كريتر نت / صحتك النفسية
باختصار شديد، ودون أية مقدمات.. يوجد ثلاثة أشخاص مختلفين داخلك في هذه اللحظة التي أحادثك فيها الآن.. بكلمات أخرى.. جسدك يشبه الشقة المفروشة التي تحتوي على ثلاث حجرات منفصلة، كل حجرة منها يعيش فيها شخص مستقل.. له حياته وذكرياته وتصرفاته الخاصة به.. وفي كل موقف من مواقف حياتك، يمسك بزمام الأمور أحد هؤلاء الأشخاص، ويكون له الغلبة والسيطرة على الشخصين الآخرين.. وهكذا.
ذلك الشخص الذي تكون عليه وأنت في حفل، أو في حالة فرح، أو خلال رحلة مع أصحابك.. هو (الطفل) الخاص بك.. والذي يسكن داخلك منذ أيام طفولتك الأولى.. ويخرج ليعبر عن نفسه في أوقات اللعب والفرح والسعادة.. يتحرك بمرونة وليونة وحرية.. يفهم ويستوعب بهدوء دون تشنج أو توتر.. يتصرف بتلقائية وعفوية.. يلعب ويرقص ويسرح بخياله ويبدع بلا حدود.. يسمى هذا الشكل من طفلك الداخلي (حالة الأنا الطفلية) أو Child Ego State كما يطلق عليها دكتور ايرك بيرن مؤسس هذه النظرية النفسية المسماة بالتحليل المعاملاتي Transactional analysis.
تمثل هذه الحالة طفلاً حراً على سليقته، قبل أن يتكيف مع الظروف من حوله، والواقع المحيط به، وعوامل التربية وضغوط المجتمع وغيرها ليسمى وقتها (الطفل المذعن) أو (الطفل المتكيف) Adapted Child، وهو تلك النسخة من طفلك الداخلي التي قررت عند سن معينة أن تتنازل عن تلقائيتها وفطرتها وحريتها وحقها في الاعتراض والاختيار والقبول والرفض.. وتتحول إلى طفل لطيف (يسمع الكلام)، ولا يقول (لا)، ويجلس منحنياً مستكيناً بلا صوت ولا حركة.
هناك شكل ثالث لذلك الطفل الداخلي اسمه (الطفل المتمرد)، الذي يرفض الانصياع لأية قواعد أو قوانين.. ودائما في حالة صراع أو منافسة مع غيره.. عنيد وصعب الانقياد، وسريع الصد والرد.
هذا هو الساكن الأول (الطفل الداخلي).. الذي قد يكون حراً، وقد يكون مذعناً/متكيفاً، وقد يكون متمرداً.. وقد تتحول إلى أحدهم في بعض المواقف، وأعني هنا تحولاً نفسياً وحضوراً عقلياً وسلوكاً جسدياً حراً أو مذعناً أو متمرداً.
لنتعرف الآن على الساكن الداخلي الثاني.. واسمه (الوالد) أو (حالة الأنا الوالدية) Parent Ego State، وهو ذلك الأب (أو الأم) الذي يخرج من داخلك حينما تكون في موقف يستدعي الحنان والأبوة (أو الأمومة) وسعة الأفق.. موقف يحتاج إلى سماح وعطف وتفهم وعطاء.. حينما يكون مطلوباً أن تسمع وتسمح وتنصح وترشد.. وأن تشعر بمن أمامك وتراعيه وتساعده وتقدر احتياجاته.. تماماً كما يفعل الأب مع ابنه.
وكما أن للطفل الداخلي أكثر من صورة.. فهناك أيضاً للأب الداخلي أكثرمن صورة.. إما أن يكون كما وصفناه للتو ويسمى وقتها (الوالد الراعي)، أو أن يكون (والداً ناقداً)، وهو شخص قاس غاضب لا يرضى أبداً.. لا يكف عن النقد واللوم وإصدار الأوامر والتعليمات.. صارم وقاطع ومتسلط.. لا يسمع ولا يفهم ولا يمنح فرصاً مهما حدث.
