سمير قسطنطين
التَّنمُّر عبارةٌ بدأنا نسمعها منذ زمنٍ غير بعيد. كثيرون سمعوها للمرّةِ الأولى عندما انتسبَ أولادهم إلى مدرسةٍ ما، الذين ما لبثوا بعدَ حينٍ أن تعرَّضوا لبعض المضايقات من أترابهم، فأتوا إلى البيتِ مُشتكين باكين، وذهب أهلُهم إلى المدرسةِ معترضين مُشتَكين.
عند ذاك، سمع الأهل للمرَّةِ الأولى بعبارةِ “التّنمُّر”.
العبارة غير مألوفة كثيراً على الأُذُن اللّبنانيّة. لكنَّ مرادفاتها في العالم معروفةٌ. فعبارة الـ bullying هي أشهر من نارٍ على عَلَم في العالم الغربي. وفهم الأهل عندذاك أنّ التنمّرَ هو شكل من أشكال الإساءة والإيذاء موجّه من قِبَل فردٍ أو مجموعة نحو فرد أو مجموعة تكون أضعف.
في اعتقادنا جميعاً أنَّ التّنَمُّر هو حالةٌ يمارِسها طفل أو ولد أو تلميذ على شخصٍ آخر في المدرسة أو الحيِّ أو الطّريق.
السؤال الّذي يخطر ببالي الآن: “هل التَّنمُّر محصورٌ بالصِّغار؟” بكلامٍ آخر، هل يتنمَّر الكبار أيضاً؟ وإذا كانوا ذلك، فمن منهم يتنمّر وعلى مَن يتنمَّرون؟ أعتقد أن الكبار هم أكثرُ تنمُّراً على غيرهم من الصِّغار.
تنمُّر الصِّغار بريءٌ في بعضِ الأحيان، وخطير في أحيانٍ أُخرى. لكنَّ تنمُّرَ الكبار خطيرٌ في كلِّ حين.
ثلاثة أنواعٍ من الكبار يتنمَّرون، لكنّنا نادِراً ما نُطلِق على تصرُّفاتهم عبارة “التَّنَمُّر”.
فمن هُم هؤلاء المتنمِّرون الكبار؟
أولاً، الأهل يتنمَّرون.
نعم يتنمَّرون على أولادِهم.
قد يظنّ الّذين يأتون من بيئاتٍ مُحافِظَة بأنّني أُهَرطِق.
لكنَّ الأمر ليس كذلك.
إذا كان تنمُّرُ الصّغار على الصّغار يتضمَّنُ عُنفاً كلاميّاً وجسديّاً ونفسيّاً، فإنَّ كلَّ عنفٍ كلاميٍّ أو نفسي أو جسدي يمارِسُهُ الأهل على أولادهم فيه شيءٌ أو الكثير من التَّنمُّر.
عندما يصفعُ والدٌ ولدَه، هذا عُنفٌ والعُنفُ هنا تنمُّرٌ.
عندما تقول أمٌ لولدها عبارة: “أنتَ ما خَرجك شي وما طالِع من أمرَك شي”، فماذا يكون ذلك؟ هذا هو التَّنمُّر بحدِّ عينِه.
عندما تريدُ أمٌ أن تُعاقِبَ ولدها الّذي “عزّبها”، عبر قولها له: “من هلَّق ورايح، أنا مش إمَّك”، فماذا يكون ذلك سوى التّنمُّر، ذلك لأنّها تؤذيه نفسيّاً عبر إثارة الخوف لديه.
إذاً الأهل يتنمَّرون .
طبعاً هُم لا يعترِفون بكونِهِم متنمِّرين، خصوصاً وأنّ الولدَ لا يستعمل عبارة “التّنمُّر” مع أهلِه.
فهو لا ينهرهم على تنمُّرِهم. لعلّه يرى في تصرّفهم شيئاً من القساوةِ؛ وهذا صحيح، لكن في الواقِع هذا هو التَّنمُّر بحدِّ ذاتِه.
المعلِّمُ يتنمَّرُ أيضاً .
أنا لا أقول إنَّ كلَّ معلمٍ يتنمَّر.
حاشا وألف كلّا.
لكنْ، هناك معلّمون لم يقتنِعوا بعد أنَّ أسلوب التّقريع والهزء والتّعنيف الكلامي لا ينفع مع الأولاد في هذا الزّمن بالذّات.
