قادري أحمد حيدر
إنّ صورة حياة وطريقة رحيل الفيلسوف والمفكر السياسي والمناضل أبوبكر السقاف، هو تعبير عن قمّة الاحتجاج والنقد على كلِّ ما يحصل في البلاد. رحيلٌ صامت ونقد عميق وحزين، وهو الفيلسوف النبيل والأكاديمي الرصين، والناقد العظيم لكلِّ ما كان يعج به الواقع من متناقضات.
إنّ الفكرة الفلسفية حاضرة في ثنايا حروفه وفي تلافيف سطور كلِّ ما خطّه يراعه المثير والمنير والثائر على كل شروط التقليد والجمود في السياسة وفي الفكر وفي الحياة.
مقاومٌ لكلِّ العفن السائد حيثما وجد، وكأنّه وُلِد ووجد حاملًا لمشرط التفكير العلمي والتحليل النقدي في حبله السري، وهو في كلِّ ذلك لا يساوم ولا يعرف في الغالب المنطقةَ الوسطى (الرمادية) في القول والفعل، خاصة حين يتعلق الأمر بالحرية والعدالة. هكذا كان، وهكذا غادرنا وهو يعانق سماء فكرة القول النقدي الصارم.
أبوبكر السقاف وحيد عصره، هو الاستثنائيّ في كل شيء، والسبب أنّه أراد وحدّد لنفسه خيارًا أن يكون ما يريد لا أقل ولا أكثر، أن يكون هُويته وذاته واسمه وَفقًا لخياراته واختياراته السياسية والفكرية الحرة، المرتكزة على رؤى فلسفية نقدية صارمة لمعنى الحياة ولمعنى دور الإنسان في الحياة.
لقد أراد أبوبكر السقاف، في كلِّ فكره وسلوكه العملي، أن يقترب من صورة المثال في القول والفعل، صورة الإنسان “الكامل”، لا يحب النقصان، وهنا تكمن عظمته الأخلاقية، وقيمته الإنسانية، بقدر ما تكمن مشكلته السياسية والحياتية. ذلك أنّه أراد، على مستوى السلوك الحياتي، ارتياد الصعب ومعانقة المستحيل في الفعل، على الطريقة الصوفية الحلّاجية، وسار في هذا الاتجاه الصعب حتى النهاية، وهو ما سبّب له مشاكل مع من حوله، أفرادًا وسلطات.
في كلِّ ما كتبه أبوبكر السقاف، كان يؤكِّد على قضية الحرية كمسألة ضميرية ووجدانية، حيث الحرية هي عنوان الفكرة الشخصية والحياتية والإنسانية عنده، وهي المدخل لاكتساب الحقّ في المواطنة المتساوية.
رحلته كلَّها بحثٌ عن “الإنسان الكامل” في تفاصيل الحياة الناقصة، لذلك لا تقرأ في كتاباته مفردات “رغبويّة”، وصيغ “التفكير بالتمني”، لأنّه كان يفكّر ويعمل، يأمل ويتأمّل، وخطواته العملية تجسيدٌ وتنفيذ لما يأمل به، فالأمل والعمل متوحدان في تفكيره وسلوكه، وهي معادلة صعبة اختارها لنفسه، إن لم تكن مستحيلة. ومن هنا تفردّه الذاتي، وكذلك مساحة اختلافاته مع البعض من حوله، من الذين لم يفهموا ولم يتفهّموا تلك الجدلية الكفاحية السامية في فكره وسلوكه. لم يكن يتمثّل سلوك الثائر المغاير، بل كان يطبق ذلك السلوك في الحياة، في تمرُّدٍ يوميّ على كل أصناف الجمود والتقليد والتبعية في عصر/ مرحلة تضج وتنضح بالهزائم السياسية المتعاقبة.
