كريتر نت – متابعات
يلقي المسؤولون المصريون بالمسؤولية في الكثير من متاعب البلاد الاقتصادية على النمو السكاني، وذلك منذ أن كان عدد سكان البلاد لا يتجاوز 20 مليون نسمة، بينما يبلغ عدد السكان الحالي نحو 100 مليون نسمة. ما يعني أن تقديرات المشكلة كانت خاطئة منذ البداية.
وجدّد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الشكوى، لدى افتتاح مدينة المنصورة الجديدة في محافظة الدقهلية مؤخرا، من أن الزيادة السكانية في مصر تهدد موارد البلاد، ولاسيما منها الموارد المائية التي يبلغ حصة الفرد منها 500 متر مكعب سنويا.
ويتوفّر لمصر 55.5 مليار متر مكعب سنويا من مياه النيل. بينما يقدر إجمالي احتياجات البلاد بنحو 114 مليار متر مكعب. ما يعكس مشكلة حقيقية، إذا ما وضعت بمفردها في مقابل النمو السكاني. وهي تحتل مرتبة متوسطة بين دول العالم من حيث نسبة النمو السكاني. ولكنها تحتل مرتبة متدنية من ناحية مستوى الفائدة من عدد السكان، ما يعكس اختلالا غير منظور في الإحصائيات العامة التي تنظر إلى عدد السكان كمصدر للاستهلاك العام، دون النظر إليه كمصدر للإنتاج العام.
وتبدو الأرقام التي تقدمها بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء مخيفة. وهي تتوقع، وفقا لمعدلات الإنجاب الحالية، أن يصل عدد السكان عام 2032 إلى 124 مليونا في حالة ثبات معدل الإنجاب عند 2.9 مولود لكل سيدة. وما تتطلع إليه السلطات المصرية هو أن يتراجع معدل الإنجاب إلى 1.6 مولود لكل سيدة عام 2032 لكي يصل عدد السكان إلى حوالي 117 مليونا في ذلك العام.
ومن الناحية الرقمية، لو جاءت جائحة وأخذت عشرين مليونا فإن كمبيوترات الجهاز المركزي للإحصاء ستكون أسعد حالا. فذلك سوف يوفر 10 مليارات متر مكعب من الماء سنويا.
حقائق غير منظورة
مصر تحتل مرتبة متوسطة بين دول العالم من حيث نسبة النمو السكاني.وتحتل مرتبة متدنية بالفائدة من عدد السكان
القضايا السكانية يصعب أن تؤخذ بهذا النمط من المعايير. لأنها تعيد البشرية إلى النظرية المالتوسية التي تقول إن التراكم السكاني ينمو بأرقام “أُسيّة” (مضاعفة) بينما تنمو الموارد المعيشية (الغذاء، الماء…) بأرقام “خطيّة” (فردية)، ما يتطلب “تصحيحا” عن طريق الحروب والمجاعات والجوائح.
أما الحقيقة غير المنظورة فهي أن إنتاجية العامل المصري لا تتعدى 15 ألف دولار سنويا، بينما هي في البلدان ذات الكثافة السكانية مثل جنوب أفريقيا تبلغ 18539 دولارا، في حين أنها تبلغ في ماليزيا 23250 دولارا.
وهذا يعني أن المشكلة ليست في عدد السكان نفسه، أو حتى في التوزيع الجغرافي للسكان، وإنما في إنتاجية هذا العدد، أو في قيمة ما يقدمه لحساب الناتج الإجمالي للبلاد.
ومن المعروف أن معدلات الإنتاجية العالية تتيح موارد إضافية قادرة على تعويض النقص في الموارد الأخرى، بما في ذلك توفير موارد مائية إضافية، ليس عن طريق تحسين وسائل الاستهلاك، رغم أهميتها، وإنما عبر توفير التمويلات لزيادة مصادر المياه، سواء عن طريق مشاريع التحلية أو من خلال مشاريع نقل المياه من مصادر أخرى أو عن طريق الاستثمار الزراعي في البلدان المجاورة الغنية بالمياه، ما يقلل من مستويات الاستهلاك المحلية.
وكانت مصر أعلنت في سبتمبر الماضي عن ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي خلال العام المالي 2021 – 2022 إلى 7.9 تريليون جنيه (أو ما يعادل 415 مليار دولار). وهو ناتج قريب مما حققته جنوب أفريقيا (419 مليار دولار) التي يبلغ مجموع الأيدي العاملة فيها 22.6 مليون نسمة، 34 في المئة منهم عاطلون عن العمل. ولو أمكن تقسيم هذا الناتج الإجمالي على عدد العاملين فقط، فإن إنتاجية العامل الجنوب أفريقي ستزيد بنحو الثلث.
ووفق النشرة السنوية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ تقدير قوة العمل في السوق المصرية نحو 29.358 مليون شخص خلال عام 2021. وتراجعت نسبة البطالة إلى 7.4 في المئة مقابل 14 في المئة عام 2014. أي أن القوة العاملة الفعلية تبلغ 27 مليونا. ولكن العائد منها ظل محدودا قياسا بالعائد الذي تحققه القوة العاملة في بلدان أخرى.
