كريتر نت – متابعات
جاءت التغيرات المناخية لتقلص من منسوب المياه في نهري دجلة والفرات، لكن الأنظمة السياسية تبدو أشد خطورة على حياة الرافدين العظيمين، إذ لا تتوانى تركيا في بناء السدود واستغلال مياه النهرين لصالحها، غير آبهة بأرض العراق التي تحتضر عطشا، فأبناؤها من السياسيين غير قادرين على التفاوض وافتكاك حقهم في المياه، والوفاء بالإصلاحات التي تضمن استدامة الزراعة في القرى العراقية.
وستأتي المياه في العام المقبل، حيث نجح مد الأنابيب إلى مزرعة آتا يجيت مترامية الأطراف في جنوب شرق تركيا وربطها بسد على نهر الفرات.
وقال يجيت إنه حلم سرعان ما سيصبح حقيقة. وسرعان ما سيتمكن من ري كل حقوله كما يأمل.
وعلى بعد أكثر من ألف كيلومتر في اتجاه المصب في جنوب العراق، لم يعد هناك شيء ينمو في مزرعة عبيد حافظ للقمح. وقال الشيخ البالغ من العمر 95 عاما إن المياه توقفت عن التدفق قبل عام.
وتتباين الحقائق بشكل صارخ على طول حوض نهر دجلة والفرات، وهو أحد مستجمعات المياه الأكثر تأثرا في العالم، حيث انخفضت تدفقات الأنهار بنسبة 40 في المئة في العقود الأربعة الماضية بينما تسعى الدول على امتداد طولها (تركيا وسوريا وإيران والعراق) لتطوير سريع أحادي الجانب لاستخدام مياهها.
ومن المتوقع أن يتفاقم الانخفاض مع ارتفاع درجات الحرارة بسبب تغيّر المناخ. وتقر تركيا والعراق، وهما أكبر مستهلكين، بوجوب أن يتعاونا للحفاظ على النهر الذي يعتمد عليه حوالي 60 مليون شخص للبقاء على قيد الحياة. لكن الإخفاقات السياسية والعناد يتآمران لمنع صفقة تقاسم الأنهار.
وتوضح التقارير والبيانات الداخلية الحسابات التي تقود الخلافات خلف الأبواب المغلقة، وهي تمتد من مخاوف العراق من انخفاض محتمل بنسبة 20 في المئة في إنتاجه الغذائي إلى الصراع مع تركيا لتحقيق التوازن بين احتياجاتها الخاصة واحتياجات العراق.
صورة
حلم المزارع
تستغل تركيا حوض النهر ضمن مشروع ضخم لتنمية الزراعة وتوليد الطاقة الكهرومائية. وشيّدت ما لا يقل عن 19 سدا على نهري دجلة والفرات في إطار مشروعها لجنوب شرق الأناضول. ومن المتوقع أن يصل عدد السدود الأخرى إلى 22 سدا.
ويهدف مشروعها إلى تطوير الجنوب الشرقي، الذي كان لفترة طويلة يراكم الركود الاقتصادي ويؤوي حزب العمال الكردستاني الانفصالي الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية.
وسيكون المشروع تحويليا بالنسبة إلى المزارع يجيت، حيث لم يسمح اعتماده على مياه الآبار سوى بري نصف أرضه. ووصلت أنابيب الري أخيرا إلى مزرعته البالغة مساحتها 4500 فدان والواقعة في محافظة ماردين في يونيو. وستروى بالكامل خلال العام المقبل عبر سد أتاتورك على نهر الفرات.
ويجب على المزارعين الذين يستفيدون من المشروع استخدام تقنيات الري المتقدمة التي تقول السلطات التركية إنها تستخدم مياها أقل بمقدار الثلثين.
ولكن بالنسبة إلى العراق القلق، فإن كل قطرة ماء تحوّل للري تعني تقليل مجرى النهر.
ويبقى العراق أسير الجغرافيا في اتجاه مجرى النهر، حيث يعتمد بالكامل تقريبا في مياهه على النهرين التوأمين والروافد الناشئة خارج حدوده.
