محمد محجوب
مفكر تونسي
فكرة هذا المقال هي أنّ الفلسفة تقُوم وتستقرّ بموجب ضرب من التّعالي على اليومي: رفعاً لكثرته إلى وحدة مثالية (سقراط في المحاورات)، أو تكذيباً لدعواه باسم جوهرية ما (أفلاطون وأرسطو) أو تمثّلاً له وفق شبكة رياضية أو فيزيائية (ديكارت ضمن كتاب أهواء االنفس)، أو استكناهاً لحقيقته ضد مظهره البادي والمباشر (ماركس – فرويد)، أو تأويلاً لمعناه الذي لا ينتهي (التأويليات بمختلف تلويناتها). إنّ كلّ هذه المواقف تحدّد الفلسفة على أنها “ماوراء” اليومي (méta-quotidien)، وتضع علامة تحقّقها في مغادرة هذا المظهر، أو هذه العبارة التي هي اليومي، نحو ضرب من الأساس هو تحديداً هذا الماوراء.
ثمة إذاً ضرب من الصّراع الصّامت بين جزئية اليومي، ومباشريته، ومغالِطيّته، وبين جوهريّة الفلسفة، وكلّيتها، وتفسيريّتها أو تأويليّتها.
وفي هذا الصّراع، مثلما هو الشّأن في كلّ صراع، ثمّة ضربان من الخطاب: أحدهما خطاب ظاهر، مهيمن، هو خطاب الفلسفة، والثاني خطاب لا يقبل الانسحاب تماماً، ويعبر عنه نفسه تعبيراً عرضياً، هو نوع من الحضور الذي يغالط هيمنةَ القول الفلسفي، ويتسلّل تسللاً إلى السطح، ويتحيل تحيلاً على رقابة المفهوم (censure du concept).
على أنه حتى في هذه الصورة، وحتى عندما يراوغ اليوميُّ الفلسفيَّ، ليحضر إلى المشهد، فإنه لا يتمكن من تسجيل حضوره إلا بضرب من الفلسفة الثانية، الفلسفة الأخرى، التي تقتص له من إرادة نسيانه وكبته، وتتولى التعبير عنه كحالة من حالات حدود الفلسفة: هذا الخطاب الثاني هو مقصود هذا المقال تمثيلياً، أعني من خلال تقديم مثال أو مثالين، تبدو فيه الفلسفة وكأنما تعدّل نفسها، باعترافها بهذا المكبوت،
بهذا المنسي التقليدي الذي نسميه اليوم اليومي، أو بساطة اليومي، ولكنه يمكننا دون حرج أن نسميه “الواقع”، أو “تجربة الوجود البسيطة”، إلخ. هذا المعنى هو الذي نقصده كلما تحدثنا عن الفلسفة الثانية.
ليست الفلسفة الثانية مذهباً فلسفياً، ولا موقفاً جديداً ذا مضمون معين، وإنما هي منهجياً إيماءات عديدة يمكن أن نذكر منها إيماءات التكذيب، والاستدراك، والتذكير، والتحيين، والتحييث .. وكل ذلك يتعلق باليومي الذي باسمه يتم رفع هذه الإيماءات جميعاً.
مهمة الفلسفة قد تحددت دوماً في عدم التهرب من الأسئلة.
ولكن الحرج يكون حقيقياً عندما يعمد الناطقون باسمها إلى التخفي وراء ضرب من “الإلغازية” العامة
ولما كنت في الوقت الحاضر لا أريد صياغة موقف كلي عام، فإني أقترح أن تكون سبيلنا سبيل التمثيل بأمثلة يمكن لاحقاً استجماع دروسها.
المثال الأول: التوحيدي ومسكويه. وهنا أستأنف، مع بعض التعديلات نصاً سابقاً لعل بعضكم يتذكره أو يتذكر بعض أجزائه:
كتاب الهوامل والشوامل كتاب اشترك فيه أبو حيان التوحيدي (923-(1023) ومسكويه (932-1030) وهو كتاب احتوى أسئلة من التوحيدي سماها “الهوامل”، إلى مسكويه الذي أجاب عنها في ما سماه التوحيدي نفسه: “الشوامل”.
