كريتر نت – متابعات
في شهر نوفمبر الماضي أصدر الدكتور تور هامينج كتاب “السياسة الجهادية: الحرب الأهلية الجهادية العالمية 2014-2019″، الذي يستند إلى أطروحته للدكتوراه. ويتوقع أن يكون هذا الكتاب الأكثر شمولًا بين تلك التي صدرت في السنوات القليلة الماضية عن الجماعات الجهادية.
يشغل الدكتور هامينج منصب مدير الدراسات التحليلية في مركز ريفسلوند، وباحث غير مقيم في المركز الدولي لدراسة التطرف، بكينجز كوليدج لندن. وأجرى بحوثًا ميدانية في الأردن والعراق ومصر والمغرب ونيجيريا والصومال، وكتب لصحف ومواقع إخبارية عدة، منها لوموند والجزيرة والجارديان وغيرها.
لا يعرف عامة الناس أو حتى الخبراء سوى القليل عما يجري داخل الحركات الجهادية، لأنها تتكون بالأساس من جهات فاعلة سرية. يملأ الكتاب هذه الفجوة إلى حدٍّ كبير من خلال تجاوز الروايات التقليدية، والتركيز على الديناميات الداخلية للحركة الجهادية، بهدف توضيح الصراع الدائر بين الجماعات والأفراد. وفي حين أنه توجد الكثير من الكتابات عن تنظيم القاعدة وداعش، فإن المشهد الجهادي ينطوي على دينامياتٍ تشارك فيها جماعات أخرى.
مورد لا يقدَّر بثمن
يُعد كتاب هامينج موردًا قيمًا بفضل منظوره المزدوج الذي يساعد القراء على الوصول لفهم أفضل للدوافع العديدة للصراع، وأهمية الدين والأيديولوجية، وفي الوقت نفسه يصف بدقة دور وأفعال العديد من الأفراد الأساسين في تفاقم الصراع الداخلي أو التخفيف من حدته.
تتعلق الرؤية الأكثر أهمية بوضع الجهاديين، الذي يتجاوز في كثيرٍ من الأحيان، على مر التاريخ، التطرف الديني. في هذا الصدد، يطرح الكتاب تفسيرًا دقيقًا للجهاديين كفاعلين سياسيين ويساعد في شرح الأساس المنطقي وراء عنفهم، وتشكيل هويتهم. وعلى هذا النحو، فإنه يتعارض مع السردية التي تنظر إلى الجهاديين على أنهم متطرفون دينيون حصرًا.
لماذا ينخرط الجهاديون في صراعاتٍ، بل ويعطون الأولوية، للصراع مع الجهاديين الآخرين الذين غالبًا ما يشتركون معهم في التاريخ والاستراتيجية الكبرى والأيديولوجية؟ إنهم يسعون -إلى حدٍّ كبير- إلى الغاية ذاتها، ولكنهم يختلفون حول وسائل الوصول إليها، وحول القضايا الدينية الثانوية الأخرى. على سبيل المثال، تشمل هذه معايير إقامة كيان سياسي إسلامي، وتكفير بعض الأشخاص. تميل التفسيرات الحالية للصراع بين الجهاديين إلى القول بأن المشكلة تكمن في الأيديولوجية المتطرفة، ما يتسبب في انقلاب الجهاديين ضد بعضهم بعضًا.
منطق السياسة التقليدية
ومع ذلك، يرى هامينج أن التطرف وحده غير كافٍ لتفسير الاقتتال بين الأشقاء الجهاديين. وبدلًا من ذلك، يمكن تفسير الصراع بين الجهاديين على نحو أفضل من خلال منطق سياسة القوة التقليدية. في الواقع، السبب في تناحر هذه الجماعات يكمن في أنها تريد الهيمنة، أو أنها تسعى لدرجة معينة من الهيمنة. فبعض الجماعات تعتبر نفسها تمثل السلطة الدينية السياسية الوحيدة سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو العالمي، في حين ترى جماعات أخرى نفسها مجرد واحدة بين أنداد.
فإعلان داعش للخلافة، على سبيل المثال، يُمثّل ادّعاء بأنه السلطة الإسلامية الشرعية الوحيدة، في حين ينظر تنظيم القاعدة عمومًا إلى نفسه على أنه جماعة مقاتلة واحدة -وإن كان الخيار الأفضل- من بين جماعاتٍ عديدة. هذه التصورات المتباينة لا توضح فقط كيف تنظر الجماعات إلى نفسها ولكن أيضًا كيف تتعامل مع الجماعات الأخرى، سواء من حيث التعاون أو الصراع. وليس مستغربًا أن أولئك الذين يسعون إلى الهيمنة يميلون إلى تحدي الجهاديين الذين يعتبرونهم منافسين.