وقد أعدت وزارة المياه العراقية تقريرا سريا في 2014 أوضح “حقيقة واحدة”: في غضون عامين، لن تلبي إمدادات المياه في العراق الطلب.
وستستمر الفجوة في الاتساع. وحذر التقرير من أن العجز المائي سيؤدي في 2035 إلى انخفاض بنسبة 20 في المئة في إنتاج الغذاء.
وتتجلى التوقعات القاتمة في 2022، حيث جفّت البحيرات وفشلت المحاصيل وهاجر آلاف من العراقيين. وقال أحد مؤلفي التقرير الذي تحدث دون الكشف عن هويته حتى يتمكن من مناقشة الأمر، إن التوقعات كانت “دقيقة بشكل ملحوظ”. وهي تظهر أن المسؤولين العراقيين يعرفون كيف أن المستقبل سيكون قاتما دون الاستثمار الموصى به البالغ 180 مليار دولار والاتفاق مع الجيران.
تركيا تتعامل كما لو كانت المالك الخيِّر لحوض النهر، حيث تقيِّم الاحتياجات وتقرر مقدار التدفق الذي يجب السماح به
وتتعامل تركيا مع قضية المياه كما لو كانت المالك الخيِّر لحوض النهر، حيث تقيِّم الاحتياجات وتقرر مقدار التدفق الذي يجب السماح به في اتجاه مجرى النهر. ويعتبر العراق الملكية مشتركة وهو ما يتطلب ترتيبا أكثر ديمومة مع أطراف محددة.
وفي مقابلة نادرة، قال مبعوث تركيا المعني بقضايا المياه مع العراق فيصل إيروغلو إن تركيا لا يمكنها قبول الإفراج عن كمية ثابتة من المياه بسبب عدم القدرة على التنبؤ بتدفقات الأنهار في عصر تغيّر المناخ. وذكر أن بلاده يمكن أن توافق على تحديد نسبة للإفراج بشرط أن تقدم سوريا والعراق بيانات مفصلة عن استهلاكهما للمياه.
وتبقى مسألة سوريا عقبة رئيسية، إذ يتعامل الطرفان مع بعض البيانات مثل أسرار الدولة، مما يغذي عدم الثقة.
وفضّل نظير إيروغلو، العراقي مهدي الحمداني الاحتفاظ ببيانات استهلاك المياه في بلاده، قائلا “إنها أدوات مفاوضاتنا”.
وتنحّى الحمداني عن منصبه بعد التصويت على الحكومة الجديدة في أكتوبر، مما يبرز مشكلة أخرى لتركيا هي التغيير المتكرر للمتحدثين العراقيين في مفاوضات المياه.
وقال أحد السفراء العراقيين لقد “أخطأ” الطرف العراقي ذات مرة لما جعل الأتراك يدركون أن 70 في المئة من المياه تُهدر فعليا على الممارسات الزراعية القديمة قبل تصريفها في الخليج، مما دفع أنقرة إلى مضاعفة مطالبها بإصلاح العراق أولا.
وتتقدم تركيا نسبيا ببيانات دجلة ولكنها تكشف القليل عن نهر الفرات، لاسيما السؤال الحيوي عن كمية المياه التي ستحوّل إلى الري في ظل الممارسات الزراعية الجيدة. وتقول إن التحويل سيكون ضئيلا.
كما جادلت بأنه إذا كانت المياه مشتركة، فيجب أن يكون العراق أكثر مسؤولية معها وأن يقدم كفاءة أكبر.
ويشعر العراق بالقلق من إخباره بكيفية استخدام مياهه. وقال الحمداني “يسألوننا أحيانا لماذا يزرع العراق الأرز (الذي يستهلك الكثير من المياه). أسألهم لماذا تزرعون القطن؟ ويقولون إنها جزء من تاريخهم وحضارتهم. وأقول لهم نعم، لدينا أيضا تاريخنا وحضارتنا. وإذا واصلنا الحديث بهذه الطريقة، فلن نتوصل أبدا إلى اتفاق”.
صورة
عيناك مقياسك
وقرر الشيخ ثامر السعيدي أن الكيل قد فاض. فالجداول أصبحت جافة في قريته في جنوب العراق. وأصبحت العائلات اليائسة تتخلى عن مزارعها وتهاجر إلى المدينة بعد فشل المحاصيل.
