خالد بشير
كاتب أردني
ركب التجار العرب البحار فحكمت الجغرافيا أن يكون اتصالهم الأوّل والأهمّ مع شبه القارةّ المقابلة لهم على الجانب الآخر من المحيط؛ الهند، فكانت نقاط التفاعل والالتقاء العديدة بين الثقافتين؛ من الأرقام الهنديّة، إلى حكم الفيلسوف بيدبا، إلى التوابل والبهارات.
طريق التوابل.. والبخور
اكتسبت الجزيرة العربية أهمية بسبب موقعها المتوسط بين قارات العالم القديم وإشرافها على ثلاثة بحار، إلّا أنّ جفافها وافتقاد معظم أراضيها الخصوبة جعلها غير قادرة على توفير وسدّ احتياجاتها، وهو ما دفع بسكّانها إلى ركوب البحر والسفر في الرحلات التجاريّة الطويلة، بغرض توفير ما ينقصهم، ومع مرور الزمن تحوّل العرب إلى روّاد في حركة التجارة خلال العصور القديمة والوسيطة.
وكانت الهند؛ بسبب مناخها وكثافة النباتات فيها، ونشاط أهلها بالزراعة تعتبر من أهم البلدان المصدّرة للمواد والبضائع، وكانت البضائع تُحمَل منها إلى سائر أنحاء العالم القديم. أما السفن العربيّة فتنطلق من موانئ اليمن على بحر العرب لتعبر المحيط الهنديّ باتجاه السواحل الهنديّة الغربيّة، ثم تنطلق عائدة محملةً بالبضائع، وبعد الوصول إلى اليمن، تنقل حمولتها في القوافل عبر خطوط التجارة، بمحاذاة البحر الأحمر، ثم إلى الشام ومصر، ومنها إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
وأشهر ما كان العرب يستوردونه من الهند: البهارات والتوابل والبخور والعطور، حتى أنّ شبكة الطرق التجاريّة الواصلة بين الهند وسائر العالم القديم، عبر شبه الجزيرة العربية، عُرفت بأسماء مثل “طريق التوابل”، و”طريق البخور”، كما كانت الطريق الواصلة إلى الصين عبر وسط آسيا تعرف بـ “طريق الحرير”.
ولم يكن استخدام البهارات والتوابل مقتصراً على تحضير الطعام، وإنما استخدمت لصناعة العطور، وتحنيط الموتى، وحفظ اللحوم، كما كانت ضرورية في بعض الوصفات والعلاجات الطبيّة، ومن أشهرها: القرفة والقرنفل وجوزة الطيب والفلفل الأسود.
في المقابل، كان الهنود يستوردون أنواع الأقمشة والأحجار الكريمة والمرجان والنبيذ. ومما يدل على مدى نشاط وقِدَم التجارة العربيّة مع شبه القارّة الهنديّة، دخول ألفاظ هنديّة من أسماء البضائع المستوردة إلى اللغة العربيّة، ومنها ما جاء ذكره في القرآن الكريم، مثل: المسك والزنجبيل والكافور.
حركة الترجمة.. من الهنديّة إلى العربية
وعلى صعيد آخر، كان هناك بين العرب والهنود تبادل كبير على مستوى العلوم والمعارف، وبالتحديد بعد صعود وازدهار الحضارة العربية الإسلامية منذ القرن السابع الميلادي، ويذهب عدد من مؤرخي العلوم مثل؛ جورج سارتون، إلى أنّ المسلمين مدينون للهنود قبل اليونان بالتأثر والاستفادة منهم في شتّى أنواع المعارف، سواء في الفلسفة أو الرياضيات أو الفلك.
وقد ازدهرت حركة الترجمة من الهنديّة (السنسكريتيّة) إلى العربية في العصر العباسي الأوّل، وتحديداً في عهد الخلفاء؛ المنصور والرشيد والمأمون. حين توافد عدد من العلماء والحكماء والأطباء الهنود إلى بغداد، كابن دهن، وصنجهل الهندي، وسندباذ، وانخرطوا في المؤسسات العلميّة والطبيّة، مثل “بيت الحكمة”.
شملت الترجمات أهم كتب الحساب والفلك والطب الهنديّة، ومن أهم كتب الفلك كان كتاب “سدهانتا” الذي عُرف لاحقاً في المصادر العربيّة باسم “السند هند”، إضافة إلى كتاب “كهاديكا”، وكتاب “أرجهند”، والتي أصبحت مراجع مهمّة عند علماء الفلك العرب، فاستندوا إليها وبنوا عليها. وفي مجال الطب، نقلوا عن الهنديّة كتباً مثل: “السيرك”، وكتاب “أسماء عقاقير الهند”، وكان الأطباء الهنود قد برعوا في استخدام الأعشاب والنباتات الطبيّة، فاعتمد على معارفهم حكماء المسلمين في هذا الشأن.