تاريخ الصراع بين الجهاديين
يجب اعتبار كتاب هامينج تأريخًا للصراع بين الجماعات الجهادية، من خلال عدسات الجهاديين أنفسهم. وكونه يتناول في المقام الأول الصراع بين تنظيم القاعدة وداعش والجماعات الجهادية ذات الصلة، فإنه يغطي الفترة التي أدّت إلى الانقسام بين تنظيم القاعدة وفرعه العراقي (1999-2013)، والانقسام نفسه (2014)، والفترة التي تلَت ذلك من التنافس والاقتتال بين الجماعات (2014-2019).
السؤال البحثي الذي يكمن وراء التحقيق الذي أجراه المؤلف هو: لماذا يقاتل الجهاديون بعضهم بعضًا؟ في الواقع، يبدو هذا وكأنه مفارقة تستند إلى ثلاثة افتراضاتٍ. أولًا، على المستوى الأيديولوجي، يُفترض أن ما يجمع الجهاديين أكثر مما يفرقهم. ثانيًا، نظرًا إلى أنهم عادة ما يواجهون عدوًا أكثر تفوقًا، يُفترض أن الجهاديين سيستفيدون من التعاون أكثر من الاقتتال. ثالثًا، هم أطراف فاعلة سياسية معزولة للغاية مع عددٍ قليل من الشركاء الآخرين الذين يحتمل أن يكونوا متعاونين.
تبدو العواقب السلبية لهذا التناحر واضحة، وهذا ما يجعل السؤال البحثي للمؤلف مُقنعًا بشكلٍ لافت للنظر. وفي نهاية المطاف، تؤدّي الانقسامات السياسية واقتتال الأشقاء داخل الحركة الجهادية إلى إضعاف هذه الجماعات المتطرفة. ويبقى السؤال ما إذا كان صناع السياسة والقادة العسكريون الغربيون على استعداد لاستغلال هذه الانقسامات لصالحهم.
فيما يتعلق ببنية الكتاب، ينقسم إلى ستة أجزاء تضم 13 فصلًا، مع مقدمةٍ وخاتمة، وبعض الملاحق المثيرة للاهتمام.
يقدِّم الجزء الأول، سياسة الجماعات الجهادية السنية، الإطار المفاهيمي ويناقش مفهوم الصراع داخل الحركة الجهادية السنية.
يقدِّم الجزء الثاني، الخلفية، تمهيدًا تاريخيًا للصراع المعاصر.
يتناول الجزء الثالث، احتدام الصراع، اشتداد الصدام الداخلي.
يناقش الجزء الرابع، تشرذم الحركة والاستقطاب والتدويل، والمراحل التالية من الصراع، التي تتميز بتغيير هائل على المستوى السياسي الجهادي.
يحلِّل الجزء الخامس، بين النقاء والبراجماتية، الطرق العديدة التي قادت إلى الصراع.
يبحث الجزء السادس، “توطُّن الفتنة”، كيفية تعمُّق الصراع داخل الجماعات الجهادية المعنية في الفترة 2016-2019، حيث أدّى الضغط من الداخل للإصلاح، في نهاية المطاف، إلى تجدد التشرذم وتصعيد الأعمال العدائية.
غني بالملاحظات التجريبية
يوضح مايكل إينيس، مؤلف كتاب “شوارع بلا فرحة”، أن الكتب التي صدرت بشأن داعش على مدى السنوات القليلة الماضية تشير إلى الفتنة، لكن لا تستكشفها بهذا العمق. لذلك، يعتبر كتاب الدكتور هامينج سردًا غنيًا من الناحية التجريبية، من خبير رائد عالميًا، سيأخذ بلا شك مكانته كمرجع رئيس لأي شخص يسعى إلى فهم تنظيم القاعدة وتأثيراته.
استنادًا إلى معرفة المؤلف الهائلة بالجماعات الجهادية والشرق الأوسط، وسنوات من الأنثروبولوجيا الرقمية، ومئات الوثائق الأساسية، والمقابلات مع الجهاديين، يُقدِّم كتاب “السياسة الجهادية، الحرب الأهلية الجهادية العالمية 2014-2019” رؤية غير مسبوقة عما يُحتمل أن يكون المرحلة الأكثر تعقيدًا في تاريخ الحركة الجهادية، بينما يقدِّم في الوقت نفسه منظورًا مثيرًا للاهتمام ومحفزًا على التفكير بشأن تطوراتها ومساراتها المستقبلية.
عن “عين أوروبية على التطرف”