علي بن تميم
هل انتهى داعش؟
يمكن للخبراء العسكريين أن يتحدثوا عن تراجع نفوذ التنظيم في الأماكن التي سيطر عليها قبل سنوات في سوريا والعراق، ويمكن للمتحدث باسم التحالف الدولي لمحاربة داعش أن يؤكد انتهاء حلم التنظيم الإرهابي بالخلافة، ويمكن لمراكز الأبحاث الغربية أن تتحدث عن تشرذم بقاياه في بقع معينة.
لكن السؤال هنا ليس عن الوجود العسكري لداعش، والذي يمكن القضاء عليه بخطط عسكرية محددة، بل عن التأثير الفكري الذي ما زال قائماً، وما زلنا نشهده كل يوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي ردود أفعال أشخاص عاديين لم يلتحقوا يوماً بالتنظيم لكنهم تأثروا بأفكاره المتطرفة.
مناسبة السؤال، هو الهجوم الذي تعرض له فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، بعد التهنئة التي وجهها إلى الإخوة المسيحيين بمناسبة أعياد الميلاد المجيد، في رسالة سامية منه، تحض على الإنسانية والتآخي والتعايش بين البشر وتحتفي بعيد ميلاد السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، الذي قال عنه الله تعالى في سورة مريم “وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا”.
كتب شيخ الأزهر عبر حسابه على تويتر يقول: “أهنئ إخوتي وأصدقائي الأعزاء البابا فرنسيس، والبابا تواضروس، ورئيس أساقفة كانتربري د. جاستن ويلبي، وبطريرك القسطنطينية برثلماوس الأول، وقادة الكنائس، والإخوة المسيحيين في الشرق والغرب بأعياد الميلاد، وأدعو الله أن يعلو صوت الأخوَّة والسلام، ويسود الأمان والاستقرار في كل مكان”، لتنطلق بعدها الردود على مختلف منصات التواصل الاجتماعي التي تنال من الشيخ الجليل الذي يرأس أكبر وأعرق مؤسسة إسلامية في العالم تجاوز عمرها الألف عام، بل وتجرأ بعض هذه الردود على تكفيره ودعوته للعودة إلى الإسلام!
الهجوم لم يطاول شيخ الأزهر فحسب، بل طاول أيضاً الشيخ محمد عيسى رئيس هيئة علماء المسلمين الذي أكد أنه “لا يوجد نص شرعي يمنع تهنئة غير المسلمين بـ “الكريسماس” وغيرها من الأعياد الأخرى، وأن تبادل التهاني مع غير المسلمين، صدر بجوازه فتاوى من علماء كبار في العالم الإسلامي، ولا يجوز الاعتراض على أي مسألة تتعلق باجتهاد شرعي”.
ما الذي يعنيه هذا الهجوم على اثنين من أكبر علماء المسلمين، من أشخاص مجهولين لم يبلغوا مجتمعين ذرّة من علمهما؟ يمكن القول إنه محاولة لتشويه “الإسلام المعتدل” لصالح التطرف، ولصالح “أشخاص” لا يجيدون سوى التكفير، ويتكسبون من نشر الكراهية والدعوة لإسالة الدماء، ويمكن القول أيضاً أن هذا يعني أن تنظيم داعش، بما صاغه من أفكار خلال العقد الماضي لم ينته رغم هزيمته عسكرياً.
فكرة سوداء
لم يكن داعش مجرد تنظيم عسكري إرهابي حاول احتلال أجزاء من سوريا والعراق، وقاد عمليات إرهابية في مصر وليبيا وغيرهما، ونشر الرعب باسم الدين في مناطق مختلفة، وشوّه صورة الإسلام في العالم كله، بل هو فكرة سوداء، تبلورت جذورها مع الجماعات الإرهابية السابقة عليه مثل القاعدة والإخوان و”الجماعة الإسلامية” و”التكفير والهجرة” و”تنظيم الجهاد”، واستقت وجودها من أفكار سيد قطب التكفيرية ورسائل حسن البنا وسيد إمام (الدكتور فضل) وأيمن الظواهري ومحمد عبد السلام فرج وأبو الأعلى المودودي.
أعطى ظهور داعش، وما أًطلق عليه “الربيع العربي” الفرصة لهذه الأفكار لكي تتوغل في عقول البسطاء، وساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في انتشارها كالنار في الهشيم، فانتشر الذباب الإلكتروني واللجان التكفيرية، أو ما أفضل أن أسميه “لجان اغتيال الأفكار”، التي تهدد وترهب كل من يُدلِ بقولٍ مخالف لرأيها التكفيري. فأصبحت تجد “تكفيريين صغاراً”، لم يقرأوا كتاباً في حياتهم لكنهم تشبعوا بالأفكار المشوهة التي يروج لها داعش وذيوله، ويسيرون على خطى أشخاص خارجين من كهوف التاريخ رغم أن من يقرأ التاريخ الإسلامي سيجد به قصوراً وليس كهوفاً، ولنا في مسلمي الأندلس آية، حيث احتفلوا بعيد رأس السنة الميلادية بمظاهر باذخة، ذكر بعضها ابن قزمان الشاعر الأندلسي الشهير.
بذر الفتنة
وفي ظني، فإن ما يسعى له هؤلاء الأشخاص خطير، لأنهم لا يكتفون فقط بتشويه رأس أكبر مؤسسة إسلامية في العالم، بل يبذرون الفتنة بتقسيمهم الإسلام ذاته إلى “فسطاطين: فسطاط للخير وفسطاط للشر” بحسب تعبير أسامة بن لادن، وهو أمر لا يقل خطورة عن “الفتنة الكبرى” التي عانى منها الإسلام لقرون طويلة وما زال.
