خالد العضاض
هل ينعت السعوديون غير المسلمين في بلادهم بأنهم «أهل ذمة»، أو معاهدين، كما تقرره كتب الأحكام السلطانية، وكتب الفقهاء المتخمة بأحكام أهل الذمة؟ سيجيبك عن هذا ما لا يقل عن أربعة أجيال أو ثلاثة، بالنفي المطلق، بالرغم من وجود غير المسلمين بيننا من بدايات تأسيس المملكة العربية السعودية، وكان هذا وعيًا اجتماعيًا جديدًا، بدأ بالتحرر من الفقه الطارد، والفقه الكاره، الذي اتسمت به بعض المدارس الفقهية، باتجاه بلورة ملامح وعي وطني مختلف لمرحلة مختلفة، تسيطر فيها السياسة والحكمة والمصلحة العليا للدولة والمجتمع، وتأخذ فيه المؤسسة الدينية وضعها الطبيعي، ومكانها الاستشاري، دون هيمنة على القرار أو الحل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فنفذت عدة منتجات حديثة وقتها من هيمنة القرار الديني المتشدد، مثل: قرار استخدام البرقية، واللاسلكي، والتليفون، كما سلمت من تلك الهيمنة مسائل أكثر إلحاحًا وأهمية، مثل: الموقف من الشيعة، والموقف من الصوفية، وكانت قاعدة الملك عبد العزيز في ذلك ما ذكره أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب: (السياسة غير الدين).
هذا الوعي تراجع نوعًا ما لظروف شتى، ولكن المتعين أن المؤسسة الدينية الرسمية كانت سببًا في هذا التراجع، من خلال أربعة منافذ، بحسب تقديري:
الأول: سيطرة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- على المؤسسة الدينية برمتها، دون مشاركة أي من المشايخ، مما أدى بهذه المؤسسة بعد وفاته، أن تتشظى إلى عدة مؤسسات، سواء في مجال الفتيا، أو البحوث والدراسات، أو شؤون المساجد والدعوة، أو المؤسسة القضائية، أو بعض التعليم الجامعي، وتعليم البنات، الأمر الذي سمح لمجموعة متخصصة من كوادر الإسلام السياسي بالتغلغل في هذه المؤسسات الحكومية، والنفاذ إلى مفاصل أخرى لا تقتصر على التعليم والمناهج الدراسية.
الثاني: اتساع حركة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -، وتعاظم شبكة علاقاته الداخلية والخارجية، والتي مكنت فئام كثير من أرباب الإسلام السياسي من العمل في الدعوة والتعليم لدينا، ودعم من هم خارج البلاد، بقصد دعم الدعوة إلى الله، ونصرة المسلمين.
الثالث: الفتوى الرسمية المتشددة، ولا أقول المتطرفة، والتي غدت لاحقًا سببًا للتطرف.
الرابع: الخطاب الديني الموازي غير الرسمي، والذي يسانده ويشاركه الخطاب الديني الرسمي في بعض الخصائص، والمفردات، وأعني خطاب الصحوة.
كانت الدولة تسير بقوة لتحديث أنظمتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية، ولم تكن تلتفت كثيرًا لممانعة التيار المشيخي القوي اجتماعيًا، والذي كان يضع رأيًا في كل مسألة تقوم بها الدولة، بسبب تغذية التيار الموازي دينيًا (الصحوي)، لأولئك المشايخ الرسميين – قبل اتضاح الحقيقة- مما جعل الفتوى الرسمية، عملية نقد غير مباشر، لعمل الدولة الرسمي على مختلف الأصعدة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية وغيرها.