حيثما رأيته ووجدته، ستراه حاملًا مشعل روح فكرة التغيير والثورة، فكر الاستنارة المتجذّر في بنية عقله ووجدانه، وفي كل الحالات والأحوال لم يترك رمح المقاومة من يده؛ في حركته وفعله اليومي من قاعة الدرس في الجامعة، إلى الشارع العام، كرّس كلّ جهده لمواجهة الاستبداد السياسي في السلطة، وفي بعض اتجاهات خنوع الفكر وتردده عند بعض المثقفين، وفي سلبية أداء المعارضة السياسية.
من يتابع حركة خطواته/ سيره وهو في الجامعة، أو في الشارع، سيلحظ تلك الروح الحركية الوثّابة المثابِرة والمعاندة والمبادِرة والمغايرة والمقاوِمة، في صورة حركة مقاومة حتى لظلال الطريق المتسخة بالقاذورات حين يعبر، ولا يتوقف عن التعبير عن ذلك كتابةً، وكلُّ ذلك تعبير عن روح وصورة المفكّر الناقد الذي لا يتخلّف عن تقديم استجاباته الفورية المتحدية لكلّ ما يواجهه من عفن الحياة، بَدءًا من قضايا المجتمع المتخلّف، إلى عنف السلطة، إلى خَور المجتمع المدنيّ، وضعف أداء الاحزاب حين يجب أن تكون في منتهى القوة والوضوح لمواجهة عنف الاستبداد السلطوي والفساد السياسي والاقتصادي.
في كل رحلته في الحياة، لم يهُن ولم يلِن ولم ينحنِ أو يساوم على النقد الواضح والمبين لاستبداد وفساد السلطة، كان يقول كلمته في وجه العاصفة ويمشي.
هناك شخصيات لا يُمكنك فَهمُ عصرها، والتاريخ الذي وُجدت فيه، دون أن تتردّد أسماؤها في صفحة تاريخ الكتابة وأنت تكتب، كما أنّ هناك أسماءً مغيرة ومقاومة وفاعلة في قلب السياسة والفكر والمجتمع والسلطة، ما أن تذكر أحدهم حتى تجدهم –جميعهم– يحتلّون السطور الأولى من كتابتك وتفاصيل حياتك.
وفي تقديري، أنّ (أبوبكر السقاف) من أبرز هذه النماذج.
أبوبكر السقاف طاقة إبداعية هائلة وعظيمة في توحده بالمعرفة والفكر والثقافة، هو -حقًّا- آخرُ الموسوعيّين في اليمن المعاصر، مشتبك بكل تفاصيل اتجاهات المعرفة والفكر والفلسفة، يتابع كلَّ جديدٍ على مستوى الإنتاج الفلسفيّ والنظري والأدبيّ والفنّي والجماليّ وحتى اللُّغويّ والموسيقيّ، وكتاباته تكشف عمق أُفُقِه المعرفي وثقافته العلمية الأكاديمية الصارمة، التي تشبه ثقافة الموسوعيين الكبار في التاريخ العربي والإسلامي على مستوى الفكر السياسي.
وفي هذا الاتجاه يكون هو بالفعل الاستثناء في قالبٍ معرفيّ ثقافيّ سياسيّ معاصر، ليس على طريقة من يحفظ من كلِّ شيءٍ أوله.
في حديثٍ قديمٍ دارَ بيني وبين الأستاذ الجليل والمناضل يحيى محمد الشامي، أخبرني أنّه استعار منه كتابًا أعجبه أو أثار انتباهه، فطلبه منه للاستعارة، وما أن فتحه حتى وجد ملاحظات وتعليقات أبوبكر السقاف تغطي معظم صفحات الكتاب. هذا الكلام كان في العام 1954م، وهم في بداية مشوارهم الدراسي والطلابي في مصر. وحدث معي نفس الأمر حين استعرت منه كتابًا في مادة الفلسفة الحديثة التي كان يدرّسنا إياها كمادة في قسم الفلسفة، وكان ذلك في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، بعد وصوله مباشرة إلى صنعاء، فوجدت الكتاب ممتلِئًا بملاحظاته، والفارق هنا بين اللحظتين؛ أنّ الأولى وهو طالب، والثانية وهو أستاذ في الجامعة. ذلك تأكيدٌ لعمق حضور الفكر النقديّ في عقله.
