علي الصراف
العالم بفرصه الاستثمارية فسيح. لا شك في ذلك. والعوائد مضمونة (حسنا، إلى حد معقول). وثمة “قيمة مضافة” هي من جملة المنافع السياسية التي يمكن توقعها. كما أنها تدور في رحاب “سوق” معروفة قواعده وضوابطه. ما يجعل المال قادرا على أن يُغذّي المال فيتحول إلى شجرة دائمة الخضرة، دائمة الثمار، وتبعث على الطمأنينة.
كل هذا رائع، وصحيح. ولكنه في حاجة إلى أسوار، تشبه الأسوار التي تقيمها الأحياء الغنية في الولايات المتحدة، لكي تعزل نفسها عن الأحياء الفقيرة وشرورها. تدخل بسيارتك الفارهة من شارع عريض، من دون أن ترى أحدا، أو أن يراك أحد. فتجد نفسك في مأمن. وبطبيعة الحال، فأنت لا تراهن على حماية الشرطة، بل تضيف إليها وسائل حماية أمنية تطلق صفارات الإنذار إذا ما قفز جائع من أي سور.
تحتاج أيضا إلى ثقافة انعزالية، وتبريرات فلسفية من نوع معين، لأن القصة ليست قصة أسوار حديدية فقط، أو كاميرات مراقبة، أو مهابط طائرات تتيح لك الفرصة للطيران من فوق كل المشاكل. الرأسمالية توفر القاعدة لتلك الثقافة، على اعتبار أن العالم ينقسم إلى طبقات، ولكل طبقة نصيب مختلف من فرص الحياة. ولكن حتى هذه لا تكفي. لأن الرأسمالية الحديثة تذاكت على هذا الافتراض. فرأت أن الجياع يمكن أن يقلبوا عالي الأسوار سافلها. والفرص نفسها تنهار إذا لم يتوفر الاستقرار. شيء من عائدات “الفرص” يجب أن يذهب لطمأنة الجياع على أنهم لن يموتوا جوعا، وعلى أن أبواب الأمل ما تزال مفتوحة لهم، بتوفر التعليم والخدمات الصحية، والضمانات الاجتماعية الأخرى.
◙ الأرض التي تحيط ببساتين الغنى في العالم العربي، ليست أرضا يبابا. إنها تحتاج، في بعض نواحيها، سقيا بماء الحياة لتثمر
هذه “ضرائب” يدفعها الذين يملكون للذين لا يملكون. إنها ليست إحسانا، ولكنها لضمان “الاستقرار”، لأنه هو “القاعدة المادية الأولى للإنتاج”، وليس فقط الجلد والصمغ والخيوط لكي يتحول إلى أحذية تباع، بأكثر من “تكاليف الإنتاج” بينما يذهب “فائض القيمة” إلى جيوب الأغنياء، فيزدادون غنى، ويبقى المنتجون الفقراء فقراء.
الضرائب تزداد تصاعديا أيضا، لكي تتسع أروقة الأمل، فتوفر فرصا أكثر للذين لم تلحق بهم الفرص.
الرأسمالية علّمت بعض الأثرياء أن يتخلوا عن قسط وافر من ثرواتهم للأعمال الخيرية. الإحسان يجعلهم يشعرون أنهم كائنات أفضل. مشاعر الرقي الإنساني، مصدر ثراء نفسي هائل. مصدر راحة أيضا. إنها تجعل المخدة التي ينام عليها المرء وثيرة أكثر. ولكنه مجرد إحسان في النهاية. مهم في بعض منافعه، ولكنه شخصي في النهاية.
بيد أن الرأسمالية نفسها، تعلمت درسا أهم. هو أن الإنتاج البضاعي إذا كان يتطلب سوقا، أوسع فأوسع، فمن المفيد لها، أن تعثر على أسواق إضافية قادرة على الشراء. فتعلمت أنك لا تستفيد كثيرا إذا أبقيت الجياع جياعا. يجب أن تُطعمهم وتلبسهم ليشتروا ذلك الحذاء. ثم تساعدهم على أن يشقوا طرقا لكي تُصدّر لهم سيارات. ثم تُدخلهم في مدارس لكي يتعلموا فيخرج منهم أطباء ومهندسون، ليشقوا لشعوبهم طرقا تؤدي إلى روما. ألم يقولوا “كل الطرق تؤدي إلى روما”؟ هذا هو بالضبط ما يحصل الآن. فكل طرق الذين لا يملكون تؤدي إلى الذين يملكون، فيزدادون ثراء واستقرارا وراحة بال.