هم يرون أن “إسلامهم” يختلف عن “باقي الإسلام”، بل يرون أنهم يمتلكون ناصية الإسلام وأن الله أوكل لهم مهمة حمل مفاتيح الجنة، وزج من يخالفهم الرأي في النار، وهو ما يدفعني للتساؤل: ما الفارق بين إرهابي يحمل بندقية ويقتل شخصاً بريئاً، وبين من “يكفّر” شيخ الأزهر وكل من يؤمن بالتعايش والسلام وحسن المعاملة، الذي هو جوهر الدين الإسلامي؟ الإجابة أنه لا فرق: فقط حصل الأول على بندقية، والآخر لم يحصل عليها بعد، بل ربما يكون أخطر لأن الأول قتل شخصاً واحداً أما الثاني فيكرس جهوده لنشر العنف والكراهية في أذهان عشرات الأطفال والشباب ممن لم يتلقوا صحيح الدين فينشؤون وهو يرغبون في تطبيق ما يعتقدون أنه الدين بالبنادق.
وهم لا ريب تغيظهم سماحة شيخ الأزهر، والدور الذي قام به مع بابا الفاتيكان في التقريب بين الشعوب، من خلال وثيقة الأخوة الإنسانية التاريخية التي رعتها ودعمتها الإمارات في 2019، لتصبح أنموذجاً ونهجاً يمثل أساساً للبناء من أجل السلام والوئام والاحترام المتبادل والتسامح بين الأمم، لذا فهم لا يفوتون الفرصة ـ أية فرصة ـ للنيل منه والهجوم عليه وتكفيره أيضاً.
هل انتهى داعش؟
أعيد طرح السؤال، لأجيب أنه للأسف لن ينتهي ما دامت أفكاره موجودة ومتوغلة في العقول، وما دام بعض من تستضيفهم الفضائيات ويُروّج لهم باعتبارهم دعاة ورجال دين ينشرون الغلو والتعصب والتطرف وكراهية الخير والسلام، ويحضرني هنا تأكيد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله حين قال إن “محاربة التطرف والإرهاب إعلامياً وفكرياً لا تقل أهمية عن محاربته أمنياً وعسكرياً، بل قد تكون أكثر أهمية لما للإعلام من تأثير مباشر في نشر قيم التسامح والتعايش المشترك وقبول الآخر وترسيخ الإيجابية في المجتمعات”.
جهود إماراتية
لقد كاد وجود داعش العسكري أن ينتهي بفضل تضافر جهود الدول، وهو الأمر ذاته الذي نحتاجه للقضاء على وجوده “الفكري”، فلا بد من تضافر جهود الدول والمؤسسات الدينية ووسائل الإعلام والمفكرين للتصدي للإرهاب الفكري.
لقد بذلت دولة الإمارات العربية المتحدة جهوداً فريدة في محاربة التطرف والإرهاب ونشر التسامح والتعايش بين الشعوب، وتعزيز الحوار والتقارب بين الأديان من خلال عدد كبير من الفعاليات والمنتديات الدولية الهادفة لبناء جسور التواصل والتفاعل، فأسست “المعهد الدولي للتسامح”، ومركز “هداية” لمكافحة التطرف العنيف، و”مركز صواب”، وأطلقت “وثيقة الأخوة الإنسانية” في 4 فبراير 2019 التي وقعها في أبوظبي فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وقداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، وذلك في ختام لقاء الأخوة الإنسانية، ليأتي بعد ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة وبالإجماع باعتماد تاريخ 4 فبراير من كل عام يوماً دولياً للأخوة الإنسانية، كما أطلقت قبل شهرين “منتدى الأديان لمجموعة العشرين”، وخلال فعاليات “إكسبو دبي 2020” أطلقت وزارة التسامح والتعايش في نوفمبر 2021 مبادرة “التحالف العالمي للتسامح”، كما أطلقت القمة العالمية المشتركة للأديان، التي تجمع سنوياً قيادات دولية بارزة وقادة الأديان والشرائع المختلفة ومفكرين بارزين من مختلف دول العالم، وكل هذه الفعاليات وغيرها تأتي تبياناً لما أكد عليه الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي بقوله: “تشجيع التعايش والتسامح بين الجميع بغض النظر عن جنسياتهم وأديانهم ومعتقداتهم يعد أحد القيم الأساسية التي نؤمن بها جميعاً”
هل انتهى داعش؟
سنقول إنه انتهى فكرياً حين لا يخرج علينا أشخاص غير ذوي صفة، ليحرموا الفرحة بالأعياد وتبادل التهاني، حين يدرك شبابنا أن التسامح والتعايش من قيم الإسلام، أو كما لخصه المفكر الإماراتي الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي بالقول: “الحل الأفضل، لتنوير العالم العربي، هو العمل على إنتاج مشروع فكري تنويري ورصين يكشف الخديعة في مشروع متخلف خطير يتخفى في الإسلام لإغواء الوعي العام، وتتبناها جماعات التطرف والظلام.”
نقول إن داعش انتهى حين نترك الماضي ونلتفت للمستقبل الذي يجب أن يكون الجميع فيه سواسية، حين تكون الفتوى من شأن أهل الفتوى وليس من شأن التكفيريين والكارهين لأنفسهم وأوطانهم وإنسانيتهم.. وهو يوم نرجوه قريباً.
نقلاً عن موقع “24”