لبنى الهاشمي
تشهد مجتمعاتنا في الآونة الأخيرة تحوّلات- وإن كانت على استحياء- في قناعات المجتمع الإسلامي، خاصة تجاه النساء وقضاياهنَّ، وأهمها محاولة محو صورة حرمان المرأة من حقوقها؛ لأن الحفاظ على حقوق المرأة هو المعيار الأول- وربما الوحيد- الذي نستطيع به أن نقيس النمط الصحي للتدين الوسطي المرتبط بالمعاني الإيجابيَّة للدين، وبمعايير التسامح التي تتجاوز ثقافة الهيمنة الذكوريَّة، والممارسات الاجتماعيَّة الرجعيَّة.
فإذا أردت أن تقيس مدى وسطيّة الأمة أو اعتدالها أو مدى تحضرها أو تنويرها، فانظر إلى مكانة المرأة في مجتمعها.
ومن أراد أن يمتلك البوصلة الأخلاقيَّة التي ترشده إلى الرأي الديني الأكثر رحمة واعتدالاً لا بدَّ أن تكون طريقة المعاملة تجاه المرأة قائمة على السماحة والاعتدال.
وإذا أردت أن تقيس التطرف والتشدد لدى الجماعات المسلمة أو لدى أدعياء الاعتدال، فلا بدَّ من مراقبة الخطاب الديني، ومدى ترسيخه لقيم احترام حقوق المرأة، وتحقيقه للعدالة والمساواة التي هي أسمى القيم الإنسانيَّة وأعلاها.
إن الجماعات التنظيميَّة المتشددة، أو المتطرفة، أو السلطة الدينيَّة القمعيَّة أو أدعياء الاعتدال الديني ليسوا مجرَّد مجموعات مارقة عن الدين فحسب، بل إنهم فصائل إرهابيَّة تنهج نهجاً منظماً، وتتخذ من الدين ستاراً يخفون وراءه الإساءة إلى الإسلام.
هل يمكن أن نتشجَّع ونتجرَّأ ونقول إن الخطاب الديني لا يزال خطاباً غاضباً على المرأة، بل مهدداً ومتوعداً، مهووساً بالتخويف والترويع بحجج واهية، حيث يوزع الاتهامات، ويصب اللعنات، ويتوسَّع في المحرَّمات، ويحاكم على النيات.
هذا يؤكد أن مهمة تجديد الخطاب الديني تجاه المرأة أصبحت ضرورة تتطلَّبها المرحلة، فقضايا المرأة ليست منعزلة عن جميع القضايا الأخرى، ولا بد من إعادة النظر في مشكلاتها الداخليَّة، ومحاربة الأسطورة والخرافة والرجعيَّة.
وليس ثمة شكّ أن سيادة الظلم والغُبن والقهر تجاه المرأة في أيِّ مكان في العالم؛ لا يجعلها قادرة على أن تحصل على الاستحقاقات الكاملة، ويعوق دورها في أن تكون العمود الفقري للوطن، وأن تُسهم بفاعليَّة في صنع الفارق الحقيقي لمسيرة التنمية المستدامة.
كما أن الخطاب الديني الجديد لا بدّ أن يراعي المساواة الكاملة، وألا يكون فيه مكان للازدواجيَّة أو الانتقائيَّة في المعايير والحقوق والواجبات، بل يعتمد على تطبيق القيم الإنسانيَّة والأخلاقيَّة الكبرى بشكل متساو ومتوازن.
ومن يتأمل صفحات التاريخ يفجعه ذلك الفكر الظلامي المتشدِّد الذي اتسم دوماً بالظلم والجور بحقِّ المرأة؛ مما تسبَّب مع الوقت في حالة من القلق والإضرار والاحتقان داخل المجتمعات، حيث بات هذا المناخ مجالاً خصباً للتطرُّف والتعصُّب والثورات، والانحدار الأخلاقي، بسب انتشار كلِّ الانتهاكات تجاه المرأة وحقوقها.
