علي الصراف
إذا كنت لا تعرف ما هو “الصيد في الماء العكر”، فقد وفر إعلامه وذبابه وصغار كثيرون فرصة لكي تعرف.
الدكتور علي بن تميم لا يحتاج تعريفا جديدا، أو إعادة تقديم. مؤلفاته ودراساته تدل عليه، من قبل أن يكون رئيس مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة في الإمارات، أو غيره من المناصب والأدوار الثقافية.
والقصة التي أصبحت أشهر من نار على علم، هو أنه “أخطأ” عندما حاول “تصويب” متسابق في جائزة “أمير الشعراء” قال في قصيدته “ويعجبني في الذكريات سخاؤها”.
والافتراض الذي دارت من حوله الدوائر، هو أن الدكتور بن تميم أخطأ عندما أشار إلى المتسابق بأن يتأمل في ما إذا كانت “سخاؤها” فاعلا أم مفعولا به، مما يُلزم، في الحالة الثانية، أن تكون “سخاءها”.
مجافاة الصواب الأخلاقي والإعلامي والسياسي ليست شيئا جديدا في بعض إعلام الماء العكر. تلك صنعة قائمة بذاتها. ولطالما كشفت عن نقائصها فيما قصدت أن تنقد نقائص الغير
لا يهم ما حصل من استعراضات ومقابلات وبرامج ومناقشات وسجالات. فكل الناس الآن تدري أن “سخاؤها” هي الفاعل وليس الياء (في “يعجبني”). وكل الناس أصبح بوسعهم أن يخوضوا في غمار الفعل والفاعل والمفعول به، مما كان من الممكن أن يصنع إمتاعا وتحريضا يكشف عن جماليات هذه اللغة العملاقة التي نتحدث ونكتب بها، لولا أن أغراضا أخرى طغت على تلك الاستعراضات.
تستطيع ألا تصدق أن الإمتاع والتحريض هو ما كان المقصود من تلك “المشاغلة” التي أثارها بن تميم. لا توجد مشكلة. فهذا مما لا يُغير شيئا من حقيقة أن صاحب “الإسلام وتاريخ العرب” و”كتاب الشعر على الشعر” هو الذي أصاب إذ أخطأ، أو أخطأ لكي يُصيب. فانتهى الأمر بأن صوّب سهما فأصاب، بينما أخطأت سهام الآخرين، ولو أصابوا.
في رحاب الخطأ، فما من أحد لا يخطئ، إلا الله عز وجل. كتابه شاهد ودليل. ولكن حتى كتاب الله، فهناك فيه ما قد يوفر فرصة للمتصيدين بالماء العكر. كتعبير منهم عن ضحالة هذا الماء.
كيف تفسر قوله تعالى “إنْ هذان لساحران” (بحسب قراءة حفص) إذا جعلت الحرف الأول “إنّ” فتكون “إنّ هذان لساحران”؟ (بحسب قراءة ورش)؟
تستطيع من دون أدنى ريب، أن تذهب إلى تسجيلات الدكتور فاضل صالح السامرائي في برنامج “لمسات بيانية” الذي كانت تعرضه قناة الشارقة الإماراتية، وتنتشر حلقاته على “اليوتيوب”، لتعرف السحر والعجب في بلاغة القرآن، مما لا يحتاج من أحد المزيد من الإيضاح على ذلك اللغوي الجليل. ولكن الحقيقة هي أن هناك ماءً عكرا يمكن الخوض فيه لكل مَنْ يريد، حتى عندما يتصل الأمر بالقرآن الكريم، فما بالك إذا وجدت نفسك حائرا في قوله تعالى “ولا ينال عهدي الظالمين”. فـ”الظالمين” في ظاهر القول فاعل! بينما هي مفعول به، و”عهدي” هي “الفاعل وهو مرفوع بضمة مقدرة على آخره (الدال) منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة للياء وهي الكسرة، والمعنى من وراء الجملة هو: أن عهد الله لا ينال الظالمين، أي لا يشملهم”. أو كقولك (لا ينالُ المرءُ كلًّ ما يريد).
