منى عبد الفتاح
ربما لم يمر على تاريخ كرة القدم جدل كالذي شهدته بطولة كأس العالم في قطر في ديسمبر (كانون الأول) 2022، لم يبدأ بالافتتاح، ولم ينته بارتداء اللاعب العالمي ليونيل ميسي للبشت العربي التقليدي الأسود المطرز بخيوط ذهبية، ألبسه إياه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني قبل رفع كأس العالم التي توج بها منتخب التانغو، كيف لا والحدث نفسه صاحب تتويجه ملكاً لكأس العالم، والأرجنتين تحقق لقبها العالمي الثالث في البطولة بعد 36 عاماً، كل هذه الأحداث التي صنعت البطولة الأكثر إثارة في تاريخ كرة القدم، اختتمت ولم ينته معها الجدل المتعلق بالبشت.
ثمة ما يشبه الإجماع على أن بطولة كأس العالم استطاعت اختصار المسافات كثيراً بين الشرق الأوسط والغرب، وأتاحت مساحة من تعديل الرؤى وذلك من طريق المعايشة اليومية والأجواء الاحتفالية والفعاليات المصاحبة له، إلا أنه يبدو أن هناك تياراً لا يزال يتمسك بالحواجز الموجودة سلفاً والمصنوعة لهذا الغرض، ومنهم من أراد بعثها من تصورات قديمة، أو تكوين صور مغايرة لتلك الإيجابية التي تشكلت أثناء المونديال.
وفي سياق الإطار العام الذي يتحرك فيه هذا الموضوع، جانبان، الأول نابع من رمزية البشت في الثقافة العربية كمعبر عن التكريم والاحتفاء، خصوصاً أن البطولة تنظم للمرة الأولى على أرض عربية، أما الجانب الآخر فهو ظهور تفكير سطحي قام باختزال الحدث كله في تصور ضيق كان يحتمل النظر إلى الأبعد، ومع ذلك لم يؤثر كثيراً في روح الابتهاج، ولو أن رذاذها اقترب من إحداث تعمية متعمدة.
تظل آثار هذا الموضوع ضمن الجدل الذي يأخذ مسالك جانبية كمؤشرات بارزة في مسيرة المجتمعات، هذا التضارب خلقه سحر كرة القدم وما يربطها بجمهورها من أواصر قوية، فضلاً عن الانبهار الذي تحدثه هذه الفعاليات، وفي هذا السياق، وخلال هذه الأجواء وغيرها، حظي اللباس التقليدي العربي بشعبية واسعة، ولفت الأنظار متجاوزاً العقبات الثقافية حين ارتداه في أوقات متفرقة نجوم ومشاهير في عالم السياسة والفن وكرة القدم وغيرها.
اهتمام عالمي
في التقاليد العربية والخليجية خصوصاً، عندما يلبس أحد ما الآخر البشت بأي من ألوانه المختلفة مثل الأسود أو البني أوالبيج أو الرمادي أو الأبيض، فهذا يعني تكريمه وتقديره، وقد كانت العرب قديماً عندما تضعه على كتفي قريب أو غريب فهذا يعني أنه مرحب به وآمن في ربوعها، ويطلق عليها “الخلعة” أو “التشريفة”، وهو يشير إلى “الملابس الشرفية التي كان الحكام قديماً يقدمونها بوصفها رداءً شرفياً في حفلات التعيين للمناصب العامة، أو هدية رمزية خاصة على إثر انتصار في معركة أو غيرها”، كذلك يلبس البشت في حفلات الزواج والأفراح وحفلات التخرج والمناسبات الرسمية، بوصفه أحد رموز الوجاهة الاجتماعية، كما يمكن أن يطرز بخيوط ذهبية أو فضية.
جاء عن تاريخ البشت أنه “لباس من الصوف أو الوبر، انتشر منذ القدم في الدول العربية، وقد ارتداه أهل المدن والبادية فوق سائر الملابس، وخلد ذكره في كتب التراث العربي والأجنبي والمخطوطات والرسومات القديمة، وأقدم أنواعه المعروف بالعباءة البرقاء”، والآن تنوعت الخامات التي يصنع منها من مواد خفيفة وناعمة ومنها العادي أو الشفاف، ويتبارى مصنعوها في اختيار الأقمشة الفاخرة والمريحة.
كتب عن البشت عدد من الرحالة والمستشرقين منهم المؤرخ الهولندي زينهارت دوزي، وسبقه إلى ذلك المؤرخ الإغريقي هيرودوتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد في كتابه “تاريخ هيرودوتس”، وصف فيه أحوال البلاد والأشخاص الذين قابلهم خلال ترحاله، وفي إحدى الحروب القديمة، وصف لباس الجنود العرب قائلاً، “يلبسون عباءة طويله يربطونها بحزام وأقواسهم الطويلة على أذرعهم اليمنى وتوضع بشكل مقلوب”.
“أعظم معركة”
دخل التأييد لارتداء ميسي للبشت من باب الاحتفاء باللاعب العالمي، كما أنه سيظل خالداً في تاريخ كرة القدم ومرتبطاً بهذا الحدث، أما الرافضون فيرون أنه فرض عليه في لحظة تاريخية ينتظرها أغلب سكان العالم من محبي كرة القدم والمهتمين، وهذا الرفض يترجم مباشرة أن هناك تياراً يريد أن يكون إنجاز النجم العالمي مجرداً وبمعزل عن المكان والثقافة العربية بالذات، ولنا أن نتخيل لو أن جزءاً من هذا حدث غرباً كان أو شرقاً، كيف سيكون الاحتفاء به باتخاذ الحدث صبغة ثقافية تعكس حضارة البلد، وجاء التخفيف من الرفض المتعصب بأن بعض الإعلاميين الرياضيين الغربيين برروا ذلك، بأن البشت عمل على تغطية قميص وشعار فريق التانغو، و”حرم اللاعب من الاحتفال بزيه الرياضي، وأنه إصرار عربي على إقحام زيه التقليدي على منتخب الأرجنتين”.
