خالد اليماني وزير الخارجية اليمني
مع دخول العام التاسع للحرب اليمنية، يبدو المشهد العام في “العربية السعيدة” محزناً وقاتماً، يستحيل معه تفكيك عناصر العقدة “اليزنية” التي باتت تفرخ أزمات في متوالية حسابية لا تنتهي، وتعمل على جر ما تبقى من اليمن باتجاه ثقب أسود بلا قرار.
في السنة التاسعة التي تطل على اليمنيين وصلت جردة الموت إلى مئات الآلاف ممن قتلتهم الحرب مباشرة أو بشكل غير مباشر عبر أزماتها الإنسانية القاهرة، فيما قطعت أوصال البعض الآخر، وتركت 70 في المئة من السكان يمدون يدهم استجداءً للمساعدات الإنسانية.
كل قراءات الوضع اليمني متشائمة، والفشل كان ولا يزال مرافقاً للجهود الإقليمية والدولية، لوضع نهاية لواحد من أطول الصراعات في العالم، فيما استحضرت الأيام الأخيرة لعام 2022 مشروعاً آخر إلى المشهد المرتبك يزيد من تشظي الدولة، تمثل في رفع رايات الدولة الحضرمية القادمة، في وقت صار معه مجلس القيادة الرئاسي، الذي جاءت به مخرجات “الرياض 2″، الذي علقت عليه آمالاً عراض، يصارع من أجل تجاوز إشكالياته الداخلية، فيما يستعد الحوثي لحربه المتجددة على الشعب اليمني في العام التاسع التي لن ينتصر فيها حتماً، لكنها ستدفع اليمن واليمنيين بعيداً في طريق مزيد من التنكيل الذاتي.
ومن طهران، حيث يلقى الحوثي دعمه لمواصلة هذه الحرب العدمية، تقاتل ديكتاتورية الملالي ضد شعبها للبقاء في السلطة، وترسل رسائل الرمق الأخير الواحدة تلو الأخرى لاستمالة الغرب بموافقتها على الاتفاق النووي، وتتبعها برسائل إيجابية حول اتصالاتها مع السعودية، أملاً في كسب مزيد من الوقت لإطالة عمر النظام، الذي قرر الشعب الإيراني لفظه وإلقاءه في مزبلة التاريخ.
ويعلم الحوثي أن قوته تنهار، لأن سنده بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط تحت أقدام الإيرانيين الأحرار، وأنه بات يلعب في الوقت الضائع، لكنه يراهن على فشل خصومه في الساحة اليمنية، بل وانهيار معنوياتهم، ودخولهم في محاصصات أقل ما يمكن أن يقال عنها معيبة أمام مرأى الملايين من اليمنيين الذين توسموا فيهم المنقذ والحامي والسند. فإلى أين تتجه دفة سفينة اليمن في العام التاسع للحرب، وهل يمكن للأمم المتحدة أن تنجح في جمع الأطراف على طاولة المفاوضات، أم أن اليمن مرشح للدخول في حرب متجددة يعتقد من يروج لها أنه حتماً سيكون المنتصر فيها، على رغم وضوح صوت اليمنيين والإقليم والعالم بأنه لا حل عسكرياً للنزاع اليمني؟
تشريح العام الثامن
في آخر مداخلاتي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أمام المؤتمر السنوي لمركز واشنطن للدراسات اليمنية، تناولت بالتشريح ما سميته في كتاباتي السابقة هنا “حرب السلام الصعب” التي اعتمدت في تقييمها على مفاهيم القانون الدولي في حل المنازعات التي قد تأخذ سنوات طويلة من سلام نسبي ملبد بأجواء الحرب، قبل بلوغ الأطراف بالمقاربة المتدرجة لشكل من التفاهمات للانتقال من حال الحرب إلى الهدن، وما يرافقها من تقلبات ما بين التفاؤل والانكسار، من منطلق أن الهدنة هي استمرار لحال الحرب، حتى تصل الأطراف إلى قناعة بأهمية التوصل إلى اتفاق ناجز لإنهاء العدائيات.