الاستثمارات شيء معقد أيضا. تستطيع أن تشتري أسهما في بنك غربي، وتعد ذلك استثمارا ناجحا. فتربح. فتزداد ثراء. وإذا خسرت من باب، فقد تربح أكثر من باب آخر، وهكذا. لن يطول الوقت قبل أن تكتشف كم أن الحياة حلوة. وأن الله أحبك فحباك، شكرته أم لم تشكره.
ولكنك تقيم جسورا ومستشفيات ومدارس وأسلاك هاتف وكهرباء. فماذا تنتظر منها؟ لا شيء تقريبا. إنها إنفاق خالص، وهات من يرد لك شيئا منه، بينما البنك الغربي تضاعفت أسهمه.
الغنى يُعلمك شيئا آخر. هو أنه غنى في محيط غني. لا توجد صلات استثمارية مباشرة بين الجسر والشارع والمدرسة والكهرباء، ولكنها أعمق وأكثر فائدة بكثير من تلك الأسهم التي تضاعفت قيمتها.
تلك الأسهم مثل شجرة نمت وترعرعت في بستان. فدلتك عبقريتك الاستثمارية على شراء غصن، في شجرة في بستان، في بلد، في قارة أخرى.
هذا تصرف ذكي. ولكن، بطريقة أو بأخرى، سوف تدرك أنك نفسك في حاجة إلى بستانك الخاص. فتقيم جسرا وشارعا ومدرسة وتربط أسلاك الكهرباء. وحيث أن بستانك عامرٌ بالبرتقال، فلعلك تساعد جارك على أن يُثري بستانه بالتفاح. فتقيم جسرا للمنافع المتبادلة.
وسرعان ما تكتشف أن الاستقرار مثمر، لأن محيطه مستقر.
لا يوجد سبيل أبسط من هذا ليعرف الذين يملكون في عالمنا العربي، أنهم، هم، بأمس الحاجة إلى الذين لا يملكون. وأنهم، هم، من يتوجب أن يُبقوا أبواب الأمل مفتوحة. لأن الطرق التي ينشئونها بأنفسهم سوف تؤدي إليهم. والمال الذي تشتري به غصنا في بلد بعيد، إذا ما اشترى بستانا في الجوار، فقد يأتي بعوائد أكبر من كل أرباح ذلك الغصن الفريد.
◙ الرأسمالية الحديثة تذاكت على هذا الافتراض. فرأت أن الجياع يمكن أن يقلبوا عالي الأسوار سافلها. والفرص نفسها تنهار إذا لم يتوفر الاستقرار
“القيمة المضافة” أكبر أيضا. فما كان “سياسيا” هناك، إنما هو “سياسي” و”اجتماعي” هنا في الجوار. وأكبر هي منافع الاستقرار، وهائلة راحة البال.
لقد غادر قادة سابقون هذه المنطقة، وتركوها ممزقة ومهترئة وعلى خراب في العديد من نواحيها. أغرقوها هم، بأنفسهم، بسوء الاستثمار في التنازع السياسي والأيديولوجي، بل وحتى في صناعة الحروب الأهلية وتمويل منظمات الإرهاب.
ولقد توفر لبعض دول المنطقة قادة، من جيل شاب، ليضعوا خلف ظهورهم كل ذلك الماضي البائس، ويلتفتوا للإعمار والتنمية والاستثمار.
هؤلاء هم باب الأمل. وبطريقة أو بأخرى، سوف يجدون السبيل ليروا أن العرب الذين لا يملكون، هم بستان خلف بستان، قابل للإحياء. ومؤهل لكي يربط الجسور والأسلاك، لكي تأتي بثمار، لا يسع رأسمالية الهيمنة الدولية، أن توفرها.
التسابق في ما بين “الكبار” على أفريقيا عنيف بوضوح. ولك أن تسأل: ماذا لدى أفريقيا لتقدمه لهؤلاء المتسابقين؟ ولماذا ينفقون المليارات خلف المليارات، من أجل أن يمتلكوا موطئ قدم فيها؟
الجواب لا يحتاج إلى ذكاء. توجد هناك مواد خام. وهم يُحيون لأجل الفوز بها بستانا صغيرا بعد بستان، ليُغني بستان الثراء الأعلى، ولتنتعش موارد الأغصان فيه.
الأرض التي تحيط ببساتين الغنى في العالم العربي، ليست أرضا يبابا. إنها تحتاج، في بعض نواحيها، سقيا بماء الحياة لتثمر.
من المستحيل أن تشبع، وجارك يجوع. أغصانك نفسها لن تثمر إذا ذبلت أغصانه. لأنك ولأنها لم تهنأ بالاستقرار. فهل تلقى مخدة لتنام، فلا تسامر نومك كوابيس الاضطرابات في الجوار؟
نقلاً عن العرب اللندنية