ذهب بعضهم في تأويله إلى أنّ التوحيدي أراد بأسئلته أن يحرج مسكويه في ضرب من امتحان معرفته الفلسفية، تلك المعرفة التي سيقول عنها في الليلة الثانية من الإمتاع والمؤانسة إنها معرفة متأخرة لكون صاحبها انشغل عنها طويلاً بالكيمياء، فلما جاء إلى الفلسفة لم يكن إلا شادياً (محاكياً ومقلّداً وآخذاً بالأطراف)، وذهب البعض الآخر (أركون مثلاً) إلى أنّ الكتاب قد جمع بين أسئلة الوجدان الثائرة والملحّة والمعاندة، وبين برود الحكمة و”موضوعيتها” ومدرسيتها. لقد كان التوحيدي مفكر الاستنكار والإحراج والتحدّي واستهجان كل البداهات، كان مفكر مأساة اليومي الذي يطاول العبثي دونما خجل ولا توقير، ولا يتخلف عن أي فرصة تتيحها له الأسئلة ليتسلل إلى السطح، فيفضح سكوت العقل البارد عن مظالم الحياة، وقيام العلم على ضرب من تهميش العيان، وازدراء اليومي، وإعلاء العبرة المجردة.
ليس هذا مجالاً للتوسع في تأويل لقاء التوحيدي بمسكويه، ولا في رسم ملامح شخصية كل منهما. وقد كنت كتبت عن هذا الكتاب ما سينشر قريباً في مناقشة مفهوم الـ” Humanisme arabe” الذي ترجمه هاشم صالح، في 1997، ترجمة ركيكة، غير فاهمة أصلاً، بعبارة “الأنسنة العربية”، لأنه، قبل ذلك، قام على تمثل أركوني مبتور وفضفاض للمفهوم الغربي.
إنّ حدسنا الرئيسي ضمن هذا المقال “المضغوط” هو أننا مع جدل التوحيدي ومسكويه، هذا الجدل الذي ذهب أركون إلى حد التلميح، ولكنه تلميح لا يقوم على حجة، بأنه قد يكون محاكاة للمحاورة الأفلاطونية، أننا بمحضر جدل بين تقليد سقراطي ضمن الثقافة العربية، وتقليد أفلاطوني أرسطي: سنكتفي هنا بأن نخصص التقليد السقراطي بكونه تقليداً غير نسقي، لا ينتمي بعد إلى تقاليد الفلسفة النسقية، بل هو أقرب إلى ضرب من “الإيثيقا الجدلية” كما سيقول غادامير، في حين نخصص التقليد الأفلاطوني الأرسطي بكونه تقليد الفلسفة النسقية التي تتحدد كل أجزائها بحسب مبدأ يتحكم فيها وتكون هي مستنتجة منه.
وحدسُنا أنّ التوحيدي هو الذي يمثّل هذا التقليد السقراطي الذي تنخرط ضمنه وجوه فلسفية سنأتي إلى الكشف عنها لاحقاً، وأنّ مسكويه هو الذي يمثل التقليد الأفلاطوني الأرسطي، أعني تقليد الرفع (sublimation) الفلسفي لليومي ضمن المفهوم.
إنّ أسئلة التوحيدي صادرة عن نفس ثائرة لا تتردد في رفع التناقضات وفضحها وكشف تفاصيلها، وفي تسمية الشر شراً من غير مداورة، فليس من ذلك في حد ذاته حرج أمام الفلسفة. فمهمة الفلسفة قد تحددت دوماً في عدم التهرب من الأسئلة. ولكن الحرج يكون حقيقياً عندما يعمد الناطقون باسمها إلى التخفي وراء ضرب من “الإلغازية” العامة التي تعمد كما قال ميرلوبونتي، محيلاً في التقريظ على برغسون، إلى إعلاء “الحكمة الإلهية التي تجعل من الشرِّ خيراً أدنى”.
إننا هاهنا أمام إشكالية مركزية في الفلسفة: هي إشكالية العدل، الذي ليس فقط عدل مجازاة الأفعال على قدر الإذاية، وليس إنصاف الناس بحقوقهم، وإنما هو الصورة النموذجية للعدل، أعني العدل الإلهي، أعني عدالة الإعطاء مقابلاً للفضيلة، والحرمان مقابلاً للنقص.
نحن نعرف جيداً أنّ هذا المبحث مبحث تقليدي، وأنّ هذا السؤال لم يُثر فقط بين التوحيدي ومسكويه، إنه سؤال العدل لدى فيلسوف لم يقبل حتى أن يستمع إلى صرخة محاوره التي لا تخفى وجاهتها على أي عقل.