نجاح الثورة الإنتاجية في الصين، بعد أن بلغ عدد مواطنيها نحو مليار ونصف المليار نسمة، دفع السلطات إلى تخفيف القيود السابقة عن الولادات، وأصبحت زيادة عدد السكان مطلوبة
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن متطلبات السكان في مختلف أرجاء العالم تقترب من بعضها البعض، من قبيل استخدام أجهزة الهاتف المحمول والأجهزة الإلكترونية والكهربائية الأخرى، وتعني استهلاكا أعلى، فإن إنتاجية تبلغ 15 ألف دولار للعامل الواحد لا تغطي تكاليف أسرته، بينما تنحسر الأسر الأخرى إلى مهاوي الفقر والحرمان.
وهناك قاعدة تنطبق على مصر مثلما تنطبق على كل البلدان التي تفتقر إلى نظام اقتصادي متوازن. وهي أن الانسان إما أن يعمل، أو ينحدر إلى الفقر أو إلى ما دونه.
وتساهم أنظمة التوظيف الحكومية المزيفة في تشكيل فجوة خطيرة ليس في عائدات العمل فحسب، وإنما أيضا في قيمته من وجهة نظر الذين يحتاجون إليه.
وقد قال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في تقرير صدر عام 2016 “إن الإنفاق الحكومي على رواتب العاملين في الدولة بلغ 70 مليار جنيه سنويا بما يعادل ربع الموازنة العامة للدولة يتقاضاها 6 ملايين في الجهاز الإداري و42 ألف مؤقت و953 مستشاراً يعملون 20 دقيقة يوميا من إجمالي 8 ساعات عمل، مما أدى إلى تراجع إنتاجية العامل المصري إلى المرتبة 130 على مستوى العالم”.
وهذا الواقع لم يتغير كثيرا في السنوات اللاحقة. ورغم أن الدعاية الحكومية غالبا ما حاولت أن تعطي انطباعات أخرى، إلا أن مقارنة الناتج الإجمالي بعدد العاملين الذين يتكفلون بإنتاجه، ظلت تكفي للكشف عن الحقيقة.
الموارد والسكّان
تقول دراسة أصدرها “المنتدى الإستراتيجي للسياسات العامة ودراسات التنمية” مؤخرا إنه في ضوء بيانات البنك الدولي بلغ معدل النمو الاقتصادي في عام 2020 نحو 5.6 في المئة، وتراجع في عام 2021 ليصل إلى 3.6 في المئة. ورغم توقّع الحكومة المصرية تحقيق معدل نمو اقتصادي يصل إلى 5.5 في المئة خلال العام المالي 2022 – 2023، علما بأن النمو بلغ نحو 6.6 في المئة حسب آخر بيانات وزارة التخطيط، إلا أن النمو الاقتصادي لا يزال غير كاف لمواكبة النمو السكاني ويُعد بعيدا عن النسبة المطلوبة كي يناسب الزيادة السكانية، الأمر الذي يصعب معه شعور المواطن المصري بتحسن الوضع رغم جهود الدولة الكبيرة لتحقيق تنمية اقتصادية تُسهم في تخفيف العبء عن المواطن وتوفير حياة كريمة له.
وعندما بلغ الأمر تقديم توصيات لصانع القرار اقترحت الدراسة إجراءات من قبيل “إنشاء وزارة للسكان تكون معنية بضبط أداء النمو السكاني وتحسين الخصائص السكانية للمصريين، ووضع إستراتيجية عاجلة ومُوحدة قابلة للتطبيق لضبط معدلات النمو السكاني والاهتمام بخفض معدل الزيادة السكانية كهدف قومي تتعاون كافة أجهزة الدولة في تحقيقه، وإحداث عملية خلخلة سكانية واقعية وحقيقية لإنهاء تكدس السكان حول وادي النيل ودلتاه والانتقال إلى المدن والعواصم الجديدة التي أقامتها الدولة في الأعوام الأخيرة”.
هذه المقترحات تندرج أساسا في إطار ينظر إلى المشكلة السكانية من ناحية أنها “زيادة عدد”، وهي رؤية تستهدف صرف نظر صانع القرار عن الوجه الأهم للمشكلة. وغاب عن الملاحظ أن إجراءات من قبيل “الخلخلة” السكانية لا تترك أثرا كبيرا على الناتج الإجمالي، ولا ترفع مستوى العائدات الإنتاجية، التي هي في قلب المشكلة.