عندما تلتفِتُ معلِّمةٌ إلى ولدٍ وتسأله إذا ما كانَ هو أخ فؤاد الّذي درس في صفِّها في السّنةِ الماضيةِ، ويُجيبُ التّلميذُ عن سؤالها: “نعم أنا أخوه”.
وفي اللّحظةِ ذاتِها، تقول له: “وليش إنتَ منَّك شاطِر متلو؟” وطبعاً هي لا تنسى أن تستهزئ به وتقارِنه بأخيه أمام أولاد الصَّف كلِّهم.
ماذا عساهُ يكون هذا الموقف سوى التّنمُّر؟ عندما يرفعُ ولدٌ لا يُشارِكُ في نِقاشات الصَّف كثيراً، يرفعُ يدَهُ ليُجيبَ عن سؤالٍ طَرَحَهُ المعلِّم.
وقبل أن يعطيه المعلِّم الإذنَ بالكلام يتوجَّهُ إليه المعلِّم قائلاً على مسمَعِ تلاميذ الصّف: “هات لنشوف أفلاطون عصرو شو عندو اليوم”.
وما إن يهمُّ الولدُ بالإجابة، يقاطِعه المعلِّم قائلاً: “صَمَتَ دهراً ونَطَقَ كُفراً”.
عندما يُقرِّع معلمٌ تلميذاً أمام رفاقِه أو في غيابهم، فماذا يكون ذلك سوى التَّنمُّر!
ثالثاً، مدير المؤسّسة أو مدير القسم يتنمَّرُ أيضاً.
كلُّنا عملنا أو نعملُ مع مدراءَ لنا.
علاقتُنا المهنيّة مرتبطةٌ بهذا الإنسان أو ذاك، رجلاً كان أم امرأة.
يقدِّمُ موظفٌ تقريراً لمديره.
يرسلُه له عبر الإيميل. في اليوم التّالي يقرأ المدير التّقرير، وقبلَ أن ينتهي من قراءتِهِ، يرفع سمّاعة الهاتف ويتَّصلُ بالموظّف ويقول له: “يعني أنا إلي جمعتين ناطرك لتبعتلي هيدا التّقرير؟” ما هذا؟ هذا هو التَّنمُّر بحدِّ ذاتِه.
قد تقول لي: “وهل لا يحقُّ للمدير ألّا يقتنعَ بتقريرٍ قَدَّمَهُ إليه موظَّفٌ يرتبط مباشرةً به؟” طبعاً له الحق ألّا يُحبَّ هذا التّقرير أو ذاك وأن يكون له ملاحظاتٌ كبيرة أو صغيرة عليه.
المسألةُ ليست هنا.
المسألة تكمن في كيفيّة التّعبير عن امتعاضِ المدير.
في كلِّ مرّةٍ يمتعضُ فيها المدير من تصرُّفٍ معيَّن، أو إنجازٍ معيَّن، أو إخفاقٍ معيَّن، له كل الحق في أن يُعبِّرَ عن رأيه وحتّى عن استيائه، لكن لا يحقُّ له، لا من قريب ولا من بعيد أن يضَمّنَ كلامَه تقريعاً أو هزءاً أو انتقاداً لاذِعاً للموظَّف.
هذا أيضاً يُعتَبَرُ تنمُّراً.
إذا راجعنا ما عبرنا به في حياتنا المهنيّة والشّخصيّة والاجتماعيّة والدّراسيّة، نرى أنَّ كثيراً من التَّنمُّرِ قد مُورِسَ علينا.
كنّا نسمِّيه “لئْمَنة” أو قساوةً أو قلّة تهذيب.
لكنَّ الأمرَ كانَ تنمُّراً بالدّرجةِ الأولى والثّانية والثّالثة.
أوَتسألونني لماذا يستهزئ كثيرٌ من اللّبنانيين بكلِّ شيء، و”يتمسخرون” على كلِّ عابِرِ سبيل، ولا يتهاونون في تحقيرِ آخرين على السوشيل ميديا خصوصاً في هذا الزّمن السّياسي الرّديء! ذلك لأنَّ التَّنمُّرَ قد مورِسَ على كثيرين منّا ولم نتنبه إليه ولم نُعالِجهُ، وقد وقعنا ضحيّته وأوقعنا كثيرين آخرين ضحيّتنا.
فعلاً، هل يتنمَّرُ الكِبار؟ لعلّهم يشكّلون الفئة المعنيّة بالتَّنمُّر أكثر من سواهم في عالَم اليوم.
نقلاً عن “النهار” العربي