إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
تُمثّل تجمعات المراهقين في المدارس والمعابد والأحياء، والتجمعات التقليدية لهم على نحو اعتيادي، مصدراً أساسياً لاجتذابهم إلى الجماعات الدينية، بمختلف اتجاهاتها وأفكارها وأيديولوجياتها، وفي أحيان؛ تتحول إلى ساحة صراع وتنافس بين الجماعات والأيديولوجيات، فالدين ما زال ظاهرة اجتماعية، ورغم أنّه في الأساس معتقد فردي، لكنّه وعلى مدى التاريخ والجغرافيا يعاد إنتاجه وفهمه وفق ديناميات اجتماعية، وبناءً على ذلك؛ كان العمل الديني والجماعات الدينية قاعدة أساسية لبناء العلاقات الاجتماعية والصداقة والزواج والمشاركات الاقتصادية والسياسية.
رغم أنّ الدين بالأساس معتقد فردي، لكنّه وعلى مدى التاريخ والجغرافيا يُعاد إنتاجه وفهمه وفق ديناميات اجتماعية
وفي السياق نفسه؛ تتحرك، منذ أزمان بعيدة، جماعات المبشرين والدعاة مستقلة بنفسها أو مصاحبة للحملات السياسية والتجارية، وكانت عمليات التحوّل الديني في أنحاء واسعة ومختلفة من العالم مصاحبة للعمليات العسكرية والسياسية أو المصالح والأعمال التجارية، إلى درجة صار يصعب القول إنّ الإيمان الديني هو حالة فردية، فقد كان في الواقع عمليات منهجية متراكمة من التنشئة والتضامن الاجتماعي وبناء الهوية والانتماء.
وتشير دراسات اجتماعية إلى أنّ الأنشطة والمعتقدات الدينية، تتكون نتيجة لصداقات المراهقين؛ حيث تكون عمليات اختيار جماعية لدى الأصدقاء، كما تساعد الأنشطة والبرامج الدينية على تعزيز الصداقات، ورغم أنّ المراهقين يجيبون عادة على أسئلة الباحثين بأنّهم لا يتأثرون في اتجاهاتهم نحو الدين بعامل الصداقة، أو العكس؛ أي الاتجاه نحو الصداقة بتأثير ديني، فإنّ الدراسات والملاحظات تؤكد تأثير الصداقة في الاتجاه الديني، إنّ المراهقين في هذه المرحلة من العمر يميلون إلى اتجاهين متناقضين في آن معاً؛ تأكيد الذات ومقاومة الانتماء الاجتماعي، وفي الوقت نفسه فإنّهم يدخلون في عمليات انتماء قوية ومتماسكة، لعلها الأكثر قوة ومشاركة في حياتهم.
وتمنح الأنشطة الدينية الجماعية، خاصة الحداثوية المصحوبة باحتفالات وألعاب ومباريات رياضية وترفيهية؛ جماعات الشباب ذكريات قوية وراسخة، تؤثّر في اختيارهم لمستقبلهم، وعادة ما يتركّز الاهتمام البحثي والإعلامي والمؤسسي والأسري على الهاجس تجاه المغامرات والاتجاهات السلوكية الخطيرة، لكن أيضاً؛ يُمكن أن تتكرّس وإلى الأبد الانتماءات والأيديولوجيات الدينية؛ ففي لقاءات الأصدقاء واجتماعهم المتكرر يصبحون متشابهين، سواء بالتأثر التلقائي وتوازن وجهات النظر أو لأجل القبول الاجتماعي والمكانة.
كانت عمليات التحوّل الديني في أنحاء واسعة ومختلفة من العالم مصاحبة للعمليات العسكرية والسياسية أو المصالح والأعمال التجارية
وتتشكّل آليات الاختيار الاجتماعي للأصدقاء والمؤثرين والملهمين، بناءً على تفاعلات عاطفية جاذبة للشباب، كما تُشكّل الرموز والممارسات الدينية، كما الأنشطة والبرامج المستمدة منها أو التي تقوم حولها مثل الاحتفالات والمباريات والاجتماعات والأناشيد والألعاب الجماعية والترفيهية؛ آليات مشتركة للتضامن والقدوة والإلهام، حيث تتفاعل معها أو ترافقها بطبيعة الحال عوامل اجتماعية أخرى تزيد الصداقة والتماسك الاجتماعي؛ مثل الطبقة والانتماء الجغرافي والإثني، وفي معاودة الدراسات والمقارنات مع الزمن على المجموعات نفسها من المراهقين؛ تؤشر الدراسات إلى أنّ تغيرات الأفراد باتجاه اختياراتهم الدينية تتأثر بشبكات الصداقة، أو تأثر الصداقة بالاختيارات والاتجاهات الدينية.
