الحبيب الأسود
ما كان لمليارات الدولارات لو صرفت، أن تحقق كل تلك الأفراح التي ملأت قلوب المغاربة وبيوت العرب من المحيط إلى الخليج وفي ديار الغربة، وتلك البهجة التي عمت الحكّام والمحكومين والأثرياء والفقراء، والنخب والعوام، والكبار والصغار، والنساء والرجال، فإذا بالمشاعر تتدفق تلقائيا بسحر البشائر في لحظات لا يمكن أن يتحقق لها مثيل من دون كرة القدم.
وما كان لكل خطب الساسة ومضامين الإعلام الموجه وإبداعات الفنون والآداب أن توحد الشعوب العربية بذلك الشكل الذي تحقق بعد فوز المنتخب المغربي على نظيره البرتغالي وتأهله لنصف نهائي كأس العالم، فمن قصور الملوك والأمراء والقادة والرؤساء إلى مخيمات اللاجئين والنازحين، ومن الأحياء الراقية في العواصم المزدهرة إلى الأحياء القصديرية وأكواخ الفقراء والمهمشين، ومن مواطن السلام والاستقرار إلى بؤر التوتر والصراع، كانت الجوانح تصفق وهتافات النصر تتدفق من حناجر اختلفت لهجاتها وتوحدت ذبذباتها على سلّم موسيقى الوجدان العربي.
فأي سحر هذا الذي وحّد عشرات الملايين بمعزوفة الأمل، وجعل القاهرة كالرباط ودمشق كمراكش، والبصرة كطنجة، والخرطوم كأغادير، وتونس كفاس، وبنغازي كمكناس، والرياض كالدار البيضاء، وغزة كالعيون، ودبي كوجدة أو تطوان، وجعل الجزائر تهتف بأسماء اللاعبين المغاربة بأشواق الأخوة الصادقة التي لا يزال البعض يعمل على طمسها خدمة لمصالح فئوية لا علاقة لها بمصالح الشعوب ولا بمعاني المحبة والتوادد والسلام.
لم يجانب النجم السابق للمنتخب الكاميروني جيريمي الصواب عندما قال إن “كرة القدم هي بمثابة ديانة توحّد الشعوب” باعتبارها تجلب الفرح والسعادة، وهي بالنسبة إليه أفضل مهنة في العالم، وهذا ما يجمع عليه عشاق تلك اللعبة المدهشة التي استطاعت أن تصنع لنفسها عالمها الخاص من هوس الانتماء وقوة التأثير والجاذبية وسحر الأضواء والنجومية والثروة، والتي تفرض طقوسها وأنظمتها وقوانينها على الجميع، حتى أن “فيفا” تبدو أقوى المنظمات الدولية وأثراها وأكثرها قدرة على تنفيذ قراراتها في أي بقعة من بقاع الأرض. وكأس العالم، أكبر مهرجان ينتظم على الكوكب، ولا يوجد قطاع آخر في عالم اليوم لديه كل تلك القدرة على التغلغل في مختلف القطاعات الأخرى من السياسية إلى الاقتصادية ومن الاجتماعية إلى الثقافية، وعلى تحريك الملايين من البشر في إيقاع موحّد دون اعتبار العمر أو العرق أو الدين أو الجنس، حتى أنها توحد توقيت العالم على المباريات الكبرى، وتجعل من نجومها ملوكا متوجين بشعبية لا يمتلكها أحد غيرهم.
ما قاله جيريمي، أكد عليه آخرون، فالنجم الأرجنتيني دييغو مارادونا كان يرى أن كرة القدم ليست لعبة أو رياضة وإنما هي دين، وعندما احتدم الجدل والسجال حول الهدف الذي سجله في مرمى إنجلترا في العام 1986، حاول أن يطوي صفحة الخلاف بالقول إن يدا إلهية هي التي سجلت الهدف وليست يده، لكن تلك العبارة تحولت إلى قناعة راسخة لدى محبيه الذين يرون أنه يتجاوز أن يكون بشرا.
في الثلاثين من أكتوبر 1998 تأسست في مدينة روساريو بالأرجنتين كنيسة مارادونا بمبادرة من أنصاره ومعجبيه الذين يعتبرونه أعظم لاعب كرة قدم في العالم، ووصف البعض هذا المشروع بأنه دين ساخر أو دين ما بعد حداثي، وقد اتسعت تلك الكنيسة لتشمل عددا كبيرا من الدول مثل إسبانيا وإيطاليا وألمانيا والمملكة المتحدة وأسكتلندا واليابان والبيرو والبرازيل وتشيلي والمكسيك وأوروغواي والولايات المتحدة. بدأ الأمر مزاحا، ثم تحول إلى حالة عقائدية بوصايا عشر، من بينها “أحب كرة القدم فوق كل شيء” و”أعلن حبك غير المشروط لدييغو وكرة القدم الجيدة” و”انشر معجزات دييغو في جميع أنحاء الكون”، وفي كنيسة مارادونا بالمكسيك، أصبح من الطبيعي أن يتم تعميد طفل أو طفلة أو عقد قران وتنظيم زفاف وفق الديانة الجديدة، فالعقيدة الجديدة لديها دائما من يتمسكون بها ومن ينضمون إلى صفوفها.
كان نجم البرازيل الكبير بيليه قد تطرق للمسألة من قبل، وقال إنه لا يلعب وإنما يتعبد في الملعب، ويعتبر الكرة دينا ويعاملها كإله، وهو واحد من كثيرين يحاولون تفسير الظاهرة وسر ذلك التأثير البالغ على الجموع وكأنها تدار بإشارات علوية تتجاوز قدرة الإنسان، ووفق شبكة معقدة من العلاقات الاستثنائية مع الواقع والحلم والفرح والحزن والألم والنصر والهزيمة والقدرة والعجز والخيبة والطموح.
تحولت كرة القدم خلال القرن الماضي إلى عقيدة للمليارات من البشر، ويرى البعض أنها أصبحت أقرب ما تكون إلى ديانة جديدة. وردت في كتاب “علم الاجتماع الرياضي” لخالد الحشوش مقارنة ما بين الدين وكرة القدم، حيث كلاهما لديه مبان خاصة للتجمع والقيام بنشاطات معينة، ولديه إجراءات للتنفيذ، وطقوس قبل وخلال وبعد الحدث، وكلاهما يستقطب الانتباه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والإعلامي، كلاهما لديه شخصيات بارزة ورموز كاريزمية، وكلاهما يعتمد على التكرار والانتظام (الصلاة/الوحدات التدريبية)، والانفعال والتأثر بالرموز.
ما يميز كرة القدم أنها تمتلك قوة تأثير لا مثيل لها في العالم، وهي قادرة على ترسيخ قيم الانتماء الوطني والقومي أكثر من كل الآليات الأخرى، وقادرة على تكريس خطاب لا يخلو من بلاغة عميقة بين البشر دون الحاجة إلى اللغة، وعلى بلورة ملامح العالم الذي تريد له أن يكون بما تصنعه من تحولات راديكالية، كأن ينتصر منتخب المغرب بكل تلك الإرادة على أن يستمر الأمل المعقود في بلوغ النهائي ولم لا الفوز بكأس العالم.
المصدر “العرب” اللندنية