ينبغي أن أؤكد أن كل شخصية أو حالة من تلك لها ما يميزها من طريقة في الكلام، ونبرة في الصوت، وأسلوب في الحركة والمشي والجلوس، وبعض الكلمات المعينة الخاصة بها، وتعبيرات وجه مختلفة، وطريقة في استقبال الأحداث والتعامل معها، وحتى بناء عصبي خاص في المخ، وكأنها شخص منفصل بذاته فعلاً.
فأنت حينما تكون في حالة (الطفل الحر).. تتحرك ببساطة، تستقبل بلا نقد أو أحكام، تفكر بمرونة دون تعقيدات، ويكون في كلامك كثير من العفوية والفكاهة والبهجة والمرح، وتعبر عن نفسك وعن مشاعرك بتلقائية دون تكلف.
وحينما تكون في حالة (الطفل المذعن/المتكيف) تكون هادئاً للغاية، منسحباً.. تسمع الكلام دون مناقشة ولا اعتراض.. تتحمل الإساءة والإهانة دون رد.. جلستك منحنية، صوتك منخفض.. ليس عندك استعداد للاختلاف أو الإبداع.. وتكون كلماتك من قبيل (لماذا يحدث معي ذلك دائماً؟).. (أنا دائماً سيئ الحظ).
وحينما تكون في حالة (الطفل المتمرد)، فإنك تكون متمرداً على كل وأي شيء.
أما لو كنت في حالة (الوالد الراعي)، فإنك تهتم كثيراً بمن حولك، وتستخدم تعبيرات مثل (أود مساعدتك).. (هذا في مصلحتك).. (أنا أعلم منك).. وهكذا.
ولو كنت في حالة (الوالد الناقد)، فإن كلامك تملؤه كلمات مثل (يجب)، (المفروض)، (اللازم).. وتستخدم إصبع (السبابة) كثيراً في وجه غيرك كتعبير عن القواعد الصارمة والغضب الشديد.
هناك حالة ثالثة وأخيرة تسكن داخلك وتخرج منك في مواقف أخرى.. اسمها (البالغ) أو (حالة الأنا الراشدة).. وتكون عليها في المواقف التي تستدعي التعقل ووزن الأمور والتعامل مع الحقائق والواقع بأقل قدر من المشاعر.. فتستطيع وقتها أن تتحكم في انفعالاتك وردود أفعالك دون تلقائية الطفل، ودون حنان أو قسوة الوالد.. تكون وقتها كالحاسب الآلي.. لا تعلم غير المنطق والحسابات والتجرد من العواطف حتى تصل إلى رأي أو تتخذ قراراً.. تكون محايداً، صريحاً، حكيماً، هادئاً، متزناً.. وتستخدم كلمات مثل (هذا رأيي)، (أعتقد كذا…)، (وجهة نظرس كذا..).
توجد هذه الشخصيات أو الحالات داخلنا منذ طفولتنا.. وكلنا رأينا الطفلة الصغيرة التي تتعامل (بكل أمومة) مع عروستها، أو الطفل الصغير الذي يعنف أخاه أو أخته ويرفع في وجههم سبابته كأنه والدهم الناقد، أو الطفل الآخر الذي يرتدي نظارة والده، ويلعب دور الحكيم المتفلسف صاحب المنطق والحجة.
غالباً أنت تسأل نفسك الآن: من أنا في كل هؤلاء؟
والإجابة هي أنك أنت (كل هؤلاء).. ولكنك تكون أحدهم في كل موقف من مواقف حياتك.. وهذا هو الطبيعي والصحيح نفسياً.. لكن لو خرج منك أحدهم في غير الموقف المناسب له، يكون وقتها مرض نفسي ووضع غير طبيعي ولا صحيح.
فلا يصح أن يخرج منك (الوالد الناقد) في حفل أو رحلة، ويستخدم لغة النقد واللوم و(يلزم كذا) و(يجب كذا).. ولا يصح أن تخرج منك حالة (الطفل الحر) في المحاضرة مثلاً، وتقوم بالتهريج والرقص والخروج عن المألوف.. ولا يصح كذلك أن تستخدم (حالة الأنا الراشدة) وأنت تلعب مع أطفالك، مستخدماً لغة المنطق والحقائق.
لكل مقام مقال.. ولكل موقف حالة مناسبة من (حالات الأنا).. وإلا فصعوبات شخصية، ومشاكل علاقاتية، وأعراض نفسية.