاب المصلحة.
وأوضحت الدراسة أنّ الضغط السياسي على القضاة والمدعين العامين أدى إلى التأثير سلباً على استقلال القضاء، في ظل استمرار ملاحقة وإدانة أفراد من بينهم صحفيون وطلاب ومحامون وسياسيون معارضون ونشطاء في الغالب بتهم فضفاضة تتعلق بالإرهاب، هذا بالإضافة إلى رفض تركيا تنفيذ الأحكام النهائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بما في ذلك تلك المتعلقة بالإفراج عن معتقلين سياسيين، على الرغم من القرارات التي اتخذتها لجنة وزراء مجلس أوروبا.
وبحسب التقرير الجديد الصادر في منتصف الشهر الجاري، فإنّه على الرغم من رفع حالة الطوارئ في تموز (يوليو) 2018، واعتماد تركيا خطة عمل جديدة لحقوق الإنسان، فإنّ بعض الأحكام القانونية التي تمنح المسؤولين الحكوميين صلاحيات استثنائية، والعديد من عناصر حالة الطوارئ سارية.
وأظهرت الدراسة أيضاً التراجع الخطير فيما يتعلق بقضايا المجتمع المدني؛ إذ واجهت منظمات المجتمع المدني ضغوطاً متزايدة، واستمرت مساعي الحد من حرياتها في التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع. وإلى جانب ذلك لم تُعزَّز الرقابة المدنية على قوات الأمن، فقد ظلت مساءلة الجيش والشرطة والمخابرات محدودة للغاية.
وقال التقرير الأوروبي: “إنّه على الرغم من أنّ تركيا استمرت في تنفيذ خطة العمل الخاصة بحقوق الإنسان لعام 2021 واستراتيجية الإصلاح القضائي لعام 2019، لكن كلتا الوثيقتين فشلتا في معالجة أوجه القصور الرئيسة في القضاء التركي، وتفتقران إلى خطة لإدخال تحسينات كبيرة على الأداء العام للنظام القضائي في البلاد.
هذا، بالإضافة إلى الانتهاكات التي طالت القضاة، فقد فُصِل (515) قاضياً ومدعياً بعد محاولة الانقلاب في 2016، وعلى الرغم من تبرئة العديد منهم، فإنّهم لم يستعيدوا وظائفهم.
أمّا عن سياسة أنقرة الخارجية، فقد علق الاتحاد الأوروبي قائلاً: “العقبة الثانية والأهم أمام دخول تركيا إلى الاتحاد، هي السياسة الخارجية للرئيس أردوغان؛ إذ يرى تقرير حزمة التوسع أنّ السياسة الخارجية التركية الأحادية الجانب ظلت على خلاف مع أولويات الاتحاد الأوروبي في إطار السياسة الخارجية والأمنية المشتركة (CFSP)، لا سيّما بسبب تدخلها العسكري في سوريا والعراق، وعدم التوافق مع تدابير الاتحاد الأوروبي التقييدية ضد روسيا.
ولفت التقرير إلى أنّ الدعم العسكري التركي لليبيا، بما في ذلك نشر مقاتلين أجانب على الأرض، وانتقادها المستمر وعدم تعاونها مع عملية “إيريني” أدى إلى الإضرار بالمساهمة الفعالة للاتحاد الأوروبي في تنفيذ حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، وأفضى كل ذلك إلى مقاربات متضاربة بشأن ليبيا.
ويبقى ملف شرق المتوسط أبرز عقبة في نظر الأوروبيين لتقريب السياسات الخارجية التركية مع الموقف الأوروبي الموحد، وهو ملف ذو شقين؛ يتعلق أولهما بالمسألة القبرصية، والثاني يتعلق بالحدود البحرية والاستكشافات النفطية في المنطقة، ويرفض الاتحاد الأوروبي أنشطة حفر غير مصرح بها من قبل تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط، بسبب الخلافات مع اليونان، الدولة العضو في الاتحاد.
ويُشير التقرير الأوروبي إلى أنّ السفن الحربية التركية أعاقت بشكل غير قانوني أنشطة المسح في المنطقة الاقتصادية القبرصية الخالصة، واستمرت التدريبات العسكرية التركية في المناطق البحرية لقبرص. لافتاً إلى أنّ تركيا بحاجة إلى أن تلتزم بشكل لا لبس فيه بعلاقات حسن الجوار والاتفاقات الدولية والتسوية السلمية للنزاعات وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، واللجوء، إذا لزم الأمر إلى محكمة العدل الدولية.
وأكد الباحث في دراسته أنّه يجب التأكيد على أنّ التقييم الأوروبي لحزمة التوسع للعام الحالي كان متوقع النتائج بالنسبة إلى تركيا، حيث لم تُجرِ أنقرة أيّ تغييرات جذرية – خاصة على المستوى الداخلي – من شأنها تغيير رؤية الاتحاد الأوروبي.
