ماهر فرغلي
كاتب مصري
يبدو الظاهر للعيان في الفتاوى الموسمية لتحريم تهنئة أهل الكتاب المفهوم الفقهي للمعاملة مع المخالف في الدين والمسائل العقدية في الولاء والبراء، إلا أنّها في الحقيقة تتعلق بالظهور عن طريق الجدل، وصناعة الميديا وإثبات الكيان عن طريق التحريم، وهو ما يخطئ فيه الطرف المقابل حين يجابه هذه الدعاوى التحريمية فيقوم بالترويج لها دون أن يدري.
التنظيمات والدراية بالسياسة الشرعية
إنّ المتابع الجيد لجماعات الإسلام السياسي، والمتعايش معهم، يدرك أنّ جلّ قواعد هذه الجماعات ليست على علم كافٍ بمسائل الحلال والحرام، والتفريق بين النص وتنزيلات النص، والمسكوت عنه وتفريعاته، وسدّ الذرائع والمآلات والأولويات والموازنات، وإدراك موضع الاستثناء أو ضوابط الفتوى، وتغير الفتوى حسب الزمان والمكان، وربط الأعمال الظاهرة وآثارها القلبية والداخلية.
كما أنّ المتتبع للمناهج التربوية لكل التنظيمات يجدها مقسّمة إلى (3) مراحل؛ الأولى فيها لا تتعدى فقه الطهارة والصلاة، وأبحاث التجنيد، وطاعة الأمراء، ووجوب الخلافة والقتال، ويزيد عليها الإخوان دراسة رسائل البنا وكتيبات سيد قطب.
أمّا المرحلة الثانية والثالثة، فهي مراحل لا يتجاوزها سوى عدد محدود من عناصر هذه التنظيمات، وهم يدرسون فيها ما يتعلق بقواعد الحاكمية، والولاء والبراء، وأصول الفقه ومصطلح الحديث، وغيرها، ومن هنا ندرك أنّ تصدي العديد من أفرادهم لمسائل تهنئة الأقباط أو الطوائف الأخرى، لا علاقة لها بما يتلقونه من تعليم وفقه، بل بما يُسمّى السمع والطاعة، وما يطلقون عليه فلسفة المواجهة، والتعالي على المشركين.
المنطلق في تهنئة أصحاب الديانات الأخرى
تنطلق تنظيمات الإسلام السياسي في تهنئة أصحاب الديانات الأخرى من عدة أمور؛ أوّلها: المفاصلة مع المشركين، وثانيها حرمة التشبه، وثالثها التميز عن الآخرين، ورابعها الاستعلاء الإيماني، الذي تعدى إلى المسلمين كذلك، وبين الجماعات وبعضها البعض، وبين الجماعات وغيرها من الناس على سبيل العموم، باعتبار أنّ مقدار الاتصال بالتراث هو المقدار الذي يحدد أقرب الجماعات إلى الحق.
يقول الشيخ الصادق العثماني، الباحث المختص في الفكر الإسلامي وقضايا التطرف الديني، في حديث خاص لـ “حفريات”: إنّ هناك أسئلة لا بدّ أن نطرحها على أصحاب الفهم الخاطئ الذين يداومون على تكرار تحريمهم لمسألة حرمة التهنئة في كلّ عام: هل إبراز الفرح والسرور بمولد رسول ونبي من الأنبياء حرام؟ وهل عيسى، عليه السلام، هو نبيّ للنصارى فقط دون المسلمين؟ وهل المسلم الذي يعلن العداء لعيسى، عليه السلام، إسلامه صحيح وكامل؟ وهل إذا قدّم لنا النصارى تهنئة بمولد عيسى، عليه السلام، -ونحن معهم في بلدانهم- هل نردّ عليهم التهنئة بأحسن منها؟ أو نردّ عليهم باللعنات والشتائم والسب والطعن في عقيدتهم؟ وإذا كانت تهنئة النصارى بعيد الميلاد حراماً، أليس من المنطق والشرع والدين أنّ العيش معهم وحمل جنسيتهم والذهاب إلى مستشفياتهم ووضع الأموال في بنوكهم أشدّ حرمة من التهنئة؟ وعلى اعتبار مذهب المنكرين للتهاني بأعياد النصارى، لماذا الإسلام أباح لنا الزواج منهم وأكل طعامهم والبر والعدل والقسط معهم وعدم ظلمهم وسرقتهم والكذب عليهم؟