وقد حملت لنا بداية العام الثامن بشائر انكسار القدرة العسكرية الحوثية بعد الثمن الباهظ الذي دفعته في محاولاتها المستميتة للسيطرة على مأرب، على رغم أن الحوثيين حاولوا التغطية على انكساراتهم بقصف منشآت حيوية في السعودية والإمارات، وفي الداخل اليمني بالصواريخ والمسيرات الإيرانية خلال شهري يناير (كانون الثاني) ومارس (آذار)، إلا أنه بات واضحاً أنهم كانوا بحاجة إلى استراحة يعيدون معها تنظيم صفوفهم المنهكة والحصول على اللوجيستيات اللازمة من طهران لمواصلة المشروع التوسعي الإيراني في اليمن.
فك الشيفرة الإيرانية في اليمن
وخلال الفترة نفسها اتخذ التحالف قراراً استراتيجياً لإنهاء الحرب وبناء السلام في اليمن، وشرع في تنظيم صفوف القوى المنضوية تحت سقف مشروع استعادة الدولة، وجرى طي صفحة الرئيس هادي في مؤتمر “الرياض 2”. وتوصلت قيادة التحالف إلى تفاهمات حول رؤية السلام، وفتحت اتصالات مباشرة مع الحوثيين عبر الوساطة العمانية، وبدأت الأمم المتحدة تحركاً توصلت من خلاله إلى هدنة الثاني من أبريل (نيسان) الماضي، وهي الهدنة التي استمرت ستة أشهر، تحققت بعض جوانبها التي كانت بمجملها لصالح اليمنيين في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثي، فحسبها الحوثي نصراً مؤزراً له، ورفض التعاون في بنود الهدنة الأخرى مثل فتح المعابر في تعز.
وعلى رغم العروض المشجعة التي تقدمت بها الأمم المتحدة لاستكمال كل الجوانب الإنسانية في هدنة طويلة نسبياً تستمر ستة أشهر، لمناقشة دفع مرتبات العاملين في الخدمة العامة في مناطق سيطرة الحوثيين وفتح محطات جديدة للرحلات المغادرة للعاصمة صنعاء، رفض الحوثي الاستمرار في طريق السلام الصعب، لأن رسائل طهران لم تتفق مع استمرار التهدئة، بخاصة مع الضغط الشعبي الإيراني لإسقاط الديكتاتورية، فوجهت سلطات طهران عملاءها في المنطقة، للمساعدة في تخفيف الضغط عنها عبر تصدير مشكلاتها إلى الخارج، فتزايدت خلال الفترة القليلة الماضية أعداد السفن التي تنقل مكونات الصواريخ ووقودها والمسيرات، وبدأت المسيرات تمطر الموانئ النفطية في حضرموت وشبوه لمنع تصدير النفط في عملية ابتزاز رخيصة مارستها الميليشيات الحوثية منذ سنوات مطالبة بنصف عائدات النفط. واليوم يكررها وهو يقصف موانئ حضرموت وشبوة، فيما يبدأ استعداداته لمواصلة عمليات مأرب التي يتضح مع نهاية العام أنها تجري على قدم وساق، وإن كانت احتمالاتها واردة.
وفي الواقع، يستغل الحوثي الوضع الذي تعيشه قوى مشروع استعادة الدولة منذ السابع من أبريل الماضي حينما غادر الرئيس هادي المشهد السياسي مفسحاً المجال أمام مجلس القيادة الرئاسي، الذي شكل محاولة من التحالف لإعادة تنظيم كل القوى التقليدية، وتلك التي برزت إلى الوجود خلال السنوات الثماني من الحرب في بوتقة واحدة، إلا أن التجربة حتى الآن لم تؤت أكلها، فبعد سبعة أيام يكون المجلس قد أتم شهره التاسع، ويقترب من إتمام عامه الأول، وهو يعيش متاهة القيادة الجماعية التي لم تنجح يوماً في التاريخ السياسي العالمي.