حقًّا، هو مفكِّرٌ ناقد. فمنذ وقت مبكر كان شغوفًا بالمعرفة وبالفلسفة والفكر النقدي، من يطالع صياغة أول بيان للحركة الطلابية اليمنية في القاهرة على قصره بعد انتخابات أول هيئة أو سكرتارية قيادية للطلاب، وكانت برئاسته، سيجد دقة الصياغة اللُّغوية وقوّة الفكرة السياسية حاضرةً في روح ذلك البيان، فضلًا عن المعنى الوطنيّ والتاريخيّ، لمعنى اليمن الموحد، وهو أول بيان سياسي معاصر، يؤكّد على وحدة “اليمن الطبيعية”، كما جاء في نصّ البيان، وكان ذلك بتاريخ 23 يوليو 1956م.
منذ بواكيره في الدرس الجامعي، وُجد كقائدٍ فكريٍّ وسياسيّ في قلب الحركة الطلابية حين كان قريبًا أو ملتحقًا في صفوف الحركة اليسارية الشيوعية المصرية، كان يعرف ما يريد، ومن بعدها لم يلتحق بأيّ حزبٍ سياسيٍّ طوال رحلته الحياتية والكفاحية والوطنية، كان قريبًا من الجميع، لقد كان حزبًا بذاته وفي ذاته، فقد عمل مسافة نقدية قويّة وحادّة بينه وبين جميع السلطات في الشمال والجنوب، وكذلك عمل مساحة حرية، وحركة ذاتية بينه وبين العمل الحزبيّ المنظّم، وحافظَ على هذا الخيار وهذه المعادلة حتى رحيله الفاجع وبتلك الصورة الدرامية.
كان يساريًّا تقدميًّا اشتراكيًّا دون ادّعاء، ولم يغادر هذا الخيار/ المعادلة حتى رحيله الصامت. وفي كل هذه الرحلة الشاقة والمتعبة، حظيَ بحبّ وتقدير واحترام الجميع، من يتفقون معه ومن يختلفون معه، سوى مرضى العقول والنفوس.
إذا كان أشمل وأدقّ تعريف للإنسان هو أنّه كائن اجتماعيّ وكفى، كائن اجتماعي يفكّر ويعمل ويُنتج، فإنّ أصدق توصيفٍ للمقاوم أبوبكر السقاف أنّه المُفكِّر الناقد، الذي قدّم خلال أكثر من نصف قرن فلسفتَه الخاصة للحياة باعتبارها مقاومة، وتحدٍّ للاستبداد على طريق صياغة معنى واضح وشامل وكامل لمفهوم الحرية، والمواطنة المتساوية في واقع الممارسة.
أبوبكر السقاف شخصية فروسية، شجاعتها بلا حدود تصل حدّ اللامعقول في علاقاته مع أنظمة الاستبداد. إنّ مساحة حضور الخوف في تفكيره وسلوكه صغيرة، حتى إنّك لا تكاد ترى سوى ظلال للخوف، باعتبار الخوف صفة وحالة إنسانية.
ولكنّنا مع أبوبكر السقاف نحتاج إلى “ميكروسكوب”، لنرى أين يختفي أو يحتجب الخوف في زوايا تفكيره وفي ممارساته. معه نجد أنفسنا مشبعين بروح إنسانية ممتلئة بالمقاومة لكلِّ ما يعادي الحياة، ومن هنا حدّته في تعبيره عن نفسه وما يعتقد، داخله يساوي خارجه، فيلسوفٌ لم يعرف تفكيرُه ولا سلوكه أيديولوجيةَ “التقية”.
