مانويل آر توريس
يطرح عنوانُ هذا الكتاب أحدَ الأسئلة الجوهرية في دراسات الإرهاب. كما الأمرُ في القضايا الرئيسة في العلوم الاجتماعية، هناك إجابات عدّة ممكنة -أحيانًا متناقضة- وكل منها يحفل بتفاصيلَ دقيقةٍ. وفي هذا الصدد، نشر دييجو مورو، بروفيسور العلاقات الدولية في جامعة سان أندرو، عملًا أكاديميًا ممتازًا، يسعى لتسليطِ الضوء على نقاشٍ معقد، له تأثيراتٌ عميقة على منع العنف الذي يمارسه الإرهابيون ومكافحته.
يتناول الكتابُ، بالتفصيل، الجوانبَ النظرية المختلفة لفاعلية الإرهاب، ويمكن تقسيم الآراء إلى فريقين رئيسيين: هؤلاء الذين يعتقدون أن الإرهاب ينجح في تحقيق الغرض منه، وهؤلاء الذين يرون عكسَ ذلك.
أولئك الذين يرون أن الإرهابَ ينجح في مسعاه يشيرون إلى مجرد وجود الإرهاب عبر الزمن كونه في حد ذاته الدليل القاطع على أنه استراتيجية مفيدة لأصحابها. إذ ليس هناك طرف فاعل يواصل اللجوء إلى أسلوبٍ مصيره الفشل، هكذا يرى أصحاب هذا الرأي. وبالفعل، تُظهر قواعد بيانات الأنشطة الإرهابية، عبر العالم، أن استخدام الإرهاب لدعم قضية سياسية قد ازداد في الخمسين عامًا الماضية.
على النقيضِ من ذلك، هناك فريقٌ ثان -يميل إلى الاعتماد على الدراسات التجريبية- يرى أننا إذا نظرنا إلى عدد الجماعات التي حققت أهدافها النهائية، سنجد أن نسبةً ضئيلة فقط من الجماعات الإرهابية كافة، التي وُجدت عبر التاريخ، قد نجحت في هذا المسعى. وبالتالي، وعلى الرغم من أن الإرهاب قد يستطيع في بعض الأحيان تحقيق نجاحاتٍ تكتيكية، فإنه يظل خيارًا يرتبطُ إلى حدّ كبيرٍ بالفشل السياسي.
ذلك أن مثلَ هؤلاء الباحثين يرون أن معدل نجاح حالات التمرد واسعة النطاق، وحتى المقاومة المدنية غير العنيفة، أكبر من الإرهاب.
إحدى السمات الشائقة في هذا النقاش، هو أن الأفكار القوية التي يستند إليها الفريقان يمكن أن تكون مقنعة بالقدر ذاته، وهذا يُذكّرنا بأهمية التفاصيل. ومن مزايا هذا الكتاب أنه يقدِّم تعريفاتٍ حاسمة للمفاهيم التي نستخدمها لتفسير الواقع. على سبيل المثال، يمكن أن تتغير استنتاجاتُنا بشأن جدوى الإرهاب بشكل جذري، اعتمادًا على تعريفنا لمصطلحات مثل “الفاعلية” و”النجاح”.
العنف السياسي فوضوي، ومتعدد الأوجه، وليس من الممكن دائمًا تفسير الواقع بأسلوبٍ واضح وحاسم، كالأبيض والأسود. ويمكن أن تتغير الاستنتاجات التي نتوصل إليها، أيضًا؛ وفقًا للطريقة التي نُعرّف بها الأهداف التي تسعى الجماعات الإرهابية إلى تحقيقها. ولا يكفي التمييزُ بين الأهداف التكتيكية والاستراتيجية فقط، بل الأمور الأخرى الجوهرية التي تضفي معنى على سلوك هؤلاء الأفراد: أهداف الفرد، مقابل أهداف المنظمة، والقائد، مقابل الأعضاء العاديين.. إلخ.
يُقيِّم هذا الكتابُ مزايا ومثالب اختيار الإرهابيين للعنف للحصول على تنازلاتٍ سياسية من حيث المنظور النظري، ودراسات الحالة. ومع أخذِ هذا الهدف في الحسبان، يجمعُ هذا الكتاب كوكبةً متميزة من الباحثين الذين يتناولون الملامح الرئيسة في هذا النقاش، علاوة على دراسات الحالة المهمة: الجزائر، فرنسا، السلفادور، إسبانيا، المملكة المتحدة، أوروجواي، والصحراء الغربية.
يقدِّم الفصلُ الختامي، في هذا الكتاب، الاستنتاجات التي تجمع الأفكار الرئيسة في هذا العمل. وبشكلٍ عام، يرى الكتاب أن الحلَّ الجزئي لهذا النقاش يكمن في منظور الإرهابي. الممارسون للعنف يعتقدون أن المكاسب تفوق التكاليف، ومن ثم يرون أن هذا التكتيك أفضل من البدائل الأخرى المتاحة. هذا المنظور غير الموضوعي يساعدنا على فهم الأسباب التي تجعل الإرهاب يبدو بهذه الجاذبية للأطراف التي تسعى لإشاعة المظالم، والتواصل مع الجمهور المناسب، وإثارة ردود الفعل المضادة من قبل الخصوم، بما يسهم في تعزيز خطابات الجماعات الإرهابية، الأمر الذي يوضح أيضًا كيف يتم استخدام الإرهاب كأداة لمساعدة المنظمات على الاستمرار.
