ترجمة: محمد الدخاخني
الكتابة عمل شاقّ. ويُنسَب إلى دوروثي باركر قولها: «الكتابة سهلة. فقط افتح وريداً ودعه ينزف».
يقضي معظم الكتّاب أيّامهم مستلقين على كرسي صلب أمام مكتب، محدّقين في شاشة أو آلة كاتبة. يمكن أن يتّسم ذلك بالعزلة والوحدة، وغالباً ما شَبّهتُ غُرَف الكتابة الخالية من النّوافذ الخاصّة بي بالسّجون.
لكن تخيّل أنّك مسجون، وأنّ مكتبك سجن حقيقي. سيكون من الصّعب أن تُبدع في مثل هذه الظّروف.
ومع ذلك، فإنّ الأعمال الأعظم تأتي غالباً من الهاوية. تأتي واحدة من أشهر المبادرات الأدبيّة في السّجون من أحد أكثر السّجون قسوةً في أمريكا، والذي يحدّه من ثلاث جهات نهر المسيسيبي. هناك، تعمل مجموعة من الصّحفيّين الفريدين على إصدار مجلة نصف شهريّة تسمّى «ذي أنغوليت».
كتب المحرّر السّابق، كيري مايرز، الذي عمل في المجلّة لما يقرب من 20 عاماً أثناء سجنه: «تأخذ [الكتابة] نكهة مختلفة إلى حدّ ما عندما يكون المكتب المعنيّ في أحشاء أكبر سجن مشدّد الحراسة في البلاد، «سجن ولاية لويزيانا» – المعروف باسم «أنغولا»».
سجن خشن وعنيف
ما يقرب من 76 في المائة من سجناء «أنغولا» يقضون عقوبة السّجن مدى الحياة. والواقع القاتم للحياة في الدّاخل خَشِن – «أنغولا» يشتهر بعنفه – وانفراديّ. في السّتينيّات من القرن العشرين، أُطلِق عليه «أكثر السّجون دمويّة في الجنوب» بسبب ارتفاع معدّلات الاعتداء به.
صورة
لكن بالنّسبة إلى مجموعة صغيرة من الرّجال المحظوظين – طاقم موظّفي «ذي أنغوليت» عبارة سبعة صحفيّين فقط مع تبديل نادر للموظّفين – تُعدّ كتابة صحيفة سجن فرصةً فريدةً للحصول على شيء قريب من الحرّيّة.
«ذي أنغوليت»، التي تأسّست كصحيفة صغيرة في عام 1953، لديها قاعدة مشتركين يدفعون اشتراكاً فعلياً تتراوح بين ألف وألف وخمسمائة نزيل.
*أتمنّى لو أنّ أقسى أنظمة السّجون في الولايات المتّحدة قد درست العدالة التّحويليّة كبديل للعدالة الجنائيّة. أتمنّى لو لم يمت جورج إل جاكسون في السّجن*
كتب مايرز: «جعلت الوظيفة من أيّام، وشهور، وأعوام لا نهاية لها شيئاً غير عادي أو روتيني في مكان يصيب فيه الرّوتين الحياة اليوميّة مثل العدوى».
الكلمات، والموسيقى، والتّعليم – هذه هي الأشياء التي يمكن أن تحوّل العدالة القاسية. في الأسبوع الماضي، أعلن النّاشر الفرنسيّ الشّهير «غونكور»، عن فرعٍ لجائزته الأدبيّة السّنويّة التي فاز بها بعض أعظم الكتّاب الفرنسيّين. تُمنح الجائزة التي ترعاها الحكومة، «غونكور السّجناء»، من قِبل لجنة تحكيم فريدة – حيث جميع الأعضاء من السّجناء. وقد شارك قرابة خمسمائة شخص في 31 سجناً في قراءة ومراجعة الكتب واختيار الفائز أخيراً.
سُلطة الكلمات
وزير العدل الفرنسيّ، إريك دوبوند موريتي، عبّر عن ذلك بشكل جميل عندما تحدّث عن سُلطة الكلمات: «حيثما تتقدّم الثّقافة، واللغة، والكلمات، يتراجع العنف. يجب أن يكون الوقت في السّجن وقتاً للعقاب، ولكن، أيضاً، للتّحوّل».
الجائزة هي محاولة لوقف العزلة والبؤس اللذين يشعر بهما العديد من السّجناء، الذين يواجهون سنوات خلف القضبان. كما خاضت فرنسا تجارب في السّجون تنطوي على مطاعم، ومسابقات سيّارات «الكارت»، و«موسيقى الرّاب».