يجيب العثماني عن الأسئلة التي طرحها مستنكراً تنظيمات الإسلام السياسي ودعواتها الهدّامة والتخريبية قائلاً: هناك البعض يعلن في دروسه وخطبه الحرب والتحريض على النصارى وهو منغمس فيهما حتى النخاع، ثم أمام أيّ حوار تلفزيوني أو ملتقى حوار الأديان تجده يتسابق في أخذ الصور معهم وتمجيدهم، ويختار من الأحاديث الشريفة والآيات البينات المناسبة والعبارات اللطيفة كقوله: دين الإسلام دين تعايش وسلام ومحبة ووئام … كما يستدل بقوله تعالى: “يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، إلى غير ذلك من المجاملات والكلام المعسول!، فهذا الذي ننكره ونمقته، ومن هذا الباب نحن نعيب على أيّ داعية يعيش في دول الغرب وهو يلعنهم ويحرض المسلمين عليهم بفعل أو قول أو عمل أو فتوى؛ لأنّه يساهم في تشويه صورة الإسلام، كما يساهم في إيجاد أرضية خصبة لظهور “الإسلاموفوبيا” بالإضافة إلى تنفير الناس من الإسلام والإقبال عليه، وهذا يتعارض بالكليّة مع قول الله تعالى: “ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”، علماً أنّ تهنئة اليهود والنصارى في أفراحهم وأعيادهم ومناسباتهم الدينية يدخل ضمن البر والقسط والإحسان مع الناس، يقول تعالى: “وقولوا للناس حسناً”… فتهنئتهم شيء، والإقرار بمعتقداتهم شيء آخر، ولهذا المسلم عندما يُسلّم على اليهودي أو النصراني أو يتعلم على أيديهم أو يتاجر معهم أو يشتغل في شركاتهم أو يتزوج منهم، حسب الفهم الضيق لهؤلاء، بأنّه يعترف ويقر بمعتقداتهم! وهذا غير صحيح، ولا يقبله عقل ولا شرع ولا دين.
ويضيف العثماني: يستند المتطرفون على فتاوى ابن تيمية بخصوص تهنئة النصارى بأعيادهم وذكرياتهم حيث يقول في (مجموع الفتاوى): “لا يحلّ للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء، ممّا يختص بأعيادهم، لا من طعام، ولا لباس ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة، وغير ذلك، ولا يحلّ فعل وليمة، ولا الإهداء، ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد، ولا إظهار زينة…”. ويعلق العثماني على هؤلا بالقول: نحن لا نعيش في عصر ابن تيمية، لأنّ 90% من فتاواه أو أكثر تجاوزه ا التاريخ ولا تصلح لحياتنا المعاصرة اليوم؛ بل مضرة بالحياة الاجتماعية المعاصرة وخطيرة على الأمن القومي العربي والإسلامي؛ لأنّ الفتوى تتغير حسب الزمان والمكان والعرف والعادة والحال والأحوال، لهذا إمامنا الشافعي، رحمه الله تعالى، غيّر الكثير من فتاواه عندما انتقل إلى مصر، وفي هذا السياق أكد الفقيه الإمام القرافي المالكي في كتابه “الفروق” في حديثه عن الفرق الثامن والعشرين: “أنّ القانون الواجب على أهل الفقه والفتوى مراعاته على طوال الأيام، هو: ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الزمان والبلدان. فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طوال عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تجبره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته بذلك، دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين”.
ومن هنا فإنّ شعور تنظيمات الإسلام السياسي طوال الوقت بالتهديد، ومفهوم العلاقة بالآخر القائم على المواجهة، وأنّ وطن المسلم هو دار الإسلام وكل أرض تجري فيها أحكامه، ودار الكفر هي كل أرض تجري فيها أحكام الكفر، وهي دار الحرب، هو ما يدفعها إلى عدم جواز مهادنة أصحاب الديانات الأخرى وتهنئتهم، وكل ذلك يحتاج إلى مراجعة وتصحيح
المصدر حفريات