بعد وصول الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي إلى السلطة وهو يمارس تمارينه الأولى في الحكم، أتذكر مواجهةً نقدية له مع أبوبكر السقاف الذي جهر برأيه صراحة في وجه الرئيس الحمدي ناقدًا، وكان ذلك في أواخر النصف الأول من السبعينيات من القرن الماضي، وفي نادي الضباط. هكذا كان أبوبكر، وهكذا رحل، مثل الأشجار واقفًا.
كان متسقًا مع نفسه ومع رؤاه، ومتوحدًا بخياراته في الحياة، سواء على مستوى الفكر أو السياسة، يطابق القول فيه وعنده الفعل.
جمع في ذاته صيغة وصورة الفيلسوف والمناضل السياسي المدني بصورة خلاقة، فقد كان “مفردًا في صيغة الجمع”، المفرد الفيلسوف في صيغة المناضل السياسي اليوميّ، “الجمعي”. هناك كثر من أساتذة الفلسفة في الجامعات العربية من لهم إسهامات متميزة في مجالات تخصصهم الأكاديمي (الفلسفي)، ولكن قلّما تجد قامات فلسفية حوّلت الفلسفة إلى همٍّ يوميّ/ حياتي، وقدّمت صياغات سياسية مبتكرة للفكر السياسي، والعمل الاجتماعي.
كان الخيار السياسي المدني السلمي طريقه وخياره في الدفاع عن الحقوق العامة، بما فيها حقّه الخاص، ولذلك كان يلجأ للقضاء للدفاع عن حقّه المدني، كلّما تعسّفه النظام بقطع راتبه، وفي الفصل من وظيفة التدريس الجامعي، وفي أكثر من مرة حصل على حقّه من خلال بعض القضاة الشرفاء في قضاء غير نزيه ومسيّس.
بعد الاعتداء الهمجي والوحشي عليه، بعد اختطافه وتعذيبه بصورة تنم عن مدى الكراهية والحقد للمثقف وللثقافة والفكر، كتب الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، مشرعِنًا للضرب والتعذيب، قائلًا: “من كتب لبج”. وفي اليوم الثاني، لذلك الاختطاف والتعذيب ورميه في قارعة الطريق، زرته مع الصديق د. يحيى صالح محسن، وتعمدت الكشف عن آثار التعذيب التي على ظهره، فهالنا المنظر، ولم يكن مرحِّبًا بمبادرتي في الكشف عن آثار التعذيب الكهربائي الذي غطّى كلّ جسده من الرقبة حتى أسفل ظهره، بالبقع الدموية من شدّة ضغط آلة التعذيب الكهربائية على جسده. وكان حينها في بداية الستينيات من عمره، ولم يؤثِّر فيه كلُّ ذلك. كان يتحدث وكأنّه لم يتعرّض لأيّ تعذيب، لأنّه لا يحبّ استدرار عطف أحد. هذا هو أبوبكر السقاف كما عرفته منذ أكثر من ثمانٍ وأربعين سنة وأنا طالب في قاعة الدرس الجامعي.
من النادر أن تجد من يشتغلون ويتوحّدون بالهمّ الفلسفي المجرد والهمّ المعرفي والنظري، يشتبكون ويتماهون مع الهمّ السياسي اليومي (الفكر اليومي)، أي مع صيغة المناضل والمكافح السياسي، وهي موجودة قطعًا، ولكنّها حالات نادرة وقليلة، من أرسطو، إلى الحلّاج، إلى محمود أمين العالم، إلى حسين مروّة، إلى مهدي عامل، وإلى أبوبكر السقاف، يمنيًّا… إلخ.
أبوبكر السقاف واحدٌ ممّن جمع في ذاته صيغة وصورة الفيلسوف والمناضل السياسي المدني بصورة خلاقة، فقد كان “مفردًا في صيغة الجمع”، المفرد الفيلسوف في صيغة المناضل السياسي اليومي، “الجمعي”. هناك كثر من أساتذة الفلسفة في الجامعات العربية من لهم إسهامات متميزة في مجالات تخصصهم الأكاديمي (الفلسفي)، ولكن قلّما تجد قامات فلسفيّة حوّلت الفلسفة إلى همٍّ يوميّ/ حياتيّ، وقدّمت صياغات سياسية مبتكرة للفكر السياسي، والعمل الاجتماعي.