*وزير العدل الفرنسيّ تحدّث عن سُلطة الكلمات: حيثما تتقدّم الثّقافة، واللغة، والكلمات، يتراجع العنف. يجب أن يكون الوقت في السّجن وقتاً للعقاب، ولكن، أيضاً، للتّحوّل*
يعود تقليد الكتابة في السّجن إلى زمن ماركو بولو عندما كان مسجوناً في سجن في جنوة. وقد كتب مارتن لوثر من السّجن، وكذلك فعل ثيربانتس، وأوسكار وايلد (الذي كتب الرسالة الجميلة «من أعمال البلوى» إلى عشيقه الذي خانه)، وجان جينيه، والسّير والتر رالي. وتقع رواية فيودور دوستويفسكي شبه الذّاتيّة «بيت الموتى» في معسكر اعتقال في سيبيريا، وتقع أوبرا بيتهوفن «فيديليو» في سجن بائس في القرن الثّامن عشر. هناك العديد من الكتب الأدبيّة الرّائعة الموجودة في مثل هذه الأماكن.
بعد فترة وجيزة من قراءتي لسرد ألكسندر سولجينتسين البارع عن سجون العمل القسري في زمن ستالين، «أرخبيل الغولاغ»، أعطاني أحدهم نسخةً من كتاب جورج إل جاكسون «شقيق سوليداد». ذاك الكتاب غيّر حياتي.
«دم في عيني»
قبل وفاته المبكّرة في السّجن، خطّ جاكسون كتابين استثنائيين، «شقيق سوليداد» و«دم في عيني». انتهى من الأخير في آب (أغسطس) 1971، قبل أيّام فقط من مقتله على يد حراس «سجن ولاية سان كوينتين» سيئ السّمعة أثناء محاولته الهرب. كما قُتل شقيقه الأصغر، جوناثان، في السّجن قبل عام من وفاته.
قصّة جورج جاكسون تحدث كثيراً. أُدين جاكسون في سن الثّامنة عشرة، في عام 1961، بسرقة 70 دولاراً من محطّة بنزين. أمضى أحد عشر عاماً – بقيّة حياته القصيرة – في السّجن. سبعة منها كانت في الحبس الانفراديّ.
غير أنّ السّجن غيّر حياة جاكسون. كتب: «لن يعدّوني أبداً بين الرّجال المكسورين». في وحدته، قرأ جاكسون الماركسيّة ودرسها، وأصبح عضواً في حركة «الفهود السّود»، وأعلن نفسه «ثورياً» وقُرِئت كتبه على نطاق واسع وبُجّلت. قرأتُ جاكسون لأوّل مرّة عندما كنت في نفس عمره عندما ذهب إلى السّجن. أتذكّر أنّني كنت أفكر: لو لم يكن جاكسون أسوداً وفقيراً، فما مدى الاختلاف الذي كان سيُتلقّى به هذا الكتاب المذهل. على الرغم من ذلك، أصبح «شقيق سوليداد» كتاباً كلاسيكياً له شعبية هائلة.
قال مايرز إنّه اختار موظّفيه بسبب «شخصيّتهم». كتب هؤلاء الرّجال عن مواضيع من بينها الاتّجار في السّجون، وعقوبة الإعدام، والتّكلفة المجتمعيّة للحبس الجماعيّ. تشمل صحف السّجون الأمريكيّة الأخرى «دانفيل فانغارد»، و«هورون فالي مونيتور»، و«جوينت إندوفر» وغيرها. تستحقّ هذه الصّحف أن تكون قائمة بذاتها – ليس فقط كصحافة سجون. ولكن كصحافة عظيمة.
لا أخفي آرائي حول السّجن في أمريكا، حيث أعتقد أنّ نظام السّجون عنصريّ، وكاره للنّساء، وغير عادل. وأعتقد أنّ معظم أولئك الذين يستطيعون تحمّل تكلفة المحامين يتجنّبون السّجن أو يحصلون على أحكام أخفّ، ويُرسلون إلى «سجون مريحة». غالباً ما يذهب أولئك الذين يتعيّن عليهم الانخراط في «مفاوضات الالتماس» إلى السّجن أبرياء لأنّهم فقراء. هؤلاء عادةً ما يكونون شبّاناً ملوّنين، غير بيض، لا يستطيعون تحمّل تكاليف المحامين.
أتمنّى لو تمكّن السّجناء من دراسة الأدب، أو كتابة القصائد، أو تأليف «موسيقى الرّاب» خارج قضبان السّجن. أتمنّى لو كان هناك نظام قضائيّ لائق، وصادق، وفعّال. أتمنّى لو أنّ أقسى أنظمة السّجون في الولايات المتّحدة قد درست العدالة التّحويليّة كبديل للعدالة الجنائيّة. أتمنّى لو لم يمت جورج إل جاكسون في السّجن. أتمنّى لو عاش وأصبح رجلاً هَرِماً يكتب المزيد من الأعمال الاستثنائيّة.
لكن حتى ذلك الحين، تُعدّ مبادرات مثل «غونكور السّجناء» بداية جيّدة.
مصدر الترجمة عن الإنجليزية:
جانين دي جيوفاني، ذي ناشونال، 4 كانون الثّاني (يناير) 2023
المصدر حفريات