وكنت قد اقترحت في مقال سابق بعنوان “حرب اليمن نار من تحت الرماد”، مراجعة وظائف المجلس، وتركيز مسؤولية قيادة الدولة في شخص الرئيس ونائبه، مع توزيع بقية الأعضاء في وظائف يمكن قياس نجاعتها الوظيفية، ما قد يشكل حلاً لمعضلة القيادة الجماعية.
لقد واجهت القيادة الجماعية لمجلس القيادة الرئاسي أول تحدياتها في أغسطس (آب) الماضي خلال أحداث شبوة، وما تلاها من توترات في عدن، فيما تتواصل تفاعلات حالة اللا استقرار في محافظة حضرموت التي بقيت خلال سنوات الحرب الثماني في منأى عن الحرب وويلاتها، واليوم بدأت ترتفع عالياً أعلام الدولة الحضرمية، بما يزيد من تشظي المشهد العام في مناطق سيطرة مجلس القيادة الرئاسي، الذي أخفق حتى اللحظة من تفعيل مؤسسات الدولة في العاصمة عدن.
أمام مشهد كهذا، يواصل الحوثي فرض شروطه الابتزازية عبر الوسيط العماني إلى قيادة التحالف، ويواصل التلويح بالحرب في وجه خصومه في الداخل، فيما تقف الأمم المتحدة متفرجة من دون القيام بدورها التيسيري.
مسارات العام التاسع
ضمن مسارات العام التاسع، تبقى فرص السلام الصعب متكافئة مع فرص عودة الحرب العدمية، فالدعوات الحوثية الاستفزازية ومطالباتهم المتكررة لشركاء الوطن بالاستسلام، تسعى إلى تحقيق ما فشلوا فيه بقوة السلاح طوال السنوات الثماني الماضية.
ومن هنا فإن الاتصالات الجارية عبر الوسيط العماني التي تهدف إلى إبعاد اليمن عن شبح الحرب وإدخاله في مسار السلام، يفترض فيها تكريس رسالة “الرياض 2″، “لا حل عسكرياً للصراع”، وأن تتوخى الحذر في عدم تكريس الانطباع لدى الحوثي أنه المنتصر، لأن هذا الانطباع سيزيد من شهية الحوثي لدفع الجميع إلى شفير الهاوية التي هي حتماً لعبته المفضلة.
فيما يتوجب على مجلس القيادة الرئاسي إنجاز المهمة التي ألقيت على عاتقه في “الرياض 2″، لتحديد السقوف التفاوضية مع جميع القوى السياسية، لشكل السلام المستدام في ضوء المرجعيات المعروفة، حتى إذا ما حصحص الحق، وجاء وقت التفاوض، يكون الوفد التفاوضي جاهزاً بالبدائل حتى لا يجر لطاولة مفاوضات غير متكافئة، كما يتوجب على القيادة تجديد التمسك بجهود الأمم المتحدة ودعوتها لتكثيف مساعيها في اليمن، بما في ذلك إعادة تفعيل آلية “أصدقاء اليمن” التي رافقت عملية الانتقال السياسي السلمية منذ بدايتها في عام 2011.
ولطالما كررت امتعاضي من خطاب الحرب التي تروج له بعض الأطراف في صفوف الشرعية، الذي يكرر أسطوانة مشروخة سمعناها كثيراً بأن الهدن والمفاوضات وطريق السلام الصعب لن ينهوا الحرب اليمنية، وأن هذه الحرب ستنتهي بمنتصر ومهزوم، في تناقض صارخ مع مخرجات “الرياض 2” والتفويض الواضح لمجلس القيادة الرئاسي للتحضير للسلام.
اليوم كل أبواب المسارات تبقى مواربة باتجاه من يدفع لفتحها، فهناك بوابة السلام الصعب وتنازلاتها المؤلمة، لكن الضرورية لبلوغ السلام المستدام، وتبقى بوابة العنف محتملة مع استمرار الحوثي في رفض الجلوس مع أبناء الوطن الواحد، ودعواته المتكررة للحرب، وهو يعرف أنه لن يكون المنتصر فيها، بل ستكون حرب الانكسارات الدائمة ومزيد من التنكيل الذاتي.
نقلاً عن أندبندنت عربية