وبالطبع؛ فإنّ الصداقة قيمة اجتماعية عُليا ومهمة في التكوين النفسي والاجتماعي للفتية كما هي ضرورة للكبار، ويمكن أن تكون أيضاً مفيدة في مواجهة التطرف، تساعد على بناء المناعة الاجتماعية والثقافية؛ فالأصدقاء يمنحون لبعضهم الثقة والقوة، وبالعكس؛ فإنّ العزلة والوحدة تُهدّد الإنسان بالهشاشة والقابلية للانسياق.
وتؤشر الصداقة إلى منظومات اجتماعية وثقافية واسعة ومعقدة؛ لأنّها لا تتشكل مستقلة عن البيئة الاجتماعية ومؤسساتها، فهي مفيدة في ملاحظة الاتجاهات الاجتماعية والأسرية نحو المستقبل والاختيارات المهمة في الحياة؛ كالدراسة والزواج والعمل، وتوسعة مدارك الإنسان وآفاقه في ملاحظة المهارات المعرفية والحياتية.
وتمثل الصداقة مؤشراً اجتماعياً وأخلاقياً جمعياً وفردياً، يُستدل به على حالة التقدم الاجتماعي أو الهشاشة والقابلية للكراهية، ويبدو واضحاً أنّ قيم الصداقة ومعناها تتناقض مع الكراهية، فهي مستمدة من قيم قبول الآخرين والسعي لاكتساب ثقتهم وتعاونهم، وهي بطبيعة الحال تعني محبة الناس ومساعدتهم وتمني الخير لهم والتخلص من الكراهية والعداء.
تمنح الأنشطة الدينية الجماعية، خاصة الحداثوية، جماعات الشباب ذكريات قوية وراسخة تؤثّر في اختيارهم لمستقبلهم
كما أنّها تؤشر إلى احتياجات التنشئة والتأهيل، فحتى يكون المرء قادراً على اكتساب وبناء الصداقات فإنّه يحتاج إلى مهارات اجتماعية متقدمة؛ مثل حب الحياة والتعاون وسعة الصدر وسعة الأفق والاستماع، كما أنّ الصداقة ضرورة أساسية لحماية المدن وتطويرها، والحال أنّ المدن تقوم على الصداقة، وبدون مجالس المدن القائمة على الصداقة لن تتطور العلاقات الاجتماعية المدنية بعيداً عن الروابط والانتماءات القرابية والدينية، كما تتطور أيضاً الأفكار والبرامج التطوعية الضرورية للمدن، مثل الثقافة والفنون والآداب والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي وتفعيل الخدمات والمرافق الأساسية للمدن والأحياء.
هكذا فإنّ الصداقة، بما هي أداة الجماعات الدينية المتطرفة لاختراق المجتمعات والتأثير بها، فإنّها أيضاً يمكن أن تكون أداة المجتمعات في تحصين ذاتها من الهشاشة الفكرية والاجتماعية، وحماية الأفراد من التطرف والجريمة والاستقواء؛ فالمواطن الفاعل والصالح سوف يكون عصياً على الجماعات المتطرفة، وربما يكون هو أمل المجتمعات والأمم في مواجهة التطرّف والكراهية والإرهاب والتعصب.
ولكن، وكما تتشكل الصداقة الجمعاتية بدافع الشعور بالخوف والتهميش أو البحث عن الانتماء والأمن، فإنّ الصداقة الإيجابية لا تنشأ إلا في بيئة من حب الحياة؛ بما هي قيمة أساسية عليا وحاكمة على الأفكار والسلوك والمنظومة العامة للأفراد والدولة والمجتمع، وفي غياب هذه القيمة لا يعود للحياة قيمة، ومن ثم لا يكون هناك إبداع وتقدم، بل وتنشأ العيوب والجرائم والمشكلات والأزمات.
نقلاً عن حفريات