أرقام هنديّة.. أم عربيّة؟
وفي مجال الحساب، نقل العرب عن الهنود الأرقام الهنديّة (من ١ إلى ٩)، والتي هي أساس علم الحساب والنظام العشريّ، وكانت الأرقام معروفة من قبل، لفظاً واسماً، وكانت تكتب بالكلمات كتابةً، دون اعتماد رموز محددة لها، فنقلوها واستخدموها بالحساب، وانتقلت عبر الأندلس إلى أوروبا مع تعديلات طفيفة عليها (فأصبحت: من 1 إلى 9)، وهناك عرفت باسم الأرقام العربية؛ لأنها جاءتهم من العرب.
كما نقل العرب عن الهنود كتاب “يافر” في الموسيقى، وفي الأدب والحكمة نقلوا الكتاب الشهير “كليلة ودمنة”، للفيلسوف الهنديّ “بيدبا”، الذي صاغ حِكَمه على ألسنة الحيوانات، ونقله الحكيم الفارسي “برزويه” من السنسكريتيّة الهنديّة إلى الفهلويّة الفارسيّة وقدّمه إلى كسرى “أنوشروان” في القرن السادس الميلادي، ومن ثم ترجمه من الفارسيّة إلى العربيّة، في القرن الثاني الهجري، الأديب عبدالله بن المقفّع. ومن ألعاب الذكاء كذلك، انتشرت في الحواضر العربية لعبة “الشطرنج”، التي نشأت في الهند ومن ثمّ انتقلت إلى الفرس ووصلت للعرب عن طريقهم، وذاعت بعدها حول العالم.
تأسيس علم الهنديّات
وفي المقابل، قدّم العلماء العرب دراسات مستفيضة عن الهنود، كان أشهرها كتاب أبو الريحان البيروني الموسوعيّ عن الهند، “تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة”، وهو أهم وأوسع دراسة وصلتنا في وصف عقائد الهنود وعاداتهم في الطعام والزواج والأعياد، ونظم حياتهم، وخصائص لغاتهم، وقد قضى البيروني أربعين عاماً وهو يدرس الهند والهنود، واعتبر بروكلمان في موسوعته “تاريخ الأدب العربي” هذا الكتاب “أهم ما أنتجه علماء الإسلام في ميدان معرفة الأمم”. ويعتبر البيروني اليوم بمثابة المؤسس والرائد لعلم الهنديّات (علم دراسة الهند وشعوبها). إضافة إلى ذلك، فإنّ الجغرافيين العرب، كابن حوقل والاصطخري، سافروا إلى الهند واستفاضوا في وصف أرضها ووضعوا لها الخرائط الدقيقة.
وعلى مستوى آخر، بلغ امتزاج الحضارتين؛ الهنديّة العربيّة، ذروته مع تطوّر الحضارة الإسلاميّة في الهند، منذ دخول الغزنويين وتوغلهم شمالي الهند، مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، وحتى سقوط سلطنة مغول الهند الإسلامية منتصف القرن التاسع عشر. وقد حرص ملوك وأمراء الدول الإسلامية في الهند على تقوية العلاقات والصلات مع العرب، واستقبلوا التجّار العرب ورحبوا بهم، كما استقدموا العلماء من البلدان العربيّة للتدريس في المدارس الشرعيّة، فساهموا في نشر وتنشيط العلوم الإسلاميّة في الهند.
وفي المقابل، قدمت الهند الكثير من علماء الشريعة، وكانت مدينة “دهلي” من أهم المراكز العلميّة في الهند، بل وعلى مستوى العالم الإسلامي خلال الحقبة (1500 – 1800)، وكثيراً ما نجد من علماء الشريعة في هذه الحقبة يحملون النسبة “دهلويّ”، وكذلك برزت أسماء عدّة في القرن العشرين من خريج “ندوة العلماء”، بعد تأسيسها عام 1893، وإليها ينسبون (الندويّ).
كما بلغت الحضارة الإسلاميّة بالهند ذروة ابداعها في العمارة، وهو ما تجلّى في تحف معماريّة خالدة مثل؛ “تاج مجلّ” و”قطب منار”.
المصدر حفريات