قال التوحيدي في المسألة 88 من الهوامل والشّوامل مخاطباً صديقه مسكويه الفيلسوف ما نختصره في هذا المقطع:
“حدِّثني عن مسألة هي ملكة المسائل والجواب عنها أمير الأجوبة، وهي الشّجا في الحَلق، والقَذى في العين، والغُصّة في الصَّدر، والوقْر على الظَّهْر، والسُّلُّ في الجسم، والحسرةُ في النفس … (وهذه المسألة) هي حرمانُ الفاضل وإدراكُ الناقص؛ ولهذا المعنى خَلع ابن الراوندي رِبْقة الدّين وقال أبو سعيد الحصيري بالشّك، وأَلْحَد “فلان” في الإسلام، وارتاب فلان في الحكمة…”
ويضرب التوحيدي مثال أبي عيسى الوراق، منتهياً إلى أن “البحث في هذا السرّ واجب، فإنه باب إلى روْح القلب وسلامة الصدر، وصحّة العقل ..”
ويعلّق محمد أركون على هذا المقطع تحديداً بأنه يحمل جرأة التوحيدي، وبحثه اللامحدود عن فائض روح وفائض حقيقة.
ولكن جرأة التوحيدي في رأينا لا تقف عند هذا الحد: إنها تتمثل خاصة في تأهيل الموضوعات اليومية لتكون موضوعات تأمل فلسفي: لذلك لا يمكن أن نهمل سؤاله مثلاً عن استنكار بعضهم انتقال الإنسان من مذهب إلى مذهب، بل واستقراره في حال من عموم عدم الحقيقة واليقين، ولا يمكن أن نهمل سؤاله (في المسألة 82) عن الحكمة من اعتبار الناس من جهة متساوين في الشرف مع أنهم من جهة ثانية متباينون: أليس يلجئنا هذا التباين إلى الاعتراف بأنهم إما مقهورون أو جهلة؟ ولا يمكن أن نتغافل عن سؤاله (المسألة 142): لم صار الحظْر يثقل على الإنسان؟ أو عن سؤاله (المسألة 65) عما يدفع الإنسان إلى قتل نفسه بسبب الإخفاق أو الحاجة والعجز أو عدم مؤاتاة ما يجِدُ لما يطلب ..
إنّ الفلسفة لا تعي نفسها جوهرياً كفلسفة أشياء. … بل هي لا تعي نفسها كذلك إلا في معنى ثانٍ لعله من بين مقصودات ما أسميه “فلسفة ثانية”
كل تلك أسئلة لا تنطلق من كتب الفلاسفة، وليس من عادتهم الخوض فيها.
إن ما يجدّ مع أبي حيان هو دخول الوعي اليومي إلى أسئلة الفلسفة على نحو محرج، مستنكِر: هي أسئلة محرجة للملّة، وللأخلاق، ولكنها خاصة محرجة للفلسفة، لأنها غير تقليدية فيها. لقد ترسّخت الفلسفة على أن تجيب عن أسئلتها؛ وهي لم تتعود بعد أن تجيب عن أسئلة لا هي تستطيع أن تنكر إمكانها، ولا هي تستطيع أن تجيب عنها إلا بمداورات كبرى.
إنّ هذه المداورات هي التي نريد أن نجرّبها على المسألة 88 التي تطرح قضية العدل كإنصاف، تفترض أنه مطلوب بحسب معيار استحقاق هو الفضيلة: كيف يمكن أن يكون الفاضل محروماً؟ والناقص مدركاً مبسوطاً؟
إنّ الاضطلاع الفلسفي الذي ننتظر أن يكون من شأن مسكويه اضطلاع مخيب للانتظار: فهو أولاً يحيل على “الكلال” و”السآمة” من كل خوض فيها. وهو ثانياً يعتذر بأنه لا يعرف في هذه المسألة “كلاماً مبسوطاً” لمن سبق من المتقدمين.
وعندما يمر مسكويه إلى جواب المسألة فإنه يحيل على ما تشترك فيه الموجودات من ترتيب كل منها وفق غاية وكمال، لينتهي إلى الإنسان ليست غاية وجوده “الاستكثار من القنية والتمتع بالمآكل والمشارب”، وإنما غايته تحصيل العلوم والمعارف، وإعمال الرّويّة والفكر واختيار الأفضل، أي ما تكمل به صورة الإنسانية لبلوغ المنازل الشريفة التي لا يباح بها لغير أهلها.