الغرض من هذا الكتاب، هو تقديم مساهمة مهمة للنقاش النظري الذي يبدو أنه لن يُغلق قريبًا.
أحدُ الإسهامات الأكثر قيمة هي توضيح العراقيل التي تحول دون التوصلِ إلى اتفاق. وفي هذا الصدد، يقول البروفيسور مورو: “يُعزى غيابُ الاتفاق إلى سلسلة من العراقيل ذات الطابع المنهجي: 1) تعريف الإرهاب، 2) قياس الفاعلية، و3) تمثيل العينات المستخدمة”.
يُذكّرنا هذا الكتاب، بشكلٍ موفق، أن غالبيةَ دراسات الإرهاب يشوبها نوع من التحيز في الاختيار.
أحدُ أمثلة التحيز في الاختيار هو استخدام دراساتٍ لجماعات إرهابية توجد حولها أدلة تجريبية كثيرة – لا سيما الجيش الجمهوري الأيرلندي، ومنظمة إيتا التي تطالب بانفصال إقليم الباسك، وتنظيم القاعدة، وتنظيم داعش- ومن ثم، يتم تمثيل هذه الجماعات بشكلٍ مفرط في الأدبيات الأكاديمية ذات الصلة. وهذا ينطوي على مجازفة تتمثل في المبالغة في أهميتها واستقراء تعميمات من نتائج حالات قليلة مألوفة يصعب وجود أي أوجه تشابه بينها وبين جماعات أخرى قيد الدراسة.
الاعتداد العرقي مسألة أخرى تتعلق بتحيز الاختيار وتؤثر تأثيرًا عميقًا على البحوث المتعلقة بالعنف الذي يمارسه الإرهابيون. وإضافة إلى التحيزات الثقافية، يميل الباحثون إلى إيلاء مزيدٍ من الاهتمام للحالات ذات الصلة بالوطن نظرًا للقضايا اللغوية، وسهولة الوصول إلى البيانات.
وتؤثر هذه المشكلة حتى على البحوث التي تركز على الناحية الكمية، التي تستند عادة إلى قواعد البيانات التي تميل إلى الإفراط في تمثيل الحوادث في الديمقراطيات المتقدمة في حين لا تقدم تقارير كافية بشأن الهجمات التي تقع في أجزاء أخرى من العالم؛ لأنها تعتمد في الغالب علي الحوادث التي توردها وسائل الإعلام الغربية.
وتتفاقم هذه المشكلة نتيجة الحوافز المقدمة للبحوث الأكاديمية. إذ يركز الأكاديميون، عمومًا، على الجماعات الإرهابية النشطة، مع إيلاء اهتمام أقل بالجماعات التي يتم حلها أو غير النشيطة، ربما كطريقة لإظهار أهمية عملهم.
ورغم أن الكتابَ لا يتناول الدراسات المتعلقة بالإرهاب الجهادي بشكل خاص، فمن الواضح أن استنتاجاته تساعدنا على التفكير في كيفية تحليل هذا التهديد. لقد أدى الافتقار إلى الواقعية حول المفاهيم الرئيسية إلى وجود وجهات نظر متناقضة تمامًا حول ما إذا كانت مجموعات مثل داعش أو القاعدة تحقق نجاحًا في مساعيها. الاعتداد بالأعراق يجعل المعيارَ الذي نستخدمه لقياس قوة وخطر هذه التنظيمات هو عدد وحجم الهجمات التي تقع في الغرب، وهذا يقود إلى قراءةٍ خاطئة إلى ما تحاولُ هذه التنظيماتُ القيامَ به فعلًا، ويهمل معظم المجالات التي تعمل فيها بالفعل.
لقد تشوهت طريقةُ فهمنا لخطاب هذه التنظيمات وأولوياتها أكثر بسبب عوامل اصطلاحية. ولعل المثال الأكثر وضوحًا هو الإفراط في الاهتمام بمجلة “دابق/رومية”؛ المجلة التي يصدرها تنظيم داعش باللغة الإنجليزية. ورغم أنه تم فحص هذه المجلة الدعائية، وتحليلها، بدقة من جوانبها كافة، في عشرات المقالات الأكاديمية، فلا يمكن قول الشيء ذاته على منشورات التنظيم الصادرة باللغة العربية، التي لا تمثل القسم الأكبر من الأنشطة الإعلامية للتنظيم فحسب، بل المصدر الأهم لفهم هذا التنظيم.
خلاصة القول، كتاب “متى ينجح الإرهاب؟” ليس مساهمة قيّمة للأدبيات الأكاديمية فحسب، بل يُوصى به لأي قارئ مهتم بهذا المجال. لا يدّعي الكتابُ حلَّ الأسئلة العويصة عبر بيانات بسيطة وقاطعة، وسيتمكن القارئُ -عبر صفحاته- من تقييم شتى الأفكار السائدة؛ بشأن أحد أهم القضايا الرئيسة في عصرنا هذا.
نقلاً عن “عين أوروبية على التطرف”