وذكر الباحث أنّه يمكن أن يزيد هذا التقييم الأوروبي السلبي لموقع تركيا بوصفها مُرشَّحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من متاعب الاقتصاد التركي، الذي يعاني من أزمة مديدة مع تدهور سعر صرف الليرة والارتفاع غير المسبوق في نسبة التضخم، وكان يمكن لأيّ تقييم إيجابي أن يُحسِّن من ثقة المستثمرين الأجانب في تماسك الاقتصاد التركي، الذي وصفه التقرير بأنّه يملك مقومات النهوض، لكنّه أشار إلى أنّ السياسة النقدية المتساهلة للغاية في البلاد والافتقار إلى مصداقية السياسة أدت إلى إضعاف الليرة، ودفعت التضخم الرسمي إلى أعلى مستوى له في عقدين من الزمن بأكثر من 80%.
وأضاف الباحث: أمّا من الناحية السياسية، فيمكن أن يكون التقييم الأوروبي السلبي ورقة بيد المعارضة التركية ضد الرئيس أردوغان وتحالفه الانتخابي خلال الاستحقاق المقبل في شهر حزيران (يونيو) 2023، والذي يبدو مصيرياً بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية وتركيا عموماً، لكنّه في الوقت نفسه سيكون ورقة بيد أردوغان لتعزيز تحالفه مع القوميين الأتراك.
أمّا على الصعيد الدولي، فسوف يُعزز هذا التقييم السلبي موقع تركيا “شبه الحيادي” حتى الآن من الصراع الروسي – الأوكراني، فقد سعت تركيا منذ بداية الحرب لاستغلالها لتحسين علاقاتها مع القوى الغربية وجارها الأوروبي من خلال توريد السلاح لكييف، وإغلاق المضيق في البحر الأسود، ومحاولة القيام بالوساطة. وبدت هذه الخطوات كأنّها مؤشر عودة تركية إلى موقعها الغربي، رغم حرصها على بقاء علاقتها مع الحليف الروسي. لذلك فإنّ التقييم الأوروبي الجديد سيُعطي أنقرة عنصر موازنة في علاقاتها بين موسكو والغرب، خاصة أنّ تركيا تعتمد بشكل كبير على واردات القمح من روسيا، وتعتمد بشكل أكبر على الأسواق الروسية في قطاعات البناء والسياحة، كما تستورد تركيا 35% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، لكنّ أكبر تحدٍّ يواجه تركيا اليوم هو تطور مسارات الحرب نحو مزيد من التصعيد، حيث ستكون أنقرة في وضع صعب يفرض عليها الخروج من حالة الحياد الإيجابي التي يحاول الرئيس أردوغان أن يلعبها منذ اندلاع الحرب، وسيفرض على تركيا التصرف بوصفها عضواً في حلف شمال الأطلسي، وهو اختبار مهم لمدى مقبوليتها داخل الاتحاد الأوروبي.
وتوقعت الدراسة أن تحافظ العلاقات الأوروبية التركية على استقرارها الحالي، دون تصعيد في التوتر أو حصول تحسُّن نوعي، حتى موعد الانتخابات المقبلة في تركيا، فالرئيس التركي يريد تعزيز تحالفه مع الأحزاب القومية المتشددة، وهذا الأمر سيحد من قدرته على الاقتراب من الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر.
ومن جهة ثانية، لا يبدو أنّ الاتحاد الأوروبي في وارد اتخاذ خطوات جذرية في اتجاه أنقرة سلبياً أو إيجابياً؛ بسبب الحرب القائمة وأهمية تركيا وموقعها في مسار الصراع أولاً، وثانياً لعدم استباق الوضع قبل ظهور نتائج الانتخابات التي ستحدد مصير تركيا خلال الأعوام المقبلة، ومصير عضويتها في الاتحاد الأوروبي.
ووفقاً للدراسة، فإنّ المسار الأكثر توقُّعاً هو استعصاء قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، في المديين القريب والمتوسط، خاصة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، حيث يسود مزاج أوروبي واسع بعدم الثقة في سياسات الرئيس أردوغان وحزبه، نظراً إلى أنّ دروس التجربة التاريخية تحتفظ له بانعطافات سياسية مفاجئة وغير متوقعة، وذلك يعطي شعوراً بعدم موثوقية أنقرة في الالتزام مستقبلاً بسياسات الاتحاد. كما أنّ صعود أحزاب اليمين الشعبوي للحكم في الكثير من الدول الأوروبية يُقلل كثيراً من حظوظ أنقرة في العضوية الأوروبية. لكنّ ذلك، في النتيجة، لن يمنع تركيا والاتحاد الأوروبي من التقارب بهدف تعميق المصالح المشتركة بينهما؛ إذ كشفت الحرب للمعسكر الغربي الأهمية الاستراتيجية للتركيا، لا سيّما لجهة موقعها.
المصدر حفريات