مما يجعل القُنيات التي شخّص التوحيدي حالة الحرمان في عدم تحصيلها لا تكون من جوهر الغاية التي لأجلها كوّن الإنسان.
إن إجابة مسكويه تبرر إذاً حرمان الفاضل بكون ما يطلبه ليس من شأنه، وإدراك الناقص بكون ما يحصله هو من طبيعته وجوهره المخصوص.
لا حاجة بي إلى أن أستقرئ مدى اقتناع التوحيدي بجواب مسكويه. هل العدالة أن لا ينال الإنسان بحسب ما يستحق؟ وإذا كان الاستكثار من القنيات والتمتع بالمآكل والمشارب خارجاً عن جوهر الإنسان فلم جعل الله جزاء الآخرة يكاد ينحصر فيها.
تلك أسئلة لا يطرحها التوحيدي لأنّ الهوامل والشّوامل كتاب أسئلة وأجوبة وليس، كما ظن أركون، شبيهاً بحوار من الحوارات السقراطية التي تقفز فيها الأسئلة ضد الأجوبة وضد أجوبة الأجوبة.
إننا هاهنا داخل بنية فلسفة تقوم على الإجابة المبكّتة لا على استئناف السؤال.
ربّ عدالة يراد لنا أن نستأنف بها أنفسنا، جوهرُ رسالتها أنّ الذين يملكون إنما شأنهم أن يملكوا، وأنّ الذين لا يملكون إنما أجرهم على الله. لا أعرف إن كانت هذه الأجوبة ترضي الجموع المحرومة والشباب الهادر يومياً، هذا الشباب الذي بات يومُه حارقاً فأجبناه بفلسفة محروقة.
سأعود إلى مسكويه: لقد اجتهد أركون في أن يستنبت في الهوامل والشوامل تياري منزع إنساني عربي يمكن الرجوع إليه استئنافا لأنفسنا: لم ير أركون أنّ المنزع الإنساني لم يكن منزعاً يتقاسمه مسكويه والتوحيدي.
فقد كان التوحيدي يمثل اليوم المفعم بالأسئلة، والوعي المعترض على كل ما لا ينضبط إلى العقل السليم. أما مسكويه فلم يكن يرى أبعد من حكمة الخير الكلي التي لا شيء يمنعها من أن تتجاوز مشهد شر الحيثيات الصغيرة باسم ذلك الخير الكلي: تلك الحيثيات الصغيرة التي تحمل فاقد الأمل على أن ينتحر، والفاضل على أن يتحمل “الكسيْرة اليابسة والبقيْلة الذاوية، والقميص المرقع، وباقليّ درب الحاجب، وسَذَاب درب الروّاسين” (الإمتاع، الليلة 40).
وبعد فما هو المنزع الإنساني؟ لنفهم مرة واحدة أنه ليس فقط منزع السؤال عن الإنسان (وحتى هذا فقد برع فيه التوحيدي ولم يبرع فيه مسكويه: الهوامل والشوامل، 68)، وإنما هو القرار الفلسفي الحاسم بأنّ الإنسان هو الذي يتمثل العالم ويريده ويحدد القيم فيه، لأنه هو مركزه.
لن نذهب إلى أية حداثة حضارية ولا سياسية ولا اجتماعية ولا ثقافية، لن نذهب إلى كل ذلك بفلسفة تبرر ما يوجد باسم عدالة عليا، وخير كلي، وطبيعة مرسومة في الأشياء والموجودات. سنذهب إلى تلك الحداثة وإلى تلك المركزية الإنسانية بإحراج تلك العدالة العليا، وإقلاق ذلك الخير الكلي، وزحزحة ذلك المعنى الجاثم، أعني باستنباتها في الإنسان بعد أن طال مقامها خارجه. مثل تلك الأسئلة هي التي طرحها أبو حيان ولم يطرحها مسكويه الذي كان مشغولاً فقط بإطفاء الحرائق.
… “عاتب برمانيدس سقراط على تردده في أن يجعل لكل شيء مثالاً بما في ذلك الشعرة والقمامة والطين، فقال: ذلك أنك ماتزال شاباً يا سقراط، ولم تتمكّن منك الفلسفة بعدُ مثلما أحسَب أنها ستفعلُ يوماً ما، حين لن تستخف بأيٍّ من هذه الأشياء. وأما الآن فأراك، بسبب سنك، كثير التّوقير لآراء الناس…” (برمانيدس، 130 ه).