ما حصل في أثناء الخوض بماء عكر ليس موقع “سخاؤها” من الإعراب، وإنما موقع الدكتور بن تميم من برنامج “أمير الشعراء”، إذ أصبح التجريح في مكانته كناقد وكاتب ولغوي هو الإعراب المقصود. ونسينا ما ألّف وما كتب، وكأن الرجل جملة واحدة. وبما أن البرنامج شهير، فقد أتيح للماء العكر أن يُصبح شهيرا أيضا.
لم يقل المنشغلون بتلك الجملة إن الرجل أصاب أو أخطأ أو نظر في الاحتمالات التي يمكن أن يتيحها التعبير. أرادوا شيئا آخر، لا علاقة له لا بفاعل ولا بمفعول به. كما لا علاقة له بجماليات اللغة العربية نفسها، ولا ببحر السحر الذي تصدر عنه.
لقد كان بوسع الانشغال، بهذا السحر، أن ينتج معرفة أوسع باللغة، وامتنانا لا حدود له، بأننا خُلقنا على بيان لغة لا تضارعها لغة على وجه الأرض، لا في بلاغتها، ولا في قاموسها الفسيح، ولا في دلالات المعاني التي تجعل لكل ترادف محتمل فيها معنى جديدا. ولهذا السبب يتفق اللغويون على أنه لا ترادف في القرآن الكريم. فمتشابهاته ليست متشابهات.
ما من أحد لا يخطئ، إلا الله عز وجل. كتابه شاهد ودليل. ولكن حتى كتاب الله، فهناك فيه ما قد يوفر فرصة للمتصيدين بالماء العكر. كتعبير منهم عن ضحالة هذا الماء
شيء من طهارة المشاغل، كان يمكن أن يؤدي إلى خدمة المقصد الأبعد والأوفى خيرا في العلاقة بهذه اللغة.
إلا أن ذلك لم يكن هو المقصود من مشاغل الذباب. وقد كشفوا في حرصهم على تحويل الفاعل والمفعول إلى أداة تشهير وتجريح، عن حقيقة أنهم يبحثون عن نقائص، إنما لتكشف عن نقائصهم.
وهكذا، فمثلما أصبح الكثير من الشطار خبراء في علوم الفايروسات عندما تفشى وباء كورونا، فقد أصبح الجميع نحويين في سخاء “سخاؤها”.
لا يهم أننا نلحن باللغة منذ أبي الأسود الدؤلي. ولكن أصبحت لدينا قواعد نستعين بها، لنعرف الصواب. فنبتهج به، ونتخاصم فيه، فنعود إلى مرجع، فنستبين.
كان الخليفة الرابع علي بن أبي طالب هو الذي كلف أبي الأسود لكي يضع نظاما للقواعد، وأرشده إلى السبيل داعيا له أن ينحو به “هذا النحو”، فاكتسبت القواعد وسمها من كلمة “نحو” نفسها.
المناسبة التي فاتت، في خضم الخوض في الماء العكر، هي أن تلك القواعد تستحق أن يُحتفى بها، وأن ندقق فيها، وأن نتخاصم من حولها، فنستعين.
ولكن بن تميم خرج فائزا مرتين. الأولى، عندما أصبح أشهر مما كان، ليعرف الناس أن صاحب “السرد والظاهرة الدرامية” يستحق أن يُقرأ، فوق أن يُشاهد وهو يُجادل وينقد، من دون أن يزعم أنه يملك الحقيقة أو الصواب المطلقين.
والثانية، عندما أصبح النظر في الفاعل والمفعول موضوعا شعبيا، رغم أنف الماء العكر وذبابه وصغار المتصيدين.
سوى أن مجافاة الصواب الأخلاقي والإعلامي والسياسي ليست شيئا جديدا في بعض إعلام الماء العكر. تلك صنعة قائمة بذاتها. ولطالما كشفت عن نقائصها فيما قصدت أن تنقد نقائص الغير.