كان أبوبكر السقاف، مكتبةً فلسفية تجدها مدونة في معظم كتبه، فيلسوفٌ صدامي، وُجد ليقاوم العفن السائد حيثما وجد، ومن هنا كثرة خصومه، فقد كان لا يقبل إلا بالاستواء على كبد الحقيقة، في واقع متخلّف، مضطرب يعج بكل متناقضات عنف الاستبداد والفساد.
أبوبكر السقاف لحظةٌ فلسفية وفكرية وثقافية استثنائية، لا يجود الزمن بها وبمثلها إلا باعتبارها خلاصة وثمرة تراكم كيفي لمرحلة تاريخية، وتجسيدًا لمعنى تحول الكم إلى كيف، وعلينا أن ننتظر طويلًا حتى يعوض أو يجود الزمن بمثله.
كان عبدالله باذيب، وعبدالله البردّوني، ويوسف الشخاري، وأبوبكر السقاف، وعبدالعزيز المقالح، وعمر الجاوي… إلخ، يعيشون بيننا، وفي الوقت نفسه يصنعون التاريخ، دون أن نشعر ونحس بذلك، لم نكن نرى وندرك ذلك، وقريبًا سنرى ونقرأ عوائد وثمار ونتائج تلك الصناعة أمامنا، ونرى هذه الأسماء تمشي في قلب صفحات التاريخ، وفي أيامه الآتية، وكأنّهم لم يغادرونا أبدًا.
وتقديري، ونحن في زمن ثورة المعلومات والاتصالات، واختصار المكان لصالح الزمن ولصالح الإنسان، من أنّه لن يطول بنا الزمن كثيرًا حتى نرى اسم أبوبكر السقاف، عنوانًا لمكتبات ومدارس وجامعة وقاعات درس أكاديميّ وشوارع، تحمل اسمه واسم أمثاله من الرجال القدوة والمثال، لقد كان صادقًا ووفيًّا مع شعبه ووطنه، بقدر ما كان الخذلان حليفه.
وهو في قمة تعبه ومرضه الذي حدَّ من قدرته على القول والفعل –مع الأسف– لم يجد من ينصره ويؤازره من رجال السياسة والسلطة. كنتُ أعلم بظروفه الخاصة الصعبة المالية من خلال الصديق د. يحيى صالح محسن، والصديق أحمد كلز، اللذَين هما على اتصال مباشر وشخصيّ معه، ومع زوجته الفاضلة (لينا). وحين كنتُ أتصل به تلفونيًّا إلى موسكو للاطمئنان عليه، وهو في قمة المرض، كان يتعمد كعادته المعاندة ورفع نبرة صوته ليقول ما يريد خلال هذه اللحظات، وليقول أنّه بخير، ولم أسمعه يومًا يشكو حاله أو يطالب بحقه في العلاج من الدولة وهي المسؤولة عنه كمواطن من قادتها الكبار، قائد فكري وسياسي قدّم لهذه البلاد خلاصة عمره، ولو علم أبوبكر أنّ هناك من يطالب بحقّه في العلاج لاشتط غضبًا ورفضًا، ولن يتورع عن تسديد كلمات قاسية لمن يسعى هذا المسعى. كان عزيز النفس، كرامته هي عنوان حياته، عنوان حريته، كان يقول إنّ كل شيء تمام، وإذا كررت عليه سؤال الحاجة يمكنك أن تسمع ما يزعجك من الأقوال. هذا هو أبوبكر السقاف الأشم الأَنوف الأَبيّ في كبرياء يعانق السماء. رجلٌ مدني سلمي في دفاعه عن الحق والحقوق، غايته تكريس وتجسيد فكرة المواطنة المتساوية بين الناس في واقع الممارسة، وهي القضايا التي نذر عمره وحياته للدفاع عنها حتى لحظة رحيله.