ما الذي يجعل شيئاً ما فلسفياً؟ ما الحدُّ الفاصل بين “فلسفيّة” هذا الشيء و”لافلسفية” هذا الشيء الآخر؟ هل يمكن أن نعين للفلسفة موضوعات تكون بحسب طبيعتها منتمية إليها، وموضوعات أخرى تستبعدها الفلسفة ولا تعترف بها ولا تتناولها؟
للفلسفة، أعني للميتافيزيقا التي هي الاسم الآخر لها، موضوعاتُها التّقليدية. حدّدها الفلاسفة منذ نطق ما قبل السّقراطيين بعبارات الأيناي، واللّوغوس، والنّوس، والبسوكي، والكوسموس… ثم جعلها أفلاطون وأرسطو موضوعات غرضية للتفكير.
لا يتعلق الأمر إذاً بأن ننكر على الفلسفة موضوعاتها التقليدية، ولكنه لا يتعلق كذلك بأن نعاود سرد مقالاتها، أعني مقالات الفلاسفة حول هذه الموضوعات التقليدية.
ما نود الخوض فيه عوضاً من ذلك هو تلك الحصاة التي حمَلتها أولى رشقات انتفاضة المقهورين في مظلمة التاريخ الحديث على الأرض المقدسة في فلسطين، والتي حملت رمزية الغنم والخسران الفرديين في ألعاب الصبية الذين كنا، والتي لم تلتفت إليها الفلسفة دائماً بعد أن دسّها التحليل النفسي في خزان اللاشعور، والتي روى بعضهم أنّ هيغل نظر إلى أكداسها متراكمة في جبال الألب مستعظماً تلك الجبال ومطمئناً نفسه بأنّها لا تمثل أي غنم للنظران الجدلي.
ولكنّ هيغل عاد في الاستتيقا ليرى في الدوائر التي يحدثها الطفل برميها في الماء عملاً له يجد فيه انعكاساً لنفسه وإعادة إنشاء لها، تماماً كما عاد مرلوبونتي في تقريظ الحكمة إلى الاستدراك من خلال برغسون بأننا لئن لم نكن تلك الحصاة، فإنها “حين نراها توقظ في جهازنا الإدراكي أصداء، فينكشف إدراكنا إلى نفسه كسليل من تلك الحصاة، أو كترقّ منه إلى الوجود لذاته، وكاستنقاذ منا لذلك الشيء الأخرس الذي ما أن يدخل علينا حياتنا حتى يشرع في نشر وجوده الضمني، ذلك الشيء الأخرس الذي ينكشف إلى نفسه عبرنا نحن”.
فإذا بهذا “الذي كنّا مطابقةً ظننّاه، معايشةً وجدناه”.
نريد إذاً أن نتحدث عن الحصاة. لا عن الحصاة بعينها، وإنما عنها بوصفها براديغما المهمل في الفلسفة، وأنموذج اليومي الذي تحددت الفلسفة دائما بالقطيعة معه. ونريد في مقابل ذلك التفلسف في هذا المهمل المنسي، واستدراكه إلى الفلسفي برفعه إلى منهج التأمل والاعتبار الفلسفيين.
سأعتبر الفلسفة لا من جهة ما هي خطاب عن المهمل يُستخلص مما قد يكون قاله الفلاسفة هنا أو هناك، في هذا الركن أو في هذا المنعطف من جملة من جملهم أو من فقرة من فقراتهم، وإنما من جهة ما هي إيماءة وأسلوب.
وسأبحث عن معاودة ذلك الأسلوب خارج الموضوع الذي اشتغل عليه. ما سأعمد إليه إذاً هو ضرب من مؤارضة الإيماءة على نحو أساسي، أي بتهجيرها خارج تربتها وبالنظر إلى الأفق الذي نظرت إليه: إنّ الشيء الفلسفي هو أولاً شيء لافلسفي، لأنّ الفلسفة لا تعي نفسها جوهرياً كفلسفة أشياء. … بل هي لا تعي نفسها كذلك إلا في معنى ثانٍ لعله من بين مقصودات ما أسميه “فلسفة ثانية”.
نقلاً عن حفريات