عدم إدراك الفرق الدقيق بين الأمرين، الذين ذكرنهما آنفًا، أوجد ثغرة كبيرة وقعت فيها غالب الدراسات التي حللت الواقع السعودي من بداية إعلان التوحيد في سبتمبر 1932، وهذه الثغرة هي سحب التوجهات الفكرية المشيخية سواء للمشايخ التقليديين، أو للخطاب الموازي (الصحوي)، على توجهات الدولة وتعاملها مع مختلف الشؤون الدولية والمحلية، وهذا خطأ كبير، فما يحدث من حراك فكري داخل المجتمع بسبب الفتوى التقليدية أو الخطاب الصحوي، والتي لا تعترض عليه الدولة، ولا تتدخل فيه، هو من باب إتاحة الفرصة للأفكار بالتحرك في وضع طبيعي، ما لم يمس أمن المجتمع وأمن أفراده وأمن الدولة، وهذا التوجه المشيخي لا يمكن قياسه بفعل الدولة وأجهزتها، ولهذا لما جاءت رؤية السعودية 2030، تجاوزت كل هذا الحراك إلى ما يصب في مصلحة الوطن والمواطن، وبما تسعه الشريعة الإسلامية من تسامح بكل سلاسة وبساطة.
والقضاء السعودي اليوم هو أكبر مثال يمكن أن يكون دلالة واضحة على ملامسة الدولة مساحات الضوء والنور التي طالما اتسم بها الإسلام، وعجزت عن ملاحقتها غالب الأفكار والنظريات البشرية التي تنطلق من بعد ديني إسلامي. والحديث عن تطور القضاء السعودي مؤخرًا، لا ينتهي، وهو ما يزال في طور الترقي، وتطوير البنية النظامية والحقوقية والعدلية، فعلى سبيل المثال أقرت الدولة، نظام العقوبات البديلة، وهي مجموعة من التدابير والإجراءات التي تحل محل العقوبات السالبة للحرية أو العقوبات الجسدية، وتحديدًا عقوبتي السجن والجلد، ويتخذها القاضي بهدف تحقيق النفع العام للسجين والمجتمع، بحسب ما تسمح به الأنظمة واللوائح المنظمة لذلك، حيث تتيح للمحكومين قضاء محكوميتهم في تقديم خدمات اجتماعية أو غيرها، يستفيد منها المجتمع والمحكوم في الوقت نفسه، وكذلك في إبريل 2020 قلصت الدولة من صلاحيات الأحكام التعزيرية المتروكة لتأويلات القضاة ضمن خطة إصلاحية شاملة وعميقة للقضاء، حيث أوقفت أحكام القتل تعزيرًا على الأشخاص الذين لم يكملوا 18 عامًا وقت ارتكابهم الفعل المعاقب عليه، وشمل هذا مرتكبي الجرائم الإرهابية الذين صدرت بحقهم أحكام نهائية، كما ألغت عقوبة الجلد وقررت استبدالها بعقوبتي السجن أو الغرامة، أو بعقوبات بديلة أخرى، وغير ذلك الكثير.
وقد ذكرت في مقالة (الرابطة الوطنية لا الرابطة الملية)، ضرورة هيمنة السياسة على التدين، وذلك من ناحية تجريم خطابات الكراهية، وسن أنظمة تكافح التطرف الديني أيًا كان مبعثها، والدولة حازمة في هذا الأمر، ولا تتوانى فيه، ومن الأمثلة على حزم الدولة السعودية، والوقوف بوجه التطرف بكل صرامة، يسعفنا التاريخ بكثير من المواقف، ومن أهمها، وليس كلها:
الوقوف بوجه إخوان من طاع الله، في عهد الملك عبد العزيز، وإنهاء فتنتهم في عام 1929، وكذلك ما حدث في عام 1965، من اندلاع معارضات دينية على بعض الإصلاحات، والتطورات في البلد وقتها، وأيضًا الوقوف في وجه التطرف البشع في أزمة الحرم المكي، أو ما يعرف بفتنة جهيمان في عام 1979، وكذلك ما حدث مع الصحويين الرافضين لوجود القوات الأمريكية على الأراضي السعودية، خلال حرب الخليج الثانية 1990، والتي تطورت أحداثها لاحقًا حتى أصبحت أشبه بالثورة على الدولة والمجتمع.
أخيرًا، لا يمكن أن يقال عن دولة هذا صنيعها، أنها دولة متطرفة، كما تزعم بعض الدراسات الغربية، وتقارنها بدول إرهابية في بنيتها السياسية، والبرلمانية، والعسكرية كإيران.
نقلاً عن “الوطن”