بينما رد آخرون من وسائل إعلام عالمية أيضاً على هذه الادعاءات بلطف، بأن “البشت يمنح للمحاربين العرب بعد انتصار في معركة أو للملوك، وميسي ربح أعظم معركة بينهم جميعاً وتوج نفسه ملكاً لكرة القدم”.
لم يكن ميسي الأول في ارتداء الزي العربي التقليدي، فقد سبقه نجوم ومشاهير، كان ارتداؤهم للزي العربي نوعاً من المشاركة الاجتماعية والثقافية واللحظات الاحتفائية، وليس بالضرورة أن تكون هناك أهداف خفية أو غيرها، ومن المشاهير الفنان المصري عبد الحليم حافظ الذي ارتدى الزي العربي التقليدي عند زيارته دولة الكويت في منتصف ستينيات القرن الماضي، وكذلك أثناء زيارته السعودية في فبراير (شباط) 1976.
أما من نجوم كرة القدم، فقد ارتدى زين الدين زيدان الزي العربي التقليدي في الكويت عام 2015، أما مدافع ريال مدريد الإسباني سيرجيو راموس فقد ارتداه أثناء زيارته الإمارات عام 2018، على هامش تواجده مع الفريق الملكي الذي كان مشاركاً في بطولة كأس العالم للأندية، وهناك لاعب فريق ريال مدريد كريم بنزيما الذي ارتدى الزي العربي التقليدي أثناء زيارته الكويت عام 2018.
مستشرقون بالبشت
اهتم عدد من الرحالة والمستشرقين بالبشت كأحد مكونات التراث الحضاري العربي، ومنهم من فتن به وداوم على لبسه أثناء وجوده في البلدان العربية، ومن المشاهير الكولونيل توماس إدوارد لورنس المشهور بلورنس العرب، الذي كان له دور أساسي في تاريخ الثورة العربية الكبرى، وظهرت صوره بالبشت في مذكراته ومذكرات من كتبوا عنه بعد ذلك.
وهناك أيضاً هاري سانت جون بريدجر فيلبي المعروف بالشيخ عبد الله فيلبي، وهو “مستكشف وكاتب، وأول أوروبي يقطع صحراء الربع الخالي من شرقها إلى غربها”، كما ارتداه المستشرق النمساوي الويس موسيل أثناء زيارته الجزيرة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكذلك الطبيب والمبشر الأميركي بول هاريسون الذي وصل إلى شبه الجزيرة العربية عام 1917. وهناك الشاعر الروسي ألتر ليفين الذي زار المنطقة العربية عام 1929.
كما حفلت فترة إنشاء “شركة خط الأنابيب العربية” المعروفة اختصاراً بـ”التابلاين”، وهو خط الأنابيب النفطي الذي كان يمتد من شرق السعودية حتى ميناء صيدا في لبنان، لنقل النفط إلى الأسواق الاستهلاكية في كل من أوروبا والولايات المتحدة، بكتب عدة تناولت تلك الحقبة التي بدأت منذ أربعينيات القرن الماضي، وتزامنت مع نهاية الحرب العالمية الثانية وإعادة إعمار أوروبا، تناولت كتب المستشرقين أحوال المنطقة والتحول الاجتماعي على طول “التابلاين”، وذكر ارتداء بعض المهندسين من شركات النفط العالمية في الاحتفالات ومناسبات ومقابلات المسؤولين البشت.
ومن أبرز الكتب التي تناولت تلك الفترة ومظاهرها كان كتاب “ملك في المشرق…. رحلة إلى المملكة العربية السعودية” للكاتب النمساوي ماكس رايش، ترجم إلى العربية بواسطة الملحقية السعودية الثقافية في النمسا.
“صديق العرب”
يعرف الملك تشارلز الثالث بأنه صديق العرب بخاصة السعودية التي زارها نحو تسع مرات، وفي زيارته في فبراير 2014، حينما كان ولياً للعهد، شارك في احتفال أقيم على هامش فعاليات “مهرجان الجنادرية للثقافة” السنوي بأداء “العرضة النجدية” بالزي السعودي الخاص بها، الذي يعرف باسم “دقلة”، كاملاً بما فيه الشماغ والعقال حاملاً السيف الخاص بها، لم تثر ثائرة الإعلام الغربي بل أطلقت عليه لقب “تشارلز العربي” في إعجاب بمشاركته في أحد رمزيات الفنون الحربية المعبرة عن تمجيد الانتصارات في المعارك، ومثمنة تكريم القيادة السعودية لضيوفها برمزية وطنية.
باعتبار الزي التقليدي جزءاً من التراث الشعبي الذي يعكس ملامح الحضارة في مجتمع ما ويتعلق كذلك بهويتها وتاريخها الممتد إلى الحاضر، فإن تحول الموضوع من جدل إلى حملة إقناع ضد ما اعتبر محاولة انتزاع استحسان في لحظة عالمية، هي بالنسبة إلى العالم العربي لحظة لافتة إلى أنه مثلما هنالك اعتراض، فهنالك أيضاً توافق على مكونات عربية لم تكن مرئية بشكل واسع بالنسبة إلى الغرب من قبل، وبهذا يمكن النظر إلى الجدل كمسار طبيعي لأي نقاش جوهري وأساسي في لحظة فتح مساحة لتقبل الآخر، الذي يمكن أن يكون شخصاً أو فكراً أو رأياً أو تراثاً حضارياً متمثلاً في الزي التقليدي.
المصدر “اندبندنت” عربية