في قمة شعور الرئيس علي عبدالله صالح ونظامه العسكري بالزهو والغطرسة وجنون العظمة الممتزجة بنرجسية اللص قاطع الطريق وحامل السلاح، وبدرجة رئيس دولة، وبعد توحش ممارساته تجاه الجنوب اليمني الشريك الأساسي والأول في دولة الوحدة، وتجاه كل اليمن، وبعد الحرب/ الجريمة 1994م- كانت كتابات أبوبكر السقاف هي الصوت الصادح في نقد فكرة “التوحيد بالحرب والدم”، وهو أول من كتب عن احتلال الجنوب، ومن بلور وهندس صيغة وصياغة مفهوم “القضية الجنوبية”، حين كان الخوف والرعب والذعر يعم الوسط السياسي والصحافي كله.
كان اسمه ضمن مجموعة من المُكفَّرِين من قبل الجماعات “الجهادية” الإرهابية “المتأسلمة”. وأتذكر أنّنا كنّا في قاعة المحكمة لمحاكمة قاتل الشهيد جار الله عمر، وكان بقربي د. يحيى صالح محسن، وفي الصف الذي قبلنا في قاعة المحكمة كان يجلس المناضل الفقيد/ علي صالح عباد “مقبل”، والدكتور/ أبوبكر السقاف، الذي كان يداوم على حضور جميع الفعاليات التضامنية المدنية مع جميع أصحاب الحقوق، ومن هم في السجون، وكان حاضرًا في القاعة كذلك الأستاذ/ عبدالباري طاهر.
في هذه المحاكمة، أشار قاتل جار الله عمر إلى المناضل علي صالح عباد “مقبل”، قائلًا: “كبيرهم الذي علمهم السحر، علمهم الكفر”، ثم أشار إليَّ موجهًا كلامه نحوي بأنّني ماركسي علماني، أدير مجلة “الثقافة” وأنشر فيها الكتابات العلمانية الإلحادية، وكذلك أشار إلى الأستاذ/ عبدالباري طاهر. وحين كان القاتل يتّهِمنا بالكُفر والعلمانية، ضحك أبوبكر السقاف ضحكةً هادئةً ساخرة تعكس روح الرفض والنقد في داخله، وبهذا المعنى من السلوك كان النقد المرّ والساخر حاضرًا حتى في حضرة التكفير والتهديد بالموت، تجسيدًا لروحه المقاتِلة والنقدية تجاه كلّ القضايا وفي كل المواقع والأماكن، وهي ما تحتويه كتبه المنشورة.
إنّ المطلوب اليومَ؛ تكريمًا وتخليدًا لاسمه، جمعُ كلِّ تراثه الكتابيّ الإبداعيّ لإصداره في كتب، فهي وثيقة نقدية تدوّن وتعكس صورة وتاريخ مرحلة بأكملها كان أبوبكر السقاف أحد أهمّ عناوينها المقاوِمة البارزة، والأهم مطالبة أجهزة الأمن بإعادة مخطوطات ومسودات كُتبه التي صادرتها في أقبية أجهزة الأمن، وهذا أبسط حقوقه علينا جميعًا.
وكلُّ التحية والتقدير للصديق المهندس الطيار، عبدالملك ضيف الله، الذي يعمل منذ أكثر من خمس سنوات على جمع أعماله الموزّعة على جميع الصحف والمجلات، ولدى بعض الأصدقاء، لإصدارها في كتاب أو كتب. وكانت الرغبة أن تصدر وهو حيٌّ مقيم بيننا، فتعذّر ذلك، ونتمنّى اليومَ أن تتكلّل جهود الأساتذة: عبدالملك ضيف الله، ومحمد عبدالوهاب الشيبانيّ، والصديق المهندس/ منصور علي الحاج، في استكمال مراجعة ومتابعة إصدار هذه الأعمال لترى النور.
رحمة الله تغشاك أيُّها الفيلسوف والمناضل والإنسان.