وإذا ما وجهنا الحديث إلى المرأة المسلمة المعاصرة، فإننا نشير إلى أن هناك ثلاثة انتهاكات متطرفة تعاني منها المرأة، وهي التهميش والتغييب والإذلال، وللأسف تطالها هذه الانتهاكات من الطائفتين، ويراد من ذلك تحجيم مكانتها الإنسانيَّة، وتقليص دورها في الفعل الحضاري!
وقد لاحظنا أن التنظيمات الإرهابيَّة التي تمارس القتل العشوائي والإعدام الجماعي واختطاف الآمنين الأبرياء من النساء والأطفال وترويعهم- داعش على سبيل المثال- كانت النساء في طليعة القتال ضدَّ داعش، كما كانت القوات النسائيَّة التي قاومت تقدم تنظيم “الدولة الإسلاميَّة” في شمال سوريا تسمى وحدات حماية المرأة.
كما لا يخفي ذلك النموذج الآخر من الانتهاكات، وهو الاضطهاد الديني الذي تعاني منه المرأة، والتغييب، وزيادة القيود القانونيَّة على حرياتها وحقوقها وتحركاتها، تطبيقاً للقراءت المتشددة من بعض الجماعات.
كما أن هناك نموذجاً أخيراً تمثله السلطة الدينيَّة القامعة للنساء، التي حرمتهن من كافة حقوقهنَّ، خاصة فيما يتعلَّق بالتعليم والدِّراسَة، وعدم استشعار المرأة بالاستقلاليَّة وبالتمكين، وكل ذلك بموجب تفسيرها المتشدِّد لأحكام الشريعة الإسلاميَّة.
إن كل هذه النماذج الكابتة للمرأة لا تتفق مع معايير ديننا الإسلامي، كما ترفضها ثقافة الأمة لاصطدامها مع منظومة العقيدة، وتعتبر من الموروثات السلبيَّة التي قلَّلت من شأن المرأة، وأخضعتها للتمييز في إطار ثقافة غير عادلة، وهي نماذج تتعارض مع كل القيم والمبادئ التي لا تمتُّ إلى الدين بصلة، كما أنها تخالف نهج الوسطيَّة في الدين والتعايش السلمي بين كافة الشعوب.
إننا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني؛ ليكون خطاباً يحتضن الإنسان لكونه إنساناً مكرماً من الخالق عزّ وجلّ، خطاباً ينبذ العنف تجاه نصف المجتمع، ويدعو إلى الشراكة الإنسانيَّة لكلا الجنسين، وحقهما معً ًفي العيش على هذه الأرض.
فعلى عاتق الخطاب الديني المتجدد تُلقى مسؤوليَّة إنتاج وعي ديني مجتمعي، يزيل معوقات التقدم والمدنيَّة، ويرفع من جاهزيَّة المرأة للمرحلة المقبلة، ويشحن طاقاتها في ميادين البناء والتنمية والإنتاج والابتكار والإبداع، وخدمة الوطن، ويقدم صورة حضاريَّة جاذبة للإسلام.
إننا نريد خطاباً دينياً جديداً يقرِّب ولا يباعد، يجمع ولا يفرّق، وإننا نعلم أن العقبات والمعوقات تحوط الخطاب الديني الحالي؛ لكونه خطاباً غير متصالح مع المرأة، نريد خطاباً يعترف بالجزء الآخر من ثقلنا الإنساني، يسعدنا ولا يشقينا، خطاباً يوسع دائرة المباحات والطَّيِّبَات، ويستجيب لمتغيرات العصر ومتطلباته، يرفع الحرج والعنت عن المرأة المسلمة، يشيع روح التسامح والأمل، نريد خطاباً يُبشِّر المؤمنين والمؤمنات، خطاباً يحمل رحمة ونوراً وهداية للعالمين.
نقلاً عن موقع “24”