علي الصراف
كل يوم يخرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعذر جديد لعمليته الخاصة في أوكرانيا. مرة، لأن أوكرانيا تخطط للالتحاق بالحلف الأطلسي، فتجلب تهديدا نوويا إلى الحدود مع روسيا. ومرة، لأن هناك “نازية جديدة” فيها. ومرة لأن “روسيا الجديدة” تشمل المقاطعات الأوكرانية الأربع.
ومرة لأن التحالف الغربي يريد تدمير روسيا. ومرة لأن روسيا تريد بناء نظام عالمي جديد. وأخيرا، لأن الناتو يريد “تفكيك روسيا”.
كل هذا من دون أن يلاحظ أنه هو الذي أطلق الطلقة الأولى، وأنه هو الذي احتل ثلث أراضي أوكرانيا. وأنه هو الذي ضم مقاطعات من أراضيها بالغصب والصواريخ.
وأنه هو الذي لوح بأسلحته النووية ليفرض ما يريد. كما لم يلاحظ أيضا، أن أحدا، سواه، لم يتحدث عن تفكيك روسيا، ولا تدميرها.
حتى مسألة جلب الحلف الأطلسي إلى حدود روسيا كانت موضوعا هزليا، لأن الحلف موجود أصلا على حدود روسيا من جهة دول البلطيق، ومن جهة تركيا، ما يجعل تنمره على أوكرانيا مقصودا لذاته، ولا علاقة له بوجود الحلف الأطلسي على الحدود.
هذه ليست، على أي حال، دلائل على التخبط. إنها دلائل على أن الرجل مجنون. وهو يحيط نفسه بمجانين من أمثاله، لكي يغذّوا جنون العظمة الفارغة في نفسه.
لا يخسر بوتين شيئا إضافيا عندما يرفع عيار التصعيد.
هذا هو حله الوحيد. وهو إذ يطلب مستحيلا، فإنه يتحصن بمستحيل، ما يجعل الحرب الدائرة في أوكرانيا تدور في فراغ بلا نهاية.
◙ بوتين ضيّع الفرصة ليس على روسيا، لأنها لم تكن تملكها من الأساس، ولكنه ضيعها على الصين التي اعتقدت أنه حليف، فإذا بالأذى والضرر يأتي منه أولا
هذا الفراغ، هو ما يبرر الآن، أن يكون “تفكيك روسيا” موضوعا حقيقيا على جدول الأعمال، لسببين على الأقل: الأول، لأن النزعة الإمبراطورية، التي تغذي أوهام العظمة وتهديداتها، لا تسقط إلا عندما تسقط الإمبراطورية نفسها.
هذا ما حصل عبر التاريخ مع كل الإمبراطوريات الأخرى. فطالما بقيت الإمبراطورية الروسية قائمة، فإنها ستظل تعيد إنتاج المخاطر نفسها، كلما توفرت لها الفرصة.
والثاني، لأن روسيا فشلت في أن تنتج نظاما سياسيا عقلانيا، يضمن المساءلة والتدقيق في سياسات الحاكم، ويوجه الإمكانيات والموارد لخدمة الرفاهية الاجتماعية، وينخرط في علاقات تجارة وتعاون قائمة على قواعد المنافسة السلمية.
روسيا اليوم، كما كانت روسيا جوزيف ستالين وبطرس الأكبر ليست سوى دولة استبداد، ترفع الحاكم إلى مصاف الآلهة، فيحيط نفسه بأتباع مطيعين يرددون ما يحب سماعه مقابل النجاة والامتيازات.
النشأة الفقيرة لبوتين، وانعدام الكفاءات البديلة، إذ لم يُعرف عنه أنه تكنوقراط في أي مهنة، تجعله يتشبث بالسلطة حتى الموت. كما تجعله رجلا خطيرا، ومستعدا للمغامرة بأي شيء. وحيث أن أتباعه يخافون من قدرته على البطش، وأنهم دائرة مستقرة، فإن أحدا لن يجرؤ حتى على مجرد التفكير في إزاحته مهما حصل.
الذين يموتون بإلقاء جثثهم من الطابق الخامس، والذين يتم قتلهم بأساليب الخنق والانتحار والغازات السامة، هم تذكير دائم لتلك الدائرة بما تعنيه معارضته على أي شيء، حتى ولو بمجرد التلميح.
وجود رجل كهذا في بلد نووي يجعل أوروبا كمن يجلس على قنبلة موقوتة.
حتى وفاته، كما توفي ستالين، لا تكفي. لأن ستالينا آخر سيظهر بعد حين.
ولقد عجزت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن معالجة هذه المشكلة عندما انهار الاتحاد السوفييتي. فهما، تحت نشوة الانتصار، لم ينتبها إلى أن القاعدة التي تقف روسيا على أساسها ما تزال قادرة على أن تشكل تهديدا جسيما للأمن والسلام الدوليين.