لقد واجهت الصين أزمة تضخم سكانية، قبل مطلع الثورة الإنتاجية التي أحدثها الرئيس الراحل جيانغ زيمين في مطلع التسعينات من القرن الماضي. إلا أنه بعد نجاح هذه الثورة، وبعد أن بلغ عدد المواطنين في الصين نحو مليار ونصف المليار نسمة، اضطرت السلطات إلى تخفيف القيود السابقة عن الولادات، وأصبحت زيادة عدد السكان مطلوبة، بدلا من خفضه. وذلك بسبب الحاجة إلى المزيد من الأيدي العاملة الشابة، وإلى أجيال جديدة لتمويل صندوق التقاعد للجيل السابق.
والقاعدة بسيطة، وهي أنه عندما يبلغ جيل العاملين الحالي سن التقاعد يتعين أن يخلي مكانه لجيل قادر على إبقاء عجلات الإنتاج تدور، ويوفر تكاليف تقاعد الجيل الذي سبقه.
أما وقف الولادات فيعني حل مشكلة الاستهلاك اليوم، مقابل خلق مشكلتين أكبر في المستقبل.
الموارد الطبيعية للصين لم تتغير كثيرا. ولكن الإنتاجية هي التي تغيرت. ومع ارتفاع العائدات أصبحت الموارد المتاحة للتطوير أعلى مما كانت عليه. الصين اليوم هي القوة الاقتصادية العظمى الثانية في العالم، بناتج إجمالي يبلغ 18 تريليون دولار سنويا.
ولا تزال الولايات المتحدة تحتل موقع القوة الاقتصادية العظمى، ولكن ليس فقط بناتج إجمالي أعلى يبلغ نحو 23 تريليون دولار فحسب، وإنما أيضا بعدد سكان أقل يبلغ نحو 330 مليون نسمة، وهو ما يعني أن قيمة إنتاجية العامل الأميركي أكثر من خمسة أضعاف قيمة إنتاجية العامل الصيني.
الشيء غير المنظور في إستراتيجية التنمية في مصر يكمن في عامل الإنتاجية. فالعامل الذي لا يقدم عائدا يساوي ما يستهلكه هو، وكلفة تقاعد شخص آخر، يتحول إلى عجز فعلي يتطلب تمويلات وديونا جديدة لتجسير الهوة فيه. وهو ما يحصل الآن في مصر.
مشاريع بلا عائدات
لقد أنفقت مصر أموالا طائلة في مشاريع إعمار لبناء مدن جديدة وطرق وجسور، شملت بناء 30 مدينة جديدة بمساحة 580 ألف فدان، وبإجمالي استثمارات بلغ 690 مليار جنيه (نحو 36 مليار دولار) كان يمكن توظيفها في مجالات إنتاجية تحقق عائدات، هي التي تنهض بأعمال الإعمار، وليس العكس؛ أي أن تُنفق المال على ما يحقق عائدا دائما، أولا، ثم تستثمر ما يتحقق من العائد في أعمال البناء. فسلكت مصر الطريق بالمقلوب.
على مدى العقد الماضي حصلت مصر على تمويلات سهلة بعشرات المليارات. وتحول بعضها إلى هبات، ما وفر الإيحاء بأنه يمكن الحصول على المزيد منها مجانا، أو بتكاليف محدودة. ولكن بعضها كان ديونا تحولت خدمتها إلى عبء جسيم، صار يتطلب ديونا إضافية، وذلك من قبل أن تُثمر تلك المليارات قرشا من العائدات.
لا شك أن مشاريع الإعمار كانت مفيدة لجهة تشغيل نحو خمسة ملايين عامل إضافي، هم الفرق بين 14 في المئة بطالة عام 2014، و7.4 في المئة بطالة الآن، ولكن بينما يمكن للمشاريع الإنتاجية أن تستمر وتتطور لعشرات الأعوام، فإن مشاريع الإعمار التي تمتص البطالة اليوم تعيد خلقها غدا، إذا لم تجد ما تقوم بإعماره أو إذا لم تجد التمويلات الكافية لها.
وكان الرئيس السيسي على حق تماما عندما قال في إحدى الندوات العامة إنه يتطلع إلى أن يبلغ الناتج الإجمالي لمصر تريليون دولار. وهذا الرقم يعني أن إنتاجية 27 مليون عامل يجب أن تبلغ 37 ألف دولار سنويا. هذا الرقم سوف يكفل توفير موارد غذائية ومائية أفضل، فضلا عن أنه سوف يوفر قاعدة لتمويل تقاعد جيل العاملين السابق، فلا يعود انقضاء سنوات العمل موعدا مع الحرمان.
الوقت لم يتأخر كثيرا على مصر لكي تعود فتلتفت إلى ما فات. والأموال التي أتيحت لم تذهب هباء بالضرورة. وهي جعلت مصر تبدو كمن يبدأ الركض قبل أن يتعلم المشي. ولكن ما لم يتم استغلال كل الموارد المتاحة للبدء بمشاريع إنتاجية، وتطوير الموجود منها، وفتح الأسواق لها، ورفع مستوى العائد منها بما لا يقل عن ضعف العائد الراهن، فإن مشاريع الإعمار سوف تحتفظ بفائدتها، ولكن التاريخية فقط، كآثار رائعة لسواح الألفية المقبلة.