ويسلط ما فعله بعد ذلك الضوء على الغضب المتزايد بين المزارعين في أعقاب موجات الجفاف المدمرة المتتالية ونقاط ضعف الحكومة العراقية التي تجعل إدارة المياه شبه مستحيلة.
وقال السعيدي لسلطات المياه المحلية في محافظة ذي قار إن أمامها “أسبوعا واحدا”. إما أن تمنح المزيد من الماء لمنطقته، قرية الدواية، وإلا فسيأخذ الأمر بين يديه.
ويتجاوز الولاء القبلي في جنوب العراق سلطة الحكومة. وكان على السعيدي، وهو زعيم قبلي، أن يضمن الماء لمحيطه للحفاظ على شرعيته.
وبمجرد أن نفد الوقت، سار السعيدي مع العشرات من أتباعه إلى منظم الري على ضفة النهر، مسلحين بأنبوب طويل ومجارف. وحفروا حتى تأمين ممر مائي إلى منطقته.
وقد اعتمد السعيدي على المصطلح العربي “عيناك هما مقياسك” للتأكد من أنه ترك ما يكفي من الماء للمجتمعات الأخرى.
وغضب زعماء القبائل المتنافسة خوفا على إمدادات المياه الخاصة بهم. وسارع المسؤولون الأمنيون إلى وقف التحويل. وخشي الكثيرون سيناريو المعارك بالأسلحة النارية إذا لم يحدث ذلك.
وقال غزوان كاظم رئيس مديرية الموارد المائية في ذي قار “كان عملا تدميريا. لنهر الغراف 154 بوابة لمناطق مختلفة. إذا فعل أي شخص أي شيء من هذا القبيل، فسيصبح توزيع المياه كما هو مصمم غير ممكن”.
لكن السلطات تواجه صعوبة أكبر في السيطرة على المعارك على المياه. ولا تفعل التهديدات برفع الدعاوى القضائية شيئا يذكر لمنع زعماء القبائل من تحويل مسار التدفقات أو حفر الآبار غير القانونية. وينطوي نشر قوات الأمن على خطر التصعيد.
وقال المسؤول بوزارة البيئة في بغداد عيسى الفياض “نحن نخشى اندلاع الصراع في وسط العراق وجنوبه بسبب نقص المياه”.
لعبة الأرقام
يقع سد إليسو على جانبي التلال في جنوب شرق تركيا، وهو بالنسبة إلى العراقيين تذكير صارخ بماض لا يمكن العودة إليه.
وقبل أن تبدأ تركيا تشغيل السد في مايو 2020، كانت جميع مياه نهر دجلة تتدفق إلى العراق.
ويقول مسؤولو وزارة المياه العراقية إن المعدل انخفض الآن إلى 36 في المئة فقط مما كان عليه قبل عقد بسبب قلة هطول الأمطار بالإضافة إلى تأثير السد.
ويُعتمد السد لتوليد الطاقة الكهرومائية وليس للري. لذلك، يجب في نهاية المطاف السماح بمرور المياه للتوربينات.
ولكن الكمية والفترة مسألة أخرى. ويجب أن يحافظ المسؤولون الأتراك على مستوى خزان أدنى يبلغ 500 متر فوق مستوى سطح البحر لإنتاج الكهرباء، حتى عندما يواجهون تدفقا أقل ولا يمكن التنبؤ به نحو الخزان.
ويجادل المسؤولون الأتراك بأن السد يمكّنهم من تنظيم التدفق لصالح العراق وتخزين المزيد أثناء الفيضانات والتفريغ أكثر أثناء الجفاف.
وتُظهر البيانات التي قدمتها المديرية العامة التركية للأشغال الهيدروليكية أن تركيا احترمت طلبا قدمه العراق بإطلاق ما لا يقل عن 300 متر مكعب في الثانية أسفل نهر دجلة خلال أشهر الصيف، عندما يكون النقص شائعا.
لكن المسؤولين العراقيين يقولون إن الاعتماد على مثل هذه الترتيبات الخاصة يجعل التخطيط صعبا.