وتلك القاعدة إنما تقوم على ثلاث أثاف هي: بقاء الإمبراطورية (بامتلاك روسيا “حديقة خلفية” تضم: بيلاروسيا وأرمينيا وأذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان وطاجاكستان وقرغيزستان والشيشان)، والقوة النووية، والحاكم المستبد.
الحرب في أوكرانيا إنما ولدت من هذا الوحش. ولكي يمكن إنهاؤها، فإن اثنين على الأقل من هذه الركائز يجب أن ينهارا.
الصراع، كما رسم بوتين حدوده، يدور عسكريا على أرض أوكرانيا، إلا أنه يشمل العالم بأسره إستراتيجيا.
إنه يريد بناء نظام عالمي جديد. ولكي يحقق هذا الهدف، فإنه يريد أن يخرج منتصرا من الحرب. والانتصار، بمعناه الميداني، هو أن يحتفظ بالأراضي التي قرر أن يسلبها.
شرط السلام الأول، من جانب “النظام الدولي القائم”، دع عنك أوكرانيا نفسها، هو أن يسحب بوتين قواته إلى مواقعها قبل يوم 24 فبراير 2022. لا تفاوض، قبل أن تتحقق هذه الهزيمة، أو قبل أن يقر بوتين علنا بقبولها.
الصراع، بمعناه الفعلي، ليس صراعا على الأرض. إنه صراع وجود بالنسبة إلى بوتين، شخصيا، وإلى الإمبراطورية الروسية، من جهة، والنظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة من جهة أخرى.
روسيا بناتجها الإجمالي الذي يبلغ 1.7 تريليون دولار، ويعتمد في ثلاثة أرباعه على عائدات النفط والغاز، لا يؤهلها لكي تتصدى لمهمة عملاقة بحجم “إعادة بناء النظام الدولي”.
لو كان ذلك جائزا، لكانت إيطاليا (بناتج إجمالي يبلغ 2.1 تريليون دولار)، أو فرنسا (2.9 تريليون)، أو بريطانيا (3.1 تريليون) أو ألمانيا (4.2 تريليون)، أولى به في مواجهة الولايات المتحدة (23 تريليون دولار).
فقط السخافة، هي التي أقنعت بوتين بأنه يستطيع أن يناطح.
لقد كانت الصين (بناتج إجمالي يبلغ 17.7 تريليون دولار)، أقرب وأولى من روسيا لخوض غمار التغيير. وهي كانت تتقدم بروية وبتأن سلميين نحو هذا الهدف، قبل أن يدمره بوتين بمغامرته في أوكرانيا. فما حصل هو أنه أيقظ أشباح المخاوف النائمة، ودفعها لكي تستعد في الغرب لما يمكن أن يأتي من جهة الصين.
هذا النظام الدولي القائم على سلطة سوق تتمتع بقوة إجمالية تبلغ نحو 50 تريليون دولار سنويا، لن يمكنه أن ينهزم أمام قوة اقتصادية هزيلة، ولا أمام قوة عسكرية تعرف، هي بنفسها، أنها هزيلة.
◙ روسيا اليوم، كما كانت روسيا جوزيف ستالين وبطرس الأكبر ليست سوى دولة استبداد، ترفع الحاكم إلى مصاف الآلهة، فيحيط نفسه بأتباع مطيعين يرددون ما يحب سماعه مقابل النجاة والامتيازات
وما يمكن لهذا النظام أن يتكفل بتمويله لخدمة الحرب، لن تتمكن روسيا من التكفل بموازاته، حتى ولو نطحت الصخر برأسها الناشف. رأسها هو الذي سوف يتهشم لا صخرة الحقائق.
لقد وفرت الولايات المتحدة لأوكرانيا هذا العام 45 مليار دولار من المساعدات، وتعهدت بمثلها العام المقبل، لتأكيد نفوذها الدولي. بينما يترك بوتين حليفيه بشار الأسد وعلي خامنئي يموت شعبهما من الجوع، لتأكيد أنه قوة مخازي دولية.
لقد ضيّع بوتين الفرصة ليس على روسيا، لأنها لم تكن تملكها من الأساس، ولكنه ضيعها على الصين التي اعتقدت أنه حليف، فإذا بالأذى والضرر يأتي منه أولا.
وما الاستفزازات الأميركية في تايوان إلا إعادة تذكير من واشنطن بأنها هي القوة. وأن معظم نجاحات الصين الاقتصادية قائمة على فائضها التجاري مع الولايات المتحدة. شيء يشبه القول: هنا عرين الأسد، وهذا بعض مما ترك لغيره من العظام.
ماذا يبقى من بعد ذلك؟
يبقى أن روسيا هي التي يجب أن تنزع عن نفسها وعن العالم فتيل التهديد. وهذا لن يتم فعلا، إلا إذا تم تفكيك الإمبراطورية الروسية، وعزلها، ونبذها كقوة تراهن على الغطرسة والتهديد.
بعد هذه الحرب، وبعد كل تكاليفها، لا يوجد حل آخر.
نقلاً عن العرب اللندنية