كريتر نت – أندبندنت عربية
هل جودة القيادة العالمية في انحدار، ومعها مستويات القادة العالميين الشخصية، في الوقت الذي أصبحت فيه حاجة البشرية إلى قيادة حكيمة ورصينة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى؟ بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، فإن وزير الخارجية الأميركية السابق وثعلب السياسة كما يطلق عليه كثر، هنري كيسنجر، يرى أن هذا هو بالضبط ما نواجهه الآن، وهو لا يخفي قلقه من أن الحضارة الإنسانية هي من قد يدفع ثمناً لذلك.
القلق هو شيء طبيعي بالنسبة إلى كيسنجر. فكتابه الأول، “عالم مستعاد” A World Restored (1957) ، بكل ما يحويه من قلق ما زال يسيطر على تفكيره حتى يومنا هذا. فبحسب كيسنجر فإن عدداً قليلاً فقط من الأشخاص ضمن حقبة زمنية معينة سيكونون قادرين على فهم البنية المعقدة التي يحتاجها النظام الدولي من أجل البقاء، وبأن عدداً أقل منهم يمتلك مواهب القيادة المطلوبة لإنشاء أو الدفاع عن أو إصلاح الإطار الدولي الحساس والمسؤول عن تحقيق أصغر تفاهمات السلام في العالم.
لكن الأسوأ من ذلك، يرى كيسنجر، أنه حتى لو فهم القائد طبيعة النظام الدولي فهذا لن يكون كافياً. لماذا؟ لأن الأمر، وبحسب كيسنجر دائماً، هو أن هنالك فجوة هائلة بين نوع العالم الذي يريد مواطنو بلد ما رؤيته وبين نوع العالم الممكن تحقيقه أو الوصول إليه فعلاً. فلا يمكن للعالم مثلاً أن يكون على القدر نفسه من المركزية التي يريدها الرأي العام الصيني، أو ديمقراطياً أو منفتحاً كما يود عديد من الأميركيين، أو إسلامياً كما يرغب كثير من المسلمين، أو مستجيباً لشؤون التنمية كما تريد بعض البلدان في أفريقيا وأميركا اللاتينية وغيرها كثير من الحالات الخاصة بكل شعب من شعوب الأرض.
يجب على القادة العظام، تضيف “وول ستريت جورنال”، العمل على سد الفجوة بين الرأي العام في بلدانهم والتسويات والقرارات التي يقومون بها، والتي لا يمكن فصلها عن الدبلوماسية الدولية. يجب أن يروا العالم بوضوح كاف لفهم ما هو ممكن ومستدام، ويجب أن يكونوا قادرين على إقناع مواطنيهم بقبول النتائج التي غالباً ما تكون مخيبة للآمال على المستوى المحلي. قد تتفهم البلدان الصغيرة والضعيفة الحاجة إلى حل وسط لكن المفارقة أن هذه المهمة غالباً ما تكون أكثر صعوبة في دولة قوية مثل أميركا، التي غالباً ما تكون قادرة على الحصول على كثير مما تريده في العالم لكن على مستوى أقل بكثير عندما يتعلق الأمر بخيارات شعبها، تعتقد بأنها تستطيع الحصول على كل شيء!
يتضمن هذا النوع من القيادة مزيجاً نادراً من القدرة الفكرية والتعليم العميق ونوع الفهم الحدسي للسياسة الممنوح لقلة قليلة من الناس. فأحدث كتاب لكيسنجر، “القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية” Leadership: Six Studies in World Strategy ، أفرد ستة قادة عالميين (كونراد أديناور الألماني، شارل ديغول في فرنسا، الأميركي ريتشارد نيكسون، أنور السادات في مصر، مارغريت ثاتشر في بريطانيا، والسنغافوري لي كوان يو) ممن حققوا إنجازات عظيمة في الداخل والخارج. لكن الكتاب يتطلع إلى الأمام وليس إلى الوراء. وكما أكد كيسنجر للصحيفة المذكورة أعلاه، فإن ما يخشاه هو أن الظروف الاستثنائية التي سمحت لهؤلاء القادة بالظهور قد تتلاشى.
فجميع القادة الستة الذين وصفهم كيسنجر أنهم كانوا قد نشأوا خارج النخبة الاجتماعية. وكانوا أطفالاً من الطبقة المتوسطة ومن أسر عادية. منحتهم هذه الخلفية القدرة على فهم الطريقة التي يرى فيها مواطنوهم العالم. تم اختيارهم في مؤسسات تعليمية تعتمد على الجدارة، وقد تلقوا تعليماً منضبطاً ومتطلباً أعدهم نفسياً وفكرياً وثقافياً للعمل بفعالية على أعلى مستويات الحياة الوطنية والدولية.
لكن الأمر المقلق بالنسبة إلى كيسنجر، والكلام للصحيفة، هو غياب هذه الحال وتساؤله عن قدرة مؤسسات النخبة على تقديم هذا النوع من الصرامة والانضباط، وما إذا كانت ثقافة “محو الأمية العميقة” ، كما يسميها، قد تآكلت لدرجة لم يعد فيها المجتمع يمتلك الحكمة اللازمة لإعداد الأجيال الجديدة للقيادة.
ما يحذر منه كيسنجر اليوم هو أن مشكلات النظام العالمي تزداد صعوبة. فحدة التنافس بين القوى العظمى تتزايد، وتشكل الصين تحدياً أكثر تعقيداً مما كان عليه الاتحاد السوفياتي، وتتضاءل الثقة حول العالم مع تزايد احتمال نشوب صراع عالمي باطراد. لذا فهو يرى بأننا بحاجة إلى الحكمة أكثر من أي وقت مضى، ولكنه يصر أن ليس من السهل العثور عليها.
هل يمكن لنا أن نختلف مع كيسنجر؟ من الصعب ذلك ونحن نرى نوعية أولئك الأشخاص الذين يحكمون في أقوى دول العالم وأهمها وكيف تحولت الشعبوية والديماغوجية إلى سلاح